سيد علي كويرات.. فنان مغاربي حالم
لا يمكن أن أنسى وَجْهَ الفنان الراحل سيد علي كويرات، فمنذ أن استمتعت بأدائه في فيلم “وقائع سنين الجمر” (1974) للمخرج محمد الأخضر حمينه أثارتني تلك السحنة المغاربية التي تجذب المتفرج إليها منذ اللحظة الأولى خاصة وأن نظرته كانت تتجه نحو أُفُقِ رُؤْيَةٍ عفوي ينسجم مع حركاته، ولا يُظْهِرُ أدنى تَصَنُّعٍ تمثيلي من خلال بعض الإيماءات أو الإشارات الزائدة عما يتطلبه التفاعل المُقْنِعُ مع ما يؤديه فضلا عن الحرص الدفين على تَسَاوُق مع غيره أثناء المَشَاهِدِ الثنائية أو الجماعية.. وتلك خصيصات لا يعيها إلا المتمرسون على فنون التمثيل، والعارفين بأبعادها النفسية والاجتماعية، والمدركين لانْبِنَائِهَا على التلاؤم وقيمة التنسيق الجماعي في التمتع بها والإمتاع بواسطتها.. وهذا ما فهمه سيد علي كويرات فتعاون ونجح.
كان الراحل ممثلا شاملا سَخَّرَ طاقاته الإبداعية للمسرح والسينما والتلفزيون كأي فنان ملتزم بالانخراط الكلي في التمثيل كفن غير قابل للانشطار خاصة وأن الفترة التي بدا يشتغل فيها كانت تنتظر منه ومن أمثاله وضع اللبنات الأساسية لمدرسة وطنية ومغاربية تتخلص من سنوات الحجر والاستعمار والتبعية المطلقة.. ومن هنا كان الاشتغال على واجهات متعددة التزاما لا مفر منه لأبناء جيله رغم أن كل تخصص يغذي الآخر ويجعل الممثل النبيه يدرك الفروق المفصلية بين السياقات.. وهذا ما أدركه سيد علي كويرات فأعطى وأبدع.
تَمَكَّن الراحل من إدراك كُنْهِ مهنته؛ إذ وَصَلَ أثناء أدائه إلى الفصل بين الذات المُمَثِّلَةِ وذاته الشخصية مما قاده إلى تقمص شخصيات مختلفة رَسَّخَت اسمه كواحد من أهم الممثلين المغاربيين والعرب والأفارقة.. لقد كان يعرف كيف ومتى يُسَخِّرُ طاقاته الجسدية والنفسية والحركية والصوتية وفق الوضعيات التقنية والنوعية الخاصة بالفنون الأدائية والبصرية.. لقد استطاع أن يكون مقتصدا حين يتطلب الأمر ذلك خاصة وأن فن التمثيل ينبني على اقتصاد الطاقة والتحكم فيها، والقدرة على استدعاء الكامن منها في الوقت المناسب.. وفي هذا أنفق واقتصد.
اختلفت أدواره السينمائية بشكل متميز، فهو الشخص الذي انشطرت شخصياته، وتوزعت روحه عبر أفلامٍ بَصَمَت تاريخ السينما الجزائرية رغم قلتها، ونذكر منها: “الأفيون والعصا” (1971) لأحمد راشدي، و”هروب حسان طيرو” (1974)، و”عودة الإبن الضال” (1976) ليوسف شاهين، و”الضحايا” (1982)، و”المفتش لوب” (2012).. وهي أعمال مختلفة أبرزت عطاءَ هذا الفنان الذي لم يكرر نفسه فيها خاصة وأنه كان يتقن التحكم في حركاته بالاعتماد على ملامحه الفيزيولوجية المُسَاعِدَةِ، والخبرة الوافرة التي أحسن بسخاء حسب الأدوار التي أُسْنِدَت له.. وفي هذا أفاد وأغنى.
التقيته في إحدى دورات الفنك الذهبي فتدفقت روحه المغاربية حين عَلِم بأنني مغربي ولم يتوقف عن سرد ذكرياته مع رفاقه وأصدقائه من الفنانين المغاربة.. ولم تستطع دَوَاخِلُهُ كَتْمَ أحلامه المُحَلِّقَة، المرهفة، الصافية، المتطلعة إلى أفق فني تتجاسر فيه جهود الفنانين لإمتاع الإنسان المغاربي وتزويده بالشحنات الإنسانية التي ترقى به نحو الأفضل، وتُبعده عن الانكسار، وترفعه نحو الحلم والإبداع.. وتلك رسالته التي تفصح عنها ابتسامته الطفولية وبريق عينيه الأبوي.
تختلف قامات الممثلين إلا أن ذوي البنية الجسمانية الخاصة يستميلون المخرجين والجمهور معا، ولكن ذوي المواهب يكسرون كل القواعد والاتفاقات التي ألفها أصحاب الشركات المتخصصة في انتقاء الممثلين واكتشافهم، فهم يتجاوزون مقولاتهم دونما اكتراث بقصر القامة أو طولها التي تكون عائقا في بعض الحالات أثناء تأطير الممثل الطويل مع زميله القصير. لم يكن سيد علي كويرات مباليا بما يمكن أن نلاحظه من تمايز على هذا المستوى لأنه كان سخيا في عطائه، مركزا على التماهي مع شخوصه، متطلعا إلى ما يدور في فلك المشهد الذي يندمج فيه بكل أحاسيسه، وهو الأمر الذي أثار المخرج يوسف شاهين للاستفادة من مهاراته التي وظفها في فيلميه “عودة الإبن الضال” (1976) و”المهاجر” (1994) ليربط المشرق بالمغرب فنيا، وهو التعاون الذي ظل غائبا بينهما بشكل عام رغم تصاعد الطلب بشأن تفعيله، والاستفادة من تبادل وجهات النظر الفنية التي تفتح أبواب المعرفة القريبة بالمجتمعات المغاربية والمشرقية لأن الكثير من سوء الفهم والأحكام المغلوطة والمسبقة يمكن للفن أن يمحوها دون أن تتسبب في بعض التوترات التي تحصل من حين لآخر، ويوظفها الإعلام بشكل سلبي.
يظهر من نظرته التي لا تواجه ما أمامها بشكل مباشرة مدى تخلصه من ثقل التوجيهات الإخراجية والوضعيات التقنية بعد هضمها وتحويلها إلى حالة تسعف في الوصل إلى عمق ما يرغب في إيصاله إلى الناس. إن الممثل البارع من يستطيع تجاوز الحالة التمثيلية إلى الحالة الإنسانية، وقد وصل إلى ذلك الراحل سيد علي كويرات في أكثر من مشهد سينمائي وموقف مسرحي، فمن منا يستطيع أن يكون خارج سياق دوره الراسخ في فيلم “وقائع سنوات الجمر” الذي لا ينفصل عن النضال ضد التركة الاستعمارية وتحرر الشعوب.
إذا ما تأملنا وجه الراحل سيد علي كويرات فإننا نلاحظ أن قسماته وتموضع أنفه بشكل يهيمن – عَرْضِيًا – على ملامح وجهه تمنحان الرجل قوة وجاذبية خاصة تُسَهِّلُ التعبير والتواصل عبر الملامح التي تسمح بإضاءته وتزيينه (استعمال الماكياج أو المؤثرات) بشكل درامي ملائم للشخصيات التي جَسَّدَهَا فضلا عن تأثيرها في المتلقي الذي يحس بقوة صادرة من الشاشة تجاهه..
هكذا كان ممثلا يرسل طاقته تجاه المتفرج فيأسره، ويشده إلى الموضوع. لقد كان حضوره فاعلا في الفرجة الجزائرية والمغاربية والعربية والدولية، ولم يكن ذلك الحضور متهافتا، بل بانيا ومتأنيا ينم عن نَفْسٍ أَبِيَّةٍ تسعى لمعانقة الجمال في شتى أبعاده الإنسانية لأن فن التمثيل يتأسس على سمو النفس واستعدادها الكلي لتقاسم أحاسيسها مع الناس لأن ما تحس به ليس ملكا لها، وإنما تسخر كيانها لنقله إلى الآخرين، فالممثل لا يكون الشخصية التي يتقمصها، وإنما يمنح نفسه لها إلى درجة تجعله ينفصل عن ذاته.. وتلك مهمة الممثل التي أراد الراحل سيد علي كويرات أن يكرس مساره لها ليضارع منجز كبار الممثلين المغاربيين من أمثال مواطنه سيد أحمد أگومي والمغربي الراحل حميدو بنمسعود والتونسي هشام رستم وغيرهم ممن يعي حجم الرسالة المنوطة به في زمن تتصادم فيه الصور وتتزاحم فيه النماذج.