” سارقو الدراجة” استعادة لفيلم عظيم
عندما طلبت منى إدارة بانوراما الفيلم الأوربى 2019 أن أختار فيلما أوروبيا لتقديمه ومناقشته مع الجمهور، لم أتردد فى اختيار الفيلم الإيطالى الشهير “سارقو الدراجة” للمخرج فيتوريو دي سيكا.
وعندما شاهدت الفيلم بعد سنوات طويلة مع جمهور البانوراما، لم أفقد ذرة إعجاب واحدة من مشاهدتى الأولى له، وكم أسعدنى أيضا هذا التصفيق الحاد من جمهور 2019، لفيلم أنتج فى العام 1948، ومازال يعتبر من أفضل ما أنتجت السينما الروائية فى تاريخها كله، وهو مأخوذ عن رواية صدرت بنفس الاسم “سارقو الدراجة” فى العام 1946 للكاتب والروائى والشاعر لويجى بارتولينى.
ربح فيتوريو دى سيكا وشريك إبداعه كاتب السيناريو الفذ سيزار زافاتينى الرهان، لم يستسهلا أبدا، بل إن الجهد المبذول فى التصوير فى الشوارع، وفى الإستعانة بممثيلن غير محترفين، وفى منح البطولة لشخصيات هامشية لا يراها أحد، كل ذلك ما زال نابضا بالحياة على شريط الفيلم، وما زال أيضا مؤثرا وملهما.
الفيلم من عيون تيار الواقعية الجديدة فى إيطاليا، هذا التيار الذي يؤثر حتى اليوم فى السينما المعاصرة، ولو شاهدت أفلاما حديثة مثل “كفر ناحوم” للمخرجة نادين لبكى، أو فيلم “يوم الدين” للمخرج ابو بكر شوقى، فستجد أعمدة الواقعية حاضرة: تصوير فى الشوارع، وممثلين غير محترفين، وشخصيات هامشية فى مواقف إنسانية قوية.
“سارقو الدراجة” نجح فى تحويل الخاص الى عام، ونجح فى أن يجمع بين التاثير العاطفى، والتأمل والعمق، بساطة مدهشة، ومعنى خطير، وهل يمكن أن تصلح حادثة سرقة دراجة تترفع الصحف عن نشرها لكي تكون موضوعا لفيلم؟
نعم يمكن أن تصلح إذا تم تطوير الفكرة الى معالجة ناضجة، إنها ليست دراجة عادية، ولكنها كانت شرطا لحصول رجل عاطل على عمله فى لصق أفيشات الأفلام، وهو لم يحصل على الدراجة إلا بأموال حصلت عليها زوجته من رهن لفرش سريرهما، فإذا سرقت الدراجة، فكأنك بالضبط قد سرقت الحلم والعمل معا، سيفقد الرجل وظيفته، وفى هذه الحالة لن تجد الأسرة دخلا سوى راتب الابن الطفل برونو، الذي يعمل في محطة بنزين.
الأكثر من ذلك، فإن المعالجة توسع دائرة الرؤية كثيرا، حيث تتحول رحلة الرجل وابنه للبحث عن سارق الدراجة، الى تعرية شاملة لظروف المجتمع الإيطالى البائسة بعد الحرب العالمية الثانية: عاطلون عن العمل، ومشردون تطعمهم الكنائس، وطوابير على ركوب الأوتوبيسات، حتى الشاب الذي سرق الدراجة يبدو أيضا مهمشا وفقيرا، ولا يمكن أن تثبت عليه أى تهمة.
الآن سيقرر الرجل الذي سرقت دراجته في لحظة غضب أن يسرق دراجة، لسوء حظه يمسكون به، ينهالون عليه بالصفعات، ولا تنقذه إلا دموع ابنه برونو، يمسك لأب بيد ابنه، تظهر الدموع فى عين الأب، يذوبان معا وسط الزحام، أما السائرون فقد صاروا أشباحا سوداء فى روما الحزينة.
نهاية شهيرة مؤثرة ومفتوحة وغير مريحة أبدا، ما الذي سيفعله الرجل وابنه فى صباح اليوم التالى الذي لم نره؟ كيف ستسترد الزوجة فراشها المرهون؟ هل سيبحث الأب عن وظيفة جديدة لا تشترط وجود دراجة؟ أم تراه سيفكر فى طريقة أكثر ذكاء واحترافا لسرقة دراجة؟
هنا فقط يتكشّف لنا معنى اسم الفيلم الماكر، خلال ساعة ونصف فقط شاهدنا سارقين يسرقان الدراجات وليس سارقا واحدا: بطل الفيلم قام شاب بسرقة دراجته، ولكن بطل الفيلم نفسه تحول الى سارق، وباب السرقة مفتوح، بمعنى أن الشاب الذي سرق الدراجة، لا يمكن أن يأمن بأن يوجد سارق جديد يمكن أن يسلبه دراجته التى سرقها.
دائرة جهنمية مفزعة، وفقراء يسرقون فقراء، وظروف تفرز لصوصا بعدد الدراجات، المشكلة إذن ليست فى السرقة، وإنما فى الظروف، وإذا كنا قد شاهدنا كيف تحول المسروق الى سارق فى لحظة غضب وضعف، فيمكننا بالمثل أن نتخيل كيف تحول الشاب سارق الدراجة الى سارق، بعد ن شاهدنا بيته الفقير، وأسرته التى تعيش فى حجرة، وجيرانه التعساء الذين يدافعون عنه، لعله رهن أغراضه أيضا، ولعلها وضعت أيضا بجوار أغراض بطل الفيلم.
هكذا تحولت سرقة دراجة الى شهادة على عصر وزمن، ووثيقة على إيطاليا المهزومة، استعادة الدراجة لن يحل شيئا، فطالما استمرت تلك الظروف، ستسرق الدراجة من جديد، بل قد تسرق أشياء أخرى أكبر وأثمن.
هذا الفيلم الفذ يقدم لكتاب الدراما دروسا عابرة للأجيال: اكتب عما تعرف، كل ما تقع عليه عينك يمكن أن يصنع درامأ بشرط أن تراه من زاوية جديدة، وبشرط تطوير البذرة الى معالجة، تنطلق بنا من الخاص الى العام، ثم إن عليك دوما أن تصنع ملفا لكل شخصية، نحن نرى الشخصيات لمدة ساعة ونصف فقط، ولكن عليك أن تصنع لهم تاريخا افتراضيا قبل حكايتك، لا شئ أهم من تأمل الإنسان وتناقضاته، فقط انظر بعمق ولا تستسهل.
وهذه الوصفة مازالت قوية حتى اليوم، السينما العظيمة ليست مجرد تكنينك أجوف، إنها تأثير عاطفى وعقلى يوظف التكنيك، بناء ماكر، وتنفيذ متقن، جعل من بطل الفيلم لا مبيرتو ما جيورانى، وهو عامل فى مصنع، ممثلا مدهشا فى دور الأب أنطونيو ريتشى، وكذلك الطفل الموهوب إينزو ستايولا الذي لعب دور الابن برونو ريتشى.
هذا الطفل الصغير الذي يمثل المستقبل لن ينسى أبدا ما حدث لأبيه، ولن يغفر للمدينة أنها صارت غابة، الخطير ليس ما رأيناه، ولكن ما يمكن أن نتخيل أن يحدث، إذا اختار برونو الصغير أن يعامل روما بما تستحق ف تلك الظروف، الخطير أن يصبح المستقبل أسير تلك الأيام السوداء، ةأن يقع بين مطرقة محل الرهونات، وسندان أن تسرق أنت قبل أن يسرقوك، أو ردا على سرقتك.
ثم إن الرجل البائس الذي يعلق أفيشا عليه صورة ريتا هيوارث فى شوارع المدينة، صار هو وابنه نجوما على أفيش لفيلم عظيم اسمه “سارقو الدراجة”، وكأن السينما تعوض الفقراء بجعلهم أبطالا على الشاشة والأفيش، بعد ظلوا دائما على هامش الواقع.