سارة سيكو والوهم التعيس في فيلم “أطفالنا”
في منتصف الثلاثينات تسير الممثلة والمخرجة الجميلة “سارة سيكو”Sarah Suco خطوات في غاية التنوع والأهمية في السينما الفرنسية. إذ بدأ حضورها أمام الكاميرا في 2009 عبر مجموعة من الأفلام القصيرة مثل “الوجوه” من إخراج لويس جوليان، “لعبة الفتاة” لجيل غيراز و”600 ناموسة في الساعة”، “أبطالي” لـ”إيريك بيسنار” و”نصف أخت” لـ”تو موش” ومجموعة أخرى من المسلسلات التلفزيونية وصولا إلى فيلمها “الغير مرئيين” للويس جوليان في 2018 لتبلغ مشاركاتها كممثلة خلال هذه الفترة نحو 22 عملا لتقوم بتجربة الوقوف “خلف الكاميرا” كمخرجة.
قدمت سيكو فيلمها القصير “أطفالنا” Nos enfants بمشاركة الممثلة أليكس بواسون والممثل يانيك شوارات مع أليس دو كينكيسينغ. الفيلم مأخوذ من نص مسرحي لجويل بوميرات كانت قد نشرتها دار “آكت سيد” الباريسية وتم تقديمها كعرض في فرنسا قبل أن تختارها سيكو للسينما.
هذا النوع من الأفلام، يشبه كثيرا الفيديو كليب حيث تكون الفكرة مكثفة إلى أبعد حد، وحيث عمليات التصوير وأماكن والشخصيات تكون في الغالب محدودة ولا تتطلب وقتا طويلا. في “أطفالنا” يعود الرجل (يانيك شوارات) وزوجته (أليكس بواسون) إلى بيتهما بعدما أمضيا في الخارج وقتا جيدا، تحسّ “المربية” التي كانت واقفة في المطبخ بقدومهما عندما يفتحان الباب فتأخذ حقيبتها وتود الانصراف. يسألانها إن كانت الأمسية قد مرّت هادئة فتردّ بالإيجاب. إلاّ أنّ عينيها تظلان جاحظتين وهما يسألانها عن مكان ولديهما “ماتيلد” و”لوكاس” دون أن تجد إجابة. السؤال محدد وواضح: أين الطفلان؟ ماذا فعلت بهما؟ أما هي فكأنّ خرسا مفاجئا يصيبها فلا تستطيع التفوه بكلمة عدا: لا أفهم. لا أفهم شيئا. وعندما يصرّان عليها تحاول الإسراع بالمغادرة. تمنعها المرأة ويهرع الرجل إلى الهاتف ليطلب الشرطة بعدما أنذرها أنه قد يستعمل معها العنف إن لم ترد على السؤال.
أي كابوس هذا الذي يجد الأبوان نفسيهما فيه؟ يأتيان بمربية لترع الولدين في غيابهما عن المنزل، يذهبان وقتا قصيرا ثم يعودان فلا يجدان عزيزيهما بينما التواصل مع المربية الشابة غير قائم تماما. هما يسألان وهي لا ترد. مما يثير الارتباك، الرغبة في إرغامها على الكلام بالقوة، ليكون اللجوء في الأخير إلى الشرطة لتجد لتتدخل وتساعدهما.
توقف الكاميرا عند ملامح المرأة وهي تعلن عدم إيجاد ابنيها وتشرع في الانتحاب، وملامح الرجل المندهشتين الساهمتين بحيث يجد نفسه واقفا في منطقة رمادية لا يستطيع أن يتحرك خطوة للفهم. إنهما عاجزان، كان كل شيء عاديا بينما هما الآن أمام جدار صلب من عدم الفهم.
في اتصالها بالشرطة يخبرهم بما حدث ويضيف بأنها المرة الأولى التي يعهد بطفليه إلى هذه المربية، يخبرهم بعنوان المنزل ويرجوهم الإسراع في المجيء.
– آنستي، لم تلحقي الأذى بولدينا. لا؟ يقول الرجل لكنها لا ترد.
– أتعانين من مشاكل صحية؟ أتتبعين علاجا محددا؟ ترد على هذا بالنفي.
هي ترد على ما يخصها. أمضيتِ أمسية هادئة؟ نعم، تناولتِ الدجاج؟ نعم، تعانين من مشاكل صحية؟ لا. لكن ما عدا هذا، والأهم من هذا: الولدان. لا إجابة. بل “هذا عبثي” كما قالت عندما أرادت الخروج ومنعتها المرأة مهددة إياها بالقتل.
الوجه الأصفر للمربية يخبر كأنّ كارثة حدثت، كأ،ها رأت شبحا أو كأنّ خبرا قاسيا وصدمة مفجعة قد نالت من أعصابها للتو. لكن في غياب كل إيضاح لا يمكن أن نعرف شيئا. قد تكون الشرطة هي الحل نعم. على الأقل حتى لا يتهور أحدهما ويقضي عليها في لحظة الغضب تلك. يحاول الرجل أن يتمالك نفسه لكنه في الوقت نفسه يدفع بالفتاة على الكنبة لتجلس ويحاول إرغامها على الحديث عما جرى في المساء. كل ما يُطلب منها هو الحديث لا غير.
محاولاتها لالتقاط أنفاسها، صعوبة الكلام كلها تشي بالخبر المفجع: هل هي غولة أو ساحرة قامت بالتهامهما؟ لا أحد يعرف. هل هناك من اعتدى على المنزل بالقوة واختطفهما. لا أحد يعرف.
-لم يجر أي شيء.. انتظرتُ عودتكما لم أكن مرتاحة هذا كل شيء.. تقول بعنين حائرتين وجسد يظهر عليه الارتجاف.
-لماذا لم تكوني مرتاحة؟ يسألها بهدوء وقد رأى أنها بدأت بالاستجابة للكلام، ربما بعد أن تأكدت أن الأمر سيذهب نحو الأسوأ بعدما اتصل بالشرطة.
-لأنه ما كان عليّ أن أفعل هذا أبدا. تلمع عيناها بالدمع ويتهدج صوتها.
-ماذا تعنين؟
تصمت قليلا وهي تحاول استجماع قوتها وترتيب كلامها لتقذف الجواب الذي قد يكون صاعقا:
-أن أسهر على ولدين في حين لم يكن هناك ولدان.
-ألم يكونا هنا؟
-لا. ليس لديكما أولاد وتعرفان هذا جيدا جدا.
هنا يفيض الكيل بالمرأة وتتحول من امرأة كانت تملك القدرة على أن تصبر ما دام زوجها يحاول الحفاظ على هدوئها ومادامت الشرطة آتية لحل لغز الاختفاء المفاجئ للطفلين إلى امرأة متوحشة تقوم بضرب الفتاة وشدها من شعرها وهي تصرخ في وجهها: أيتها المعتوهة.. أيتها المعتوهة. وتقاوم زوجها وهو يحاول إبعادها عن الفتاة ويهدئها: كيف يمكنكَ أن تبقى هادئا؟ هذا ما تسأل عنه المرأة وهي ترى زوجها لم يصل في غضبه إلى غضبها ولم تظهر الحيرة عليه بالقدر الذي ظهرت عليها والجزع. غير أنّها تهدأ ولو قليلا عندما تسمعه يقول إنهما قد يكونان في الجوار. فلا شيء يؤكد أنهما تبخرا تماما من هذا العالم.
تتكشف الحقيقة بمرارة قاتمة: ليست للفتاة أية علاقة باختفاء الولدين. بل هما من يتوهمان بأن لديهما أطفالا. ويتعاملان على هذا الأساس. هكذا تصارحهما بصعوبة بالغة وهي تدري جيدا أنّ رد فعلهما وهي الوحيدة “الضعيفة” (سنّا هي أصغر منهما، وهي لوحدها في بيت ليس بيتها) قد يكون قاسيا. يظلّ الرجل، والمرأة أيضا على موقفهما، إنهما يرفضان أن يكون هذا حقيقيا. إنها مجنونة هذا كل شيء، وهما يأملان ألا تكون قد فعلت شرا بهما.
-هذا المساء حين رحلتما كنتَ تقف عند الباب وأنت تضحك وتنظر إليّ بنظرة غريبة قلتَ لي: أحسني الاعتناء بولدينا. فأجبتك: حسنا، اتفقنا.
ينتبه الثلاثة حين تأتي الشرطة ويسمع طرق على الباب وصوت أحد أفرادها يسأل إن كان هناك أحد في المنزل. ينذرها بأن الشرطة ستفعل معها ما يسوؤها، وتنظر هي إليهما بنظرة قد تكون هذه المرة نظرة شفقة وشعور بالمرارة. إنهما يمثلان، يتوهمان، يتخيلان أنّ لديهما أولادا لأنّهما محرومان من الإنجاب ربما. أو لأنّ طفلين كانا حقيقة هنا لكنهما رحلا لسبب أو ظرف ما. لا أحد يعلم، على الأقل هي لا تعلم. ولا تعلم الشرطة أيضا أنّ الذي اتصل بها بقي في داخل المنزل ولم يتحدث لا هو ولا من معه، لذلك يغادر أفرادها دون أن نرى منهم أحدا. وبدلا من ذلك يتحول الأمر إلى استجداء. يرجوها الرجل ألا تكون قد مست ابنيه بسوء، وتعلن لها المرأة وهي تنتحب أنّ تعرض الولدين لأي سوء يعني نهايتها.
زوجان تعيسان يريدان أطفالا، يمثلان دور الوالدين بتقمص شديد، ويوقعان بفتاة في هذه اللعبة الحزينة، لذلك نرى المرأة تسير بخطى بطيئة إلى الباب كأنها تريد أن تجعل من الفتاة تعرف بنيتها اتهامها عند الشرطة باختطاف الولدين وفي الوقت نفسه كأنّ مانعا يمنعها من الحديث إليهم.
تنهار المرأة أمام الباب قبل أن تخرج من المكان، وتخبر المربية الشابة الرجلَ بأنها ذاهبة وتعلن له أسفها عما يحدث لهما، وفي شيء من الارتباك تسأله عن أجر ذلك المساء، وفي صورة سوداوية يسأل زوجته المنهارة التي لم يسارع في إنعاشها لا هو ولا الفتاة إن كان لديها “فكّة” وتخبره بصوت هزيل: فلتذهب إلى الجحيم. تزداد الصورة سوداوية عندما تسير الفتاة باتجاه الباب وتمرّ على “جثّة” المرأة المتماوتة وتغادر بعدما أخذت مالها التي قالت أنها حقيقة محتاجة له. لن يقول لها مجددا أين الولدين، ولا المرأة ستسأل من جديد. كل ما يحدث بعدها أنّ الفتاة التي وجدت نفسها في أمسية غريبة مع شخصين غريبين تغادر المنزل وهي تخبره مجددا بأسفها لأجلهما، ثم تنهض المرأة لوحدها كما سقطت لوحدها دون أن يساعدها زوجها ودون أن تقول له شيئا. تختفي قليلا من الوقت ثم تعود واقفة أمام زوجها ليبتسم لها ويسألها:
-هل أنت بخير؟ أينامان جيدا؟
-أجل. تقولها باسمة وتحتضنه.
الفيلم يأخذ بلا شك من أنفاس يونيسكو وبيكيت ومسرحياتهما العبثية. ملامح الغرابة التي نجدها في “الدرس” عند الأول و”في انتظار غودو” عند الآخر كمثال لا يمكن أبدا أن لا نشعر بها ونحن نشاهد هذا الفيلم، حيث الشخصيات تكتشف أنها في مواضع غير مفهومة تماما كما يكتشف المتلقي أنه لا يفهم شيئا إلاّ في آخر المطاف وأنّ اللعبة كلها هي لعبة كلام، حيث لا حكاية حقيقية موجودة كما في العادة بشخصيات كثيرة وتراتبية وتعقيد وحل في النهاية. الحل الذي وجدناه في الفيلم لا يمكن أن يكون حلا اعتياديا. لم يعترف الرجل ولا المرأة بالجنون، ولا بأنهما لا يملكان أطفالا أو أنهما قاما بتمثيلية وصلت إلى شد شعرها ولعنها واستدعاء الشرطة، فقط غادرت الفتاة دون مزيد من المنع بعدما واجهتهما بالحقيقة وأبدت أسفها الشديد على حالتهما.
الكلام إذن صناعة جيدة في هذا العمل، وحيث أنّ المشهد يكاد يكون وحيدا لعبت الكاميرا على الاحتفاء بالجسد وملامحه، انعكاس الحزن على العينين، الوجه الأصفر الذي ينذر بوجود مأساة عميقة، وعوّض هذا الاحتفاء غيابَ التنويع في المشاهد وأماكن التصوير. حتى في غياب موسيقى تصويرية لم تظهر إلاّ في ثوانٍ معدودة بشكل باهت عند نهاية العمل وجدنا الكلمات والجسد وحدهما يتكفلان بصناعة فيلم قال أشياء جميلة عن الحرمان والرغبة ومأساة رجل وامرأة لم يحبا أن يبقيا وحيدين في عالم معزول.