سؤال النقد في كتابات نقاد السينما المغاربة
انشغل النقاد السينمائيون المغاربة بسؤال النقد في كتاباتهم النقدية، فحاولوا تحديد ماهيته ومفهومه، وبيان أنواعه وفروعه، وإبراز أساليبه وطرقه، كما سعوا إلى رصد أحواله وأوضاعه واستشراف آفاقه وممكناته. ومن هؤلاء النقاد نذكر مصطفى المسناوي في كتابه “أبحاث في السينما المغربية”، ومحمد نور الدين أفاية في كتابه “الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل”، وإبراهيم آيت حو في كتابه ” السينما المغربية الواقع والآفاق”، وخليل الدمون في كتابه ” أشلاء نقدية “، وأحمد سجلماسي في كتابه ” المغرب السينمائي “، ومحمد البوعيادي في كتابه ” السينما المغربية أسئلة التأويل وبناء المعنى”.
ماهية النقد: تفكيك ومساءلة
ينظر أغلب النقاد السينمائيين المغاربة إلى النقد السينمائي باعتباره رديفا للنقد الأدبي، فهما يكادان يكونان سيان لا يختلف أحدها عن الآخر، وكأن مجال اشتغالهما واحد لا فرق في ذلك بين الظاهرة السينمائية والظاهرة الأدبية.
فالنقد السينمائي عند إبراهيم آيت حو هو فاعلية فكرية إنسانية تتم ضمن شروط تاريخية واجتماعية وثقافية محددة، كما أنها تصدر بالضرورة من ذات إنسانية لا يمكن أن تنفصل عن شرطها التاريخي والثقافي. وهو عند محمد نور الدين أفاية خطاب حول خطاب، ولغة ثانية تمارس على لغة أولى، وتكثيف لإعلان مزدوج : معرفة الذات أولا، وولادة جديدة في العالم ثانيا. وهو عند محمد البوعيادي محاورة للفيلم واستقراء لمقولاته، واختراق لبنيته، وتقييم لإبداعيته بغرض إنتاج معرفة موازية لقصدية المبدع.
فالمتأمل في مجمل هذه التعريفات يدرك بسهولة أن النقاد السينمائيين المغاربة لم يحرصوا حرصا شديدا على ربط النقد السينمائي بسياقه الفني الذي يضمن له خصوصيته واستقلاله، فبدت تحديداتهم أقرب ما تكون إلى النقد في مفهومه العام وبالخصوص ما يتصل منه بالظواهر الإبداعية. فالتعريفات المقترحة قد تقترب من النقد الأدبي مثلما تقترب من النقد المسرحي أو أي لون آخر من ألوان نقد الفنون، مع العلم أن السينما فن مركب ومعقد له قواعده النوعية التي تجعله مختلفا عن بقية الفنون الأخرى، وبالتالي فإن أي حديث عن النقد السينمائي ينبغي أن يضع هذا الشرط في اعتباره.
هوية الناقد: عشق وهواية
والناقد السينمائي في كتابات النقاد السينمائيين المغاربة شخص عصامي طور آلته النقدية من خلال الممارسة والمشاهدة وكون نفسه بنفسه عن طريق القراءة الشخصية، إذ لم يسبق له أن تلقى تكوينا أكاديميا متخصصا في الجامعة يؤهله لأن يكون ناقدا سينمائيا، كما أنه مجرد هاو للسينما عاشق لصورها، استهوته الأندية السينمائية فتربى في أحضانها فأتاح له ذلك أن يستأنس بالمناخ الذي فرضه النقاش الذي يتلو عادة العروض السينمائية، فساهم فيه من موقع العاشق الهاوي.
فالناقد السينمائي عند محمد نور الدين أفاية هو رجل عصامي تشكل وعيه النقدي في سياق الممارسة الثقافية والاحتكاك بالنصوص،وهو عند أحمد سجلماسي مجرد إنسان هاو وعاشق للفن السابع تربى في أحضان الأندية السينمائية. وفي نفس الاتجاه يؤكد محمد البوعيادي أن أغلب النقاد السينمائيين المغاربة قد أتوا إلى الممارسة النقدية عبر بوابة الهواية من خلال التمرس على أدبيات القراءة الفيلمية التي وفرتها مناسبات تنشيط الأفلام داخل فضاءات الأندية السينمائية.
وعلى الرغم من أن الناقد السينمائي المغربي ليس في نهاية المطاف غير رجل عصامي وهاو وعاشق للصورة، فإنه مطلوب منه أن يتوفر على موهبة حقيقية، وذوق رفيع، وأن يتسلح بتكوين فكري رصين،وأن يحرص على المشاهدة المتواصلة للصورة السينمائية. فإبراهيم آيت حو يرى أن ولوج عالم النقد السينمائي لا يتأتى إلا بامتلاك المفاتيح الفكرية والجمالية الضرورية والوعي الحاد باللحظة التاريخية وشرطها الإنساني والثقافي، والإلمام بمجال الصورة،والتوفر على موهية حقيقية، وذوق فني رفيع، وعشق لجماليات الصورة. أما محمد نور الدين أفاية فيرى أنه يتعين على الناقد السينمائي أن يمتلك حساسية نقدية تتبلور نتيجة تكوين نظري فلسفي وجمالي ومشاهدة متواصلة للصورة السينمائية وحديث دائم عنها.
الناقد الراحل مصطفى المسناوي
والحق أن الناقد السينمائي باعتباره مثقفا يحتاج إلى أن يكون موهوبا ومزودا بما يكفي من المعارف وواعيا بلحظته التاريخية،حتى يستطيع أن يقرأ الصورة في أبعادها المختلفة، ويتخذها وسيلة للتفكير والبناء. غير أن تحقيق ذلك يحتاج إلى أرضية مناسبة.
لا يستطيع أحد الادعاء بوجودها داخل الحقل الثقافي المغربي، لذلك فإننا حينما نطلق صفة ناقد سينمائي على من يمارس الكتابة عن السينما بالمغرب فإنما نطلقها على سبيل التجاوز فقط،وتماشيا مع العرف السائد الذي يطلق صفة الناقد السينمائي على كل من ينتج قولا حول السينما.
ألوان الكتابة: بين الشفوي والمكتوب
استقرأ النقاد السينمائيون المغاربة منجزهم النقدي الذي امتد لسنوات طويلة فوجدوه ألوانا وأصنافا: نقد شفوي، ونقد كتابي، وداخل النقد الكتابي هناك نقد صحفي ونقد تأويلي، وداخل هذه الأصناف والألوان تحضر الكتابة السطحية والكتابة العميقة، وتستند هذه الكتابات إلى جملة من المرجعيات من ضمنها المرجعية المشرقية والمرجعية الغربية.
فإبراهيم آيت حو يؤكد أن هناك تصنيفات كثيرة للنقد السينمائي المغربي من أبرزها التصنيف الذي يميز بين النقد الشفوي والنقد الكتابي، لكنه يشير إلى أنه يمكن الوقوف داخل النقد الكتابي عند نقد صحفي يكتسي صبغة تبسيطية تلامس العمل المنقود من السطح،ونقد تحليلي يتميز بالمصداقية العلمية والتماسك المنهجي.
وينظر مصطفى المسناوي إلى الأمر من زاوية أخرى فيرى أن النقد السينمائي المغربي نوعان: نقد يستمد مادته من النقد العربي بالمشرق، وآخر يستمد إلهامه من النقد الغربي. يغلب على النوع الأول الاهتمام بمضمون الفيلم وقصته، بينما يميل الثاني إلى التركيز على الشكل والأسلوب. وأضاف المسناوي نوعا ثالثا ميزته الأساسية التلفيق والمهادنة.
ويرى أحمد سجلماسي أن النصوص النقدية التي نشرت على صفحات الجرائد والمجلات تتوزع بين القراءات التأويلية التي تستثمر المفاهيم والمناهج والمقاربات المستقاة من الحقول التخصصية التي ينتمي إليها الناقد، والمتابعات الصحفية التي تغلب عليها النزعة الانطباعية ويغيب عنها التحليل العميق والدقة في إصدار الأحكام، وأضاف سجلماسي إلى هذين النوعين من النقد الحوارات المناسباتية مع الفعاليات السينمائية، والترجمات التي نقلت مجموعة من النصوص الفرنسية إلى اللغة العربية.
خليل الدمون
وحصر خليل الدمون القراءات النقدية في أنواع أربعة : قراءات فاعلة تجمع بين التنظير والنقد،وقراءات صحفية أسهمت في خلق أرضية خصبة لانبثاق نقد سينمائي مغربي، إضافة إلى القراءات التي مارسها جمهور الأندية السينمائية، والقراءات التي أنجزها النقاد الغربيون للأفلام المغربية.
ويقف محمد نور الدين أفاية عند ثلاثة أنواع من النقد: نقد شفوي أفرزته النقاشات التي كانت تتلو عادة عرض الأفلام السينمائية وهو نقد متفاوت القيمة والمستوى،ونقد صحفي احتضنته الجرائد والمجلات ويشكو من آفة التسرع في الغالب، ونقد تحليلي تأويلي يتميز بالدقة والأناة.
ويسير محمد البوعيادي في نفس الاتجاه فيرى أن النقد السينمائي المغربي أصناف ثلاثة : نقد شفوي وتتأطر بداخله جل المطارحات والنقاشات التي تعقب عرض الأفلام في فضاءات الأندية والمهرجانات،ونقد صحفي ظهر بداية الأمر على صفحات الجرائد والمجلات الفرنسية،ليجد طريقه بعد ذلك إلى صفحات الجرائد والمجلات الوطنية. ونقد تأويلي تتأطر بداخله كتابات نقدية رائدة ذات بعد نظري. ثم أضاف البوعيادي صنفا رابعا هو النقد التوثيقي الذي يعنى بالتوثيق للظاهرة السينمائية بالمغرب.
يبدو من خلال ما سبق أن النقاد السينمائيين المغاربة يكادون يتفقون في تصنيفهم للنقد السينمائي المغربي. فأغلبهم انتبه إلى أن هذا النقد قد تراوح بين الشفوي والمكتوب. فالشفوي نشأ في أحضان الأندية السينمائية،وشكل أرضية خصبة لانبثاق نقد سينمائي مغربي،غير أن أكثره قد تعرض للنسيان. أما المكتوب فقد نشأ في أحضان الصحافة. بدأ انطباعيا تأثريا يلامس سطح العمل المنقود، ثم استوى عوده فأصبح تحليليا تأويليا واعيا بأدوات اشتغاله.
أساليب القراءة: الولاء للإبداع
نكاد نلمس في كتابات النقاد السينمائيين المغاربة توجها عاما مفاده أن العمل الإبداعي هو الذي يفرض منهجية التحليل المناسبة،وأنه من الصعب إخضاع النقد السينمائي لمنهج واحد قادر على الإحاطة بمجمل مفاصل العملية السينمائية باعتبارها عملية مركبة ومعقدة.
نجد هذا التوجه عند إبراهيم آيت حو الذي يرى أن أي نقد سينمائي يجب أن يتأسس على محاولة فهم وتفكيك عناصر المكون الصوري في الفيلم في علاقته مع العناصر الأخرى من لغة وموسيقى. كما يرى أن العمل الإبداعي هو الذي يفرض منهجية التحليل المناسبة. كما نجد هذا التوجه أيضا عند محمد نور الدين أفاية الذي يرى أنه من الصعب إخضاع النقد السينمائي لمنهج محدد أو تطويع أفكاره وأحكامه لقواعد ومقاييس ثابثة. وينحو محمد البوعيادي النحو نفسه حينما يقرر أن الانصهار بين أكثر من منهج يوفر إمكانية مقاربة الظاهرة السينمائية في شموليتها بما يسمح باختراق مجمل أبنيتها.
وواضح من خلال ما سبق أن النقاد السينمائيين المغاربة قد نقلوا السجال الدائر حول مناهج النقد من دائرة الأدب إلى مجال السينما. فمسألية مناهج النقد الأدبي أثارها نقاد الأدب المغاربة منذ أن وفدت عليهم رياح التغيير التي هبت على الممارسة النقدية الغربية بداية القرن العشرين بفعل التطور المذهل الذي عرفته العلوم الإنسانية وخصوصا علم الاجتماع وعلم اللغة. فانقسموا حينئذ بين متبن للمنهج البنيوي في صورته التكوينية ومدافع عن نفس المنهج في صورته الشكلية، وبين من رافض رفضا مطلقا خضوع الأدب لمنهج محدد صارم. وقد ألمح إبراهيم آيت حو إلى ذلك حينما قال “لا يحتاج الدارس إلى كثير تفكير ليؤكد أن مناهج النقد الأدبي شكلت ولا زالت تشكل سندا قويا ومعينا غنيا للنقد السينمائي المغربي”.
واقع الممارسة: النزعة التبسيطية
يشير أكثر نقاد السينما بالمغرب إلى أن واقع الممارسة النقدية السينمائية المغربية لا يزال مرتبطا في أغلب صوره بأصول القراءات الأولى التي احتضنت البدايات الأولى لانبثاق الإبداع السينمائي المغربي، والتي سعت آنذاك إلى اكتساب شرعيتها داخل الحقل الثقافي المغربي بوجه عام. فهذه القراءات ذات نفس انطباعي، تنحو نحو العموميات، متطرفة تارة نحو المضمون وأخرى نحو الشكل، متعسفة في أحكامها، متسرعة وعفوية ومنفعلة لا تستند إلى أية خلفية نظرية أو فلسفية.
فإبراهيم آيت حو يرى أن الواقع العملي يؤكد أن كثيرا مما يكتب في مجال النقد السينمائي ما هو إلا انطباعات عامة،وأن كثيرا من المقاربات لا تكلف نفسها عناء الانطلاق من مختلف مكونات العمل المدروس، وهي لا تعدو أن تكون إما مجرد تلخيص لمضمون الفيلم،وإما اهتماما كليا بجوانبه التقنية والفنية. كما أن عدم اعتماد خطة منهجية لا يزال يلقي بظلاله على كثير من الكتابات النقدية.
ويؤكد أحمد سجلماسي أن الممارسة النقدية بالمغرب تتميز عموما بالانطباعية والتسرع والتعميم وعدم امتلاك حد أدنى مقبول من المعرفة بلغة الصورة، وغياب أدوات منهجية واضحة لتفكيك الأفلام وتحليلها بالإضافة إلى الموسمية واللااستمرارية. كما يقرر أن الأقلام التي استطاعت أن تتبوأ مكانة على الواجهة النقدية يعاني منتجها من آفة التنظير المتسرع،وعدم التروي في إصدار الأحكام،وغياب التواضع الفكري.
ويلاحظ خليل الدمون أن الولادة العسيرة للإبداع السينمائي المغربي قد أفرزت قراءات نقدية سريعة منفعلة متأثرة، مساهمة في تلطيف عسر الولادة، وأن معظم هذه القراءات لازالت تدين بالولاء للنزعة الشفوية من حيث إصدارها لأحكام انطباعية وعفوية دونما اعتماد على منهجية واضحة في التحليل.
أمام هذه الوضعية رفع بعض نقاد المغرب أصواتهم عاليا من أجل تجاوز هذه الوضعية ،ودعوا إلى صياغة شكل جديد للكتابة النقدية يستطيع أن ينسجم مع خصوصيات الظاهرة السينمائية، باعتبارها ظاهرة متفردة لها من الثوابت ما يجعلها مختلفة عن الظواهر الفنية الأخرى. فمحمد نور الدين أفاية يرى أنه حان الوقت لتعميق النظر النقدي في الفيلم المغربي وذلك بخروج الناقد السينمائي من دائرة الأحكام المتعسفة إلى صياغة أفكاره بتواضع فكري معتمدا على تكوين ثقافي متعدد الاختصاصات. ومحمد البوعيادي يرى أن اللحظة التاريخية تتطلب أن يتعزز المشهد السينمائي المغربي بوجود خطاب نقدي تأويلي يحاور الفيلم ويستنطق بنياته الدلالية والرمزية.
والحق أن الممارسة النقدية السينمائية بالمغرب تحتاج إلى وقفة تأمل هادئة من أجل الوقوف عند ما يحول بينها وبين الاستواء والنضج والتطور. فكثير مما كتب سابقا ومما يكتب الآن من مراجعات للافلام السينمائية، يصعب كثيرا تصنيفه ضمن النقد السينمائي بالمعنى المتعارف عليه أكاديميا، وإنما هو خطرات تعن للمراجع كلما شاهد فيلما سينمائيا وقرر أن يصنع حوله قولا، لكن حظ النقد في هذه الخطرات ناذر وقليل. فالنقد السينمائي – وإن كان حديث النشأة والتكوين – فإنه صرح ثقافي شامخ له قواعده وأسسه، ولا يمكن ممارسته لمجرد الرغبة في الكتابة عن منتج سينمائي،وإنما يحتاج الأمر إلى خبرة طويلة في المشاهدة والكتابة، وتكوين أكاديمي رصين في مجال الصورة، وانفتاح واع على مختلف الفنون،ومعرفة دقيقة بالواقع والتاريخ والثقافة.