زكي رستم في “نهر الحب”.. أن تكره الشخصية وتعشق الممثل
في فيلم “نهر الحب” (1960) للمخرج عز الدين ذو الفقار، يصل زكي رستم إلى ذروة غير مسبوقة في تجسيده لشخصية (طاهر باشا”، ولا أحد من محبي ومتابعي السينما المصرية ينكر أن الحضور الطاغي للممثل العملاق هو العنصر الرئيس الذي يضفي على الفيلم الجانب الأكبر من تفرده وخصوصيته، ليس لأهمية تأثير الشخصية في تطور أحداث الفيلم فحسب، بل أيضا لأن مستوى أداء الممثل العملاق يمنح ثقلا فنيا لا يمكن إهماله.
طاهر باشا، على الصعيد الموضوعي، أستاذ قانون مرموق، وسياسي ثري ذو نفوذ واسع وتطلعات لا تنتهي إلى المزيد من الصعود، وهو على الصعيد الذاتي صارم في عقلانيته، حاد الذكاء، يخضع كل مفردات حياته للنظام والحسابات الدقيقة المغلفة بقدر كبير من الوقار والتشبث بالتقاليد الموروثة.
زواجه من نوال، فاتن حمامة، على الرغم من الفارق الشاسع بينهما في العمر والمكانة الاجتماعية، يبدأ بلقاء مصادفة يجمعهما، وهي تجهل شخصيته، في إحدى ضياعه التي يعمل فيها شقيقها المحامي ممدوح، عمر الحريري، المتورط في مشكلة خطيرة تتعلق بخلل في عهدته، ويخشى أن يُفتضح أمره بعد صعود الباشا إلى مقعد الوزارة، ما يعني ضرورة استعانته بمحام كبير لإدارة مكتبه ومراجعة كل ما يتعلق بأعماله.
مظهر الباشا بثيابه الريفية لا يوحي بأنه الرجل الخطير الذي تسمع عنه نوال ولم تره من قبل، ومن هنا تتعامل معه بجفاء ولا مبالاة، فهل يكون إقدامه على الزواج منها رغبة في الانتقام والثأر لكرامته؟ هذا ما تفكر فيه نوال، لكن مرتكزات وثوابت شخصية الباشا لا تتوافق مع هذا التوجه الانفعالي غير المحسوب.
في زيارة الباشا غير المتوقعة لبيت ممدوح، يبشره باختياره مديرا لمكتبه، ثم يشكو من الوحدة والحرمان من حقوقه كرجل لفرط انشغاله، ويعلق المحامي الشاب غير مدرك لما سيتطرق إليه الحوار بينهما:
– أكبر عائلات مصر يشرفها إنها تناسب معاليك.. مين ما تتمناش؟
– رغم سني ده؟
– يا أفندم دي ها تعيش في نعيم.. ما يتخيرش عنه إلا الجنة”.
إسراف ممدوح في المجاملة مبرر بالنشوة التي تسكنه بعد الخبر السار الذي يسمعه، أما طاهر باشا فيبدو كمن ينصب فخا محكما يسقط فيه الشاب الساذج البريء محدود الخبرة. هل يملك مبررا لرفض الزيجة غير المتكافئة، وهو الذي يقول إن الزواج من الباشا حلم كل فتاة؟ تردد ممدوح وما توحي به لهجته من رفض، تدفع الباشا الداهية إلى الكشف عن وجه آخر ينتقل به إلى ساحة التهديد والتلويح بما في العهدة من خلل يقود إلى السجن.
طاهر باشا مسلح بالذكاء والمكر والقدرة على الخداع وإحكام الحصار للوصول إلى أهدافه والانتصار على خصومه، ولا شك أن وعي زكي رستم بالسمة الأبرز في الشخصية ينعكس على أدائه الهادىء البعيد عن الانفعال والعصبية واستعراض القوة، فهو يثق في قدراته ويوقن أن نجاحه حتمي لا يستدعي المبالغة في الإعلان عن قوته.
موافقة نوال مبررة بحبها لأخيها الذي يستحق التضحية، ويثمر الزواج الابن “هاني” (وجدي العربي)، العنصر الإيجابي الوحيد في علاقة زوجية ميكانيكية جافة، تخضع لقوانين الباشا ورؤاه المحافظة المتعنتة التي لا عاطفة فيها ولا مشاعر إنسانية.
إيقاع رتيب راكد صانع للضجر، وتقديس متطرف للتقاليد والمظاهر، ولا ينجو الابن الصغير من أجواء القتامة والجفاف. التدليل ليس مطروحا، وإعلان الحب والحنان من علامات الضعف، والمرح واللهو البريء ابتذال لا يليق. هدية الأب لهاني في عيد ميلاده، تكشف عن جوهر شخصية الباشا والمنهج الذي يحكمه: “دا شطرنج.. لعبة كلها تفكير تنمي العقل.. تعلم الإنسان التروي والحذر والدقة في كل تصرف”.
ما طاهر باشا إلا شطرنجي بارع محترف يحكمه العقل، وتتمثل المبادىء التي يعتنقها في ثلاثية التروي والحذر والدقة، ويبدو منطقيا عندئذ أن يمارس الحياة كأنه الإنسان الآلي الذي لا يحتوي قاموسه على كلمة واحدة عن الخطأ، ولا متسع في “برمجته” للاندفاع غير المحسوب والعواطف الجياشة.
يترجم زكي رستم استيعابه الشامل المدروس لأبعاد الشخصية غير التقليدية في إتقان متوهج، وباستثناء مشهد واحد له دوافعه وأسبابه، لا يتخلى الفنان المتمكن عن الثبات الانفعالي والهدوء القاتل.
قد يتلون الصوت للإيحاء بمعنى كامن، لكن الطبقة واحدة لا تعلو، والحركة متئدة لا تعرف الهرولة، والتحكم في لغة الجسد لا تشوبه شائبة، ذلك أنه متوازن متسق مع نفسه منضبط كأنه بندول الساعة، أما الوجه فلا تتغير ملامحه إلا قليلا، لكن الإمعان فيه يتيح الوصول إلى ما يعتمل في أعماقه ويتم كتمانه، كما يليق بشطرنجي محترف يتقن التمويه والخداع.
لا يرى طاهر في نوال ندا له، فهو يعتز ويباهي بثقافته القانونية ودوره السياسي وخبراته الواسعة، ولا شيء تملكه في المقابل إلا ذبول الشباب قبل الأوان، وعذابات الحياة الكئيبة المغلقة التي تختنق فيها. هل تستطيع أن تهزمه في الشطرنج كما تزعم؟
الدقة سلاح يخوض به المعارك وينتصر، ولا سلاح لها إلا العفوية وحب الحياة، وهي أدوات تقود إلى الهزيمة المؤكدة في لعبتي الحياة والشطرنج معا.
مع الضابط الفارس الرومانسي الرقيق “خالد” (عمر الشريف)، تجد نوال ما تحلم به من انطلاق وتحقق. لا تغيب العلاقة عن طاهر، وليس مستغربا أن يكون رد فعله خاضعا لمجمل القواعد التي تحكمه، وينصب الاهتمام كله على السمعة المهددة والمستقبل السياسي الذي قد تفسده الإشاعات والأقاويل. هنا يظهر الباشا للمرة الأولى متخليا عن ثباته المعهود، ذلك أن حياته لم تعرف زلزالا مماثلا من قبل: “خليتِ أتفه الناس تتغامز عليا.. وتسخر مني ومن شرفي.. وبكره أعدائي السياسيين يستغلوا اللي حصل بينك وبين الشاب المستهتر ده.. عشان يهدموني”.
الانزعاج من العلاقة لا شأن له بالغيرة التي تنتاب زوجا مهددا في شرفه، والقلق الذي يراوده وثيق الصلة بالتأثير السلبي على مسيرته المرسومة بدقة لا متسع فيها للخطأ، ولا استعداد لاستيعاب المتغيرات المباغتة التي تطيح بالآليات المعهودة للعبة. لا مطلب لطاهر إلا قطع العلاقة في إطار نفعي خالص، ولا مناقشة لفكرة المغامرة وما تعنيه من دلالات لا مُسمى لها إلا الخيانة.
تنبىء المؤشرات جميعا عن حتمية الصدام بين عالمين متناقضين لا متسع للتعايش بينهما، ولا أمل في التوافق والتقارب. الباشا مذعور من انهيار مكانته السياسية والاجتماعية، وليس مثل الحوار الغرائبي الذي يتبادله الزوجان في الكشف عن حقيقة طاهر التي تتوارى خلف عبارات براقة، يتخلى عنها عندما تهدده المخاطر والعواصف:
– كان لازم ده يحصل قدام الناس.. كان لازم تعرّفوا الناس!
– يعني لو كان حصل من غير ما تشوفه الناس..
– كان يبقى أرحم.
الخيانة المجهولة لا تعنيه لأنها لا تؤثر عليه، ومفهوم الشرف عنده يختلف جذريا عن الذي يعرفه الأسوياء والعاديون من الناس، ووفق كلماته في المشهد الوحيد الذي يتخلى فيه عن ثباته الانفعالي، ويكشف عن الأفكار التي تسكنه ولا يبوح بها:
– شرفي هو مجدي الأدبي والسياسي.. هو كراسي الحكم.. هو شهرتي.. هو إني أبقى صاحب معالي.. وبعدين صاحب دولة ومقام رفيع.. هو دا اللي يخلي الناس تحترمني”.
مطلب نوال بالطلاق منطقي مبرر على ضوء كلماته هذه، ورفضه لا ينبع من الحرص على الفضيلة واستنكار الخطيئة والزنا كما يزعم كاذبا، فهو يحمي سمعته السياسية دون انشغال بخيانة يعرفها ويتجاهلها. تهديد ممدوح باللجوء إلى الصحافة لفضح طاهر باشا سلاح مهم في المعركة، والابن هاني سلاح مضاد، وفي ظل التكافؤ النسبي بين أسلحة طرفي الصراع، يصل طاهر إلى اقتراح يؤكد براعته الشطرنجية وقدرته على المساومة والتخطيط بعيد المدى عند اقترابه من الهزيمة: “أنا موافق على الطلاق.. بس مش دلوقت.. لأنه لو حصل دلوقت قبل الانتخابات ها أخسر كل شيء برضه.. الطلاق يؤكد الإشاعات”.
مناورة بارعة لالتقاط الأنفاس، وتنازل تكتيكي يغري الطرف الآخر بالموافقة على تأجيل المعركة جراء قلة الخبرة. الانسحاب المؤقت لا يعني الإقرار بالهزيمة، لكنه سلوك لاعب الشطرنج المحترف الذي يضحي ببعض القطع لإغراء المنافس بالتهور في اللعب، وهو درس تعيه نوال وتستوعبه بعد فوات الأوان: “أتقن دوره إلى حدٍ خدّر حذرنا.. جعلنا ننفذ كل ما يريد.. كان بارعا”.
تسقط نوال في الشرك، وتنطلق في علاقتها مع خالد بلا ضوابط، ويتحرك طاهر بدوره ليقوم بالهجوم المضاد الذي يزيل آثار الهزيمة المؤقتة: “أنا رخيت لهم الحبل على الآخر.. عشان يشنقوا بيه نفسهم.. علشان أحصل على الأدلة دي”.
الصور التي بحوزته تثبت جريمة الزنا، ويمكن أن تقود الحبيبين إلى السجن، والعقوبة الأشد قسوة هي استخدام هاني أداة لتصفية الحسابات: “نوال مش ها تشوف ابنها بقية عمرها”.
ينتصر طاهر باشا بالضربة القاضية، وبموت خالد تُتاح له الفرصة لينهي مباراة الشطرنج بكلمات لا تختلف عن مصطلح “كش ملك” في قاموس اللعبة: “ما دام خالد مات.. تبقي طالقة يا نوال”.
لا مبالغة في القول إن زكي رستم يصل إلى القمة في أدائه الناضج الواعي لشخصية طاهر باشا، في فيلم يُعد من كلاسيكيات السينما المصرية، ومثل أدواره المماثلة التي يعانق فيها القمة، يحقق المعادلة التي لا يحققها إلا أفذاذ الممثلين: أن تكره الشخصية وتعشق الممثل.