ريتشارد ويدمارك: المثقف الذي اشتهر بأدوار الشر
قليل من عشاق السينما عبر العالم، من لايزال يتذكر النجم السينمائي العالمي ريتشارد ويدمارك، على الرغم من انجازاته الفنية ومساهماته الإبداعية في عشرات الأفلام الهوليودية الخالدة والمسلسلات التلفزيونية الشهيرة، انجازات لا يعرفها إلا القلة، ولا يلتفت إليها إلا عشاق السينما الحقيقيون والمهتمين بسير النجوم الخالدون، ومع ذلك يظل هذا الممثل الاستثنائي حاضرا في الذاكرة، ذاكرة السينما العالمية، أساسا منها، سينما رعاة البقر التي بصمها بميسمه وقدم من خلالها أهم أدواره إلى جانب مخرجين، أو لنقل سادة هذه الأشرطة الكبار كهنري هاثاواي وجون واين وديلمر دايفز.
ريتشارد ويدمارك، تجربة مثيرة امتدت على فترة زمنية جد طويلة، حوالي نصف قرن من الأعمال الناجحة، أكد خلالها،وباعتراف معظم النقاد، أنه فنان فوق العادة في مجمل الأدوار التي قدمها، يمثل وكأنه لا يمثل، يعتمد على قوة داخلية خاصة وانفعال عميق يعبر عنه على نحو صارم، يساعده على ذلك ملامح وجهه البارزة وجماله الهادئ المتوحش، في نفس الآن، يثير في نفوس المشاهدين مشاعر متناقضة، مشاعر خوف واطمئنان، رعب وأمان، هزيمة وانتصار.
في مشهد بالغ الرعب والإثارة، قدمه لأول مرة المخرج الأمريكي هنري هاثاواي سنة 1947 في فيلم “زقاق الموت” يقف السفاح تومي ايدو(ريتشارد ويدمارك) الذي لا يرحم، أمام جثة امرأة مشلولة بعد أن دحرجها من فوق مقعدها المتحرك على السلم، ينظر نظرات شذراء واثقة ثم يطلق ضحكات جنونية تشبه إلى حد ما قهقهات الضبع “.
كان لهذا المشهد، الذي أصبح محفوظا كتراث أصيل في الذاكرة السينمائية الأمريكية، وقع كبير في نفوس من شاهدوا الفيلم، فانهالت آلاف الرسائل تستفسر عن هذا الممثل “المجرم ” الشاب وعن حياته، من خلال أسئلة قد تبدو ساذجة، لكن لها دلالاتها في المجتمع الأمريكي، أسئلة من قبيل: هل قضى طفولته في الإصلاحية؟ وهل جرب حياة الإجرام والمجرمين؟ كم قضى من السنوات في السجن؟ .. غير أن أغرب رسالة تلقاها ريتشارد ويدمارك آنذاك، جاءت من طرف احد زعماء عصابات المافيا النيويوركية، يقول له فيها : “لست أدري ما الذي تجنيه من التمثيل، إنني مستعد لمنحك ضعف ما تربح من مهنتك، إذا قبلت أن تكون ساعدي الأيمن..”!
ملامح خادعة
على الرغم من الملامح الخادعة لقسمات وجهه المنحوتة بعناية، كان ريتشارد ويدمارك إنسانا هادئا متزنا امتلك قدرة عجيبة على ضبط النفس، حتى لقبه أصدقاؤه ومعارفه بإسم ذو ” الأعصاب الحديدية”.
ريتشارد ويدمارك في لقطة من فيلم “الجحيم والمياه العالية”
ولد ريتشارد ويدمارك يوم 26 ديسمبر 1914 في قرية صغيرة اسمها “سان رايز” بولاية مينيسوتا الأمريكية، هاجرت أسرته إلى مدينة شيكاغو وهو ابن الخامسة، هناك تربى وتلقى تعليمه. وفي عام 1935، قام برحلة على دراجة رفقة صديق له زار خلالها مجموعة من الدول الأوروبية خاصة انجلترا وفرنسا وألمانيا التي تركت في نفسه أثرا بليغا بعد معاينته مدى الدمار الذي لحقها نتيجة الحرب العالمية، كما أنجز فيلما وثائقيا عن رحلتهما، حاول تقديمه في بلده بعد عودته، لكن دون جدوى، فكان ذلك أول لقاء له مع السينما وسحرها الذي ظل يراود أحلامه. ثقافته وشواهده العليا أهلته للعمل كأستاذ محاضر بالجامعة لمدة عامين، لكنه ما لبث أن هجر التدريس للاشتغال في الإذاعة وشارك في تمثيلية إذاعية بمدينة نيويورك، أعجب به المخرج العالمي أورسون ويلز فأسند له ادوارا في تمثيلياته الإذاعية الشهيرة.
هذه التجربة أهلته للحصول على بعض الأدوار المسرحية والانغماس في عوالمها، لكنه قرر ترك هذه العوالم سريعا، لأنه لم يكن يطيق السهر ليلا والعروض المسرحية في مجملها تعرض ليلا، ليشد الرحال نحو مصنع الأحلام في هوليود حيث عرض خدماته على بعض الشركات الى أن تسنى له توقيع أول عقد عمل، وبالتالي اختراق هذا العالم الأسطوري بأدائه لدور المجرم الخطير “ايدو تومي” السابق ذكره، وقد ظلت هذه الشخصية (شخصية المجرم) لصيقة به، فجسدها في عشرات الأفلام، وليتحول معها لوحش الشاشة الاول بدون منازع لفترة طويلة.
الخروج من الشر
بعض المنتجين الاذكياء انتبهوا لموهبته الخلاقة في الأداء فأوكلوا أمره إلى مخرجين لإخراجه من عباءة الشر، فقدموه في أفلام مختلفة وبأدوار متباينة، محررين إياه، من معطف الإجرام والمجرمين.
المخرج لويس ميستون قدمه في دور جد واقعي عن الحرب العالمية الثانية في شريط “أوكيناوا” عام ، والمخرج ريتشارد بروكس قدمه في عمل متفرد عن عالم الجاسوسية في فيلم “ضابط الرعب” 1953 ومنحه ادوارد دميتريك أدوارا في ثلاثة أفلام تعتبر جميعها من كلاسيكيات أفلام رعاة البقر هي: “الرمح المكسور” و”صاحب المسدس الذهبي” و”ألفريز كيلي”، كما عمل مع آخرين يشهد لهم ولأعمالهم بالعبقرية والأصالة الفنية، نذكر منهم فنسنت منيللي في فيلم ” بيت العنكبوت” وإيليا كازان في “رعب في الزقاق” و أوتو بريمينجر في “القديسة جان”، وسيدني بواتييه في “هانكي بانكي”.
عبر هذه الأعمال وغيرها، كان ريتشارد ويدمارك ينتقل من دور إلى دور، وكلها ادوار قوية ومؤثرة أفصح من خلالها عن مواهب كبيرة في تقمص الشخصيات وإعطائها أبعادا إبداعية عميقة.
إذا كانت الشهرة قد حصل عليها ريتشارد ويدمارك من خلال الأدوار السينمائية فإنه تحول الى نجم شهير بعد دخوله عالم التلفزيون عام 1971 بتقديمه فيلما تلفزيونيا تحت عنوان “ماديغان” حول فيما بعد الى مسلسل شهير عرضت حلقاته في عدد كبير من محطات التليفزيون العالمية، ونالت إعجابا جماهيريا منقطع النظير.
في لقطة من فيلم “العدالة في نورمبرغ”
يقول ريتشارد ويدمارك عن اشتغاله في التلفزيون الذي جاء متأخرا – نسبيا – ضمن مسيرته الفنية :” إنني لا أحب التلفزيون فهو يأخذ من وقتي الشيء الكثير ولا يترك لي فرصة تقديم أعمال جيدة، لكن مع سلسلة “ماديغان” الأمر مختلف تماما لأنني المنتج “.
منذ هذه السلسلة الأولى، أضحت شركته هي التي تنتج معظم أعماله التلفزيونية التي يشارك فيها، أشهرها السلسلة المعروفة ” لسيد هورن” الذي شاركه فيها البطولة نجم أفلام الحركة دافيد كارادين.
عبر مساره الفني وقف إلى جانب أكبر سادة هوليوود ونجومها العظام، كما قدم أشهر الأعمال في أدوار ظلت راسخة في وجدان محبيه وعشاق فنه، خاصة عشاق أفلام الغرب الأمريكي، لأنه بصم على أدوارا خالدة في هذه الأفلام، مثل “القافلة الأخيرة” للمخرج ديلمر دايفز “آ’لامو” للممثل والمخرج جون واين، وفيلم “طريق الغرب” للمخرج اندروماك لوغان. وهو يقول عن مشاركته في هذه الأعمال: “إنني أعشق أفلام رعاة البقر ولا أستطيع مقاومة إغرائها “.
بعد تقديمه آخر أدواره في السينما في فيلم “ألوان حقيقية” لعربرت روس عام 1991، عاش أيامه الأخيرة تحت وطأة الشيخوخة في شبه عزلة بمزرعته، مع زوجته سوزان بلانشار وابنته آنا، إلى أن فارق الحياة يوم 24 مارس 2008، مخلفا مجدا سينمائيا رفيعا وجب ذكره وتذكره في كل آن وحين، كتحية لعطاءاته وموهبته المتفردة التي أغنت المشهد السينمائي العالمي بأدوار يمكن اعتبارها أكثر من خالدة.