رولان بارت: السحر التنويمي وفوبيا السينما

السبب الذي يجعلنا نتطلع إلى كتابات رولان بارت (1915- 1980) في السينما هو أننا جميعاً نميل إلى أن نكون اختصاصيين جداً في طرائق تفكيرنا بشأن الثقافة عموما، والأفلام خصوصا.

رولان بارت أبعد ما يكون عن السينما كحقل اختصاصي، بل يمكن اعتباره مصاباً إلى حدٍ ما برهاب (فوبيا) السينما.. بالنسبة إلى شخص فرنسي على الأقل.

– 1 –

في حديثه مع جاك ريفيت وميشيل ديلاهاي في العام 1963، اعترف رولان بارت قائلاً: “أنا لا أذهب إلى السينما كثيراً، بالكاد مرّة في الأسبوع”.. كاشفاً بذلك، وعلى نحو غير مقصود، عن الشغف الفرنسي بالأفلام، والذي يمكن أن ينتقل بالعدوى حتى إلى ذلك الذي لا يهتم كثيراً بالسينما.

مصاب بفوبيا السينما؟ ربما.

هو بلاشك ارتاب في السحر التنويمي الذي تمارسه السينما، والمعضلة الملازمة – بالنسبة لمحلّل – حين يتعيّن عليه التوفيق بين استمرار الجاذبية وانقطاع ما كان يسميه العلامات. مع ذلك فإن ما كان يتعيّن عليه أن يقوله عن الأدب والمسرح والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى (عشقه الأول) يمكن تناوله بوصفه تعبيراً عن السينما، على نحو أفضل مما يقوله العديد من نقاد السينما. وما كان على بارت أن يقوله عن السينما – عموماً وفي العديد من الحالات الخاصة – اتضح أنه مشوّق ومثير للاهتمام.

– 2-

“مقاومة السينما”.. كتب رولان بارت في 1975 محاولاً أن يحدّد ما لا يحبه بشأن الوسط (السينما).. “تواصلية الصور بلاشك. الفيلم شريط ثرثار. التوكيد استحالة التشظي، استحالة الهايكو«.

بارت، المتحمّس للتشظي والهايكو، ربما اقترب أكثر من تحليل الفيلم عندما كرّس مقالةً (بعنوان: المعنى الثالث) لبضع لقطات ساكنة من فيلم  ايزنشتاين  “ايفان الرهيب”.

وقد استهل كتابه عن التصوير الفوتوغرافي بهذا الاعتراف:

“انتهيت على نحو حاسم إلى أن أحب التصوير الفوتوغرافي بالتعارض مع السينما التي مع ذلك أخفقت في فصله عنها”.

لم تكن هذه مشكلته الوحيدة مع السينما، حيث يواصل قائلاً في موضع آخر: “قيد التمثيل (representation) – المشابهة لقواعد اللغة الإلزامية – تجعل من الضروري تلقّي كل شيء: عن الرجل السائر في الثلج، حتى قبل أن يعبّر عن الغاية، كل شيء ممنوح لي. في الكتابة، على العكس تماماً، لست مجبراً على رؤية كيف يقرض البطل أظافره”.

الخلل، باختصار، أن الفيلم “الذي هو مهرجان العواطف”، كما يسمّيه بارت، يقدّم للمتفرج الكثير، مع ذلك فإن هذا الكثير لا يكفي.

– 3 –

رولان بارت، الذي ولد في العام 1915، لم ينشر كتابه الأول “الكتابة في درجة الصفر” حتى بلغ السابعة والثلاثين. لقد كان يعاني من السل الرئوي في أغلب مراحل شبابه. وقد نشر مقالاته الأولى (1942- 1944) في احدى المجلات، كما كتب مقالة عن أول أفلام المخرج روبير بريسون.

من الواضح أن بارت لم يبحث مرة أخرى في السينما حتى العام 1954 حين بدأ في كتابة سلسلة من المقالات نشرها في المجلات وجمعها في ما بعد تحت عنوان “ميثولوجيات”، وهذا يشتمل على الكتابة عن كل ضروب النشاط الثقافي.. أيضاً عن المصارعة والستربتيز (التعري أمام الجمهور قطعة قطعة) والدليل السياحي. وقد خصص للأفلام مساحةً وأتاح لها أن تلعب دوراً هاماً.

أثناء تطوير هذا التعامل – بدءاً بعون من السيميولوجيا (علم العلامات) ثم بمساعدة طريقة التحليل النفسي – شيّد بارت نقداً للسينما والذي اتخذ شكلاً معيّناً في مقالات مثل “المعنى الثالث” (1970)،  “عند مغادرة صالة السينما” (1975).

في أواخر السبعينيات وافق بارت على أن يؤدي دور الروائي وليام ثاكيري في فيلم صديقه المخرج أندريه تيشين “الأخوات برونتي”   (بينما في 1965 رفض أن يمثّل نفسه في فيلم جودار  Alphaville) كما أنه اعتزم كتابة سيناريو فيلم مبني على حياة مارسيل بروست على أن يخرجه تيشين، لكنه لم ينفّذ المشروع.

– 4  –

المعارضة المعاصرة للسيميولوجيا، بوصفها ممارسة أكاديمية جافة ومجدبة، بالتأكيد لم تبحث في التوظيف السياسي والجدلي لها، والذي قام به رولان بارت كصحفي خلال أكثر من ربع قرن مضى، حين كان يحدّد ويهاجم ميثولوجيات سائدة، وذلك على صفحات “ليتر نوفيل”.

السيميولوجيا مصطلح ومفهوم، وكان اللغوي فرديناند دي سوسير أول من صاغ هذا التعبير في السنوات الأولى من القرن العشرين عندما دعا إلى “علم يدرس حياة العلامات داخل المجتمع”. لكن جهود بارت، في الواقع، هي التي وجّهت عناية الجمهور الواسع إلى السيميولوجيا. وبتقلّد كرسي “السيميولوجيا الأدبية” كأستاذ في الكوليج دي فرانس، في أواخر السبعينيات، نبّه رولان بارت جمهوره إلى أن:

“السيميولوجيا، بقدر ما يتعلّق الأمر بي شخصياً، بدأت من دافع عاطفي على نحو صارم. لقد بدا لي (في العام 1954 تقريباً) أن علم العلامات ربما يثير ويحفّز نقداً اجتماعياً، وأن سارتر وبريشت وسوسير بإمكانهم الالتقاء والتعاون في المشروع، كانت مسألة فهم (أو وصف) كيفية إنتاج المجتمع للأنماط”.

في مقالته »الرومان في الأفلام«(1954) يشير بارت إلى أن بعض هذه الانماط، كما هي جليّة في فيلم جوزيف مانكيفيتش “يوليوس قيصر”، تثبت في النهاية أنها مسلية بعض الشيء. على سبيل المثال، يلاحظ بارت أن كل الشخصيات الذكورية في الفيلم تلبس، بشعور من الارتياح، ثياباً ذات حواشٍ من أجل اظهار أنها رومانية. يقول بارت:

مارلون براندو في فيلم “يوليوس قيصر” لمانكوفيتش

“نحن بذلك نرى هنا الاتجاه السائد من المشهدية – العلامة – وهي تعمل في أرض مكشوفة. خصلة الشعر الأمامية المنسدلة على الجبين تغمر المرء بالبرهان على أن الشخص روماني، ولا أحد يستطيع أن يشك في أنه يعيش في روما القديمة.. وهذا اليقين دائم: الممثلون يتكلمون، يفعلون، يقلقون أنفسهم، يناقشون قضايا الاستيراد العالمي من دون فقدان أيٍ من جدارتهم بالتصديق ظاهرياً، وذلك بفضل الخصلة الصغيرة المتدليّة في استرخاء على جباههم. وضعهم النموذجي العام يمكن أن يتحدّد وينتشر في أمان تام، وأن يعبر المحيط والعصور، ويندمج في وجوه المجاميع الامريكية في هوليوود. أياً كان الأمر، إن كل شيء مغروس بطمأنينة في اليقين الساكن لعالم يقطن فيه الرومان بفضل العلامات الأكثر وضوحاً وقابلية للقراءة: خصلة شعر الجبين”.

من هذا الرصد، يواصل بارت ليستشفّ اثنتين من “العلامات الفرعية” المثيرة للاهتمام في الفيلم:

(1) بورشيا وكالبورنيا ساهرتان في جوف الليل البهيم، بشَعرٍ غير ممشط على نحو جليّ.

(2) “كل الوجوه” في الفيلم “تنزّ عرقاً باستمرار” إشارة إلى “الإحساس الأخلاقي” (“أن تعرق يعني أن تفكر.. والذي يتكئ بوضوح على الأمر المسلّم به، الملائم لأمّة رجال الاعمال، بأن التفكير فعل عنيف، عملية مفاجئة وعنيفة، فيما العرق وحده العلامة الأكثر رقة، والتي لا تشكّل خطورة”. بالتالي فإن قيصر نفسه  “هدف الجريمة.. هو الرجل الوحيد في الفيلم الذي يظل جافاً، ولا يتصبّب عرقاً”).

– 5 –

عن موضوع نجوم السينما، كان لدى رولان بارت ما يقوله من أشياء كثيرة، مثيرة للاهتمام. بعد أربعة شهور من عراكه مع يوليوس قيصر، أخذ ينتقد بقسوةٍ الاستخدام المفرط لنجوم السينما في أحد أفلام ساشا جيتري:

“في التحليل النهائي، نظام النجوم ليس بلا مغالطة. إنه يتألف من تبسيط التاريخ من قِبل السينما، وتمجيد السينما من قِبل التاريخ. إنه شكل من أشكال المقايضة التي تعتبرها كلا القوّتين نافعة. على سبيل المثال، الممثل جورج مارشال يمرّر شيئاً من تألّقه الشهواني إلى الملك لويس السادس عشر، وبدوره يتنازل لويس السادس عشر عن شيء من مجده الملكي إلى جورج مارشال”.

ويستمر بارت في توبيخ جيتري لعدم أخذه درساً في تصميم الأزياء، حيث أن أشكال ملابس المرحلة التاريخية كانت زائفة، وإن كان “زيفاً مقصوداً على نحو رائع، بازدراءٍ بالغٍ للمصداقية، ورغبة في اعطاء الأزياء الخيالية بعداً ملحمياً”.

شارلي شابلن في فيلم “أضواء المدينة”

في العام نفسه، أثنى بارت على شارلي شابلن بوصفه فناناً بريشتياً يُظهر للجمهور “عماه عن طريق تقديم رجل أعمى وما يوجد أمامه”، أي ضرب من البروليتاري البدائي والذي لا يزال خارج الثورة  (في فيلمه  “الأزمنة الحديثة”).

بعد خمس وعشرين سنة، في العمود المنتظم الذي كان يكتبه في لانوفيل اوبزرفاتور، عبّر رولان بارت عن افتتانه بمشهد معين من فيلم “أضواء المدينة” حيث يضع شابلن المكياج أمام المرآة، والذي يبدو “كتحوّل أو انمساخ.. مثلما يحدث في الميثولوجيا وعلم الحشرات”.

قبل بضع سنوات من ذلك، كتب بارت عن نفسه بصيغة الغائب في “رولان بارت” قائلا: “في طفولته لم يكن مولعاً كثيراً بأفلام شابلن. في ما بعد، ومن دون أن يخفق في رؤية الأيديولوجيا المشوّشة للشخصية، هو اكتشف نوعاً من البهجة في هذا الفن، الذي هو رائج شعبياً ومعقّد في آن معاً. لقد كان فناً مركّباً، يعقد معاً عدة ميول وأذواق، عدة لغات. فنانون كهؤلاء يثيرون نوعاً من الفرح والسعادة، ذلك لأنهم ينتجون صورة لثقافةٍ هي ممّيزة وجماعية في آن”.

في العام نفسه، كتب رولان بارت على نحو شعري، عن وجه الممثلة جريتا جاربو، ذلك الشيء الخرافي بامتياز. وقد وجد بارت أن هذا الوجه يمثل “لحظة هشّة عندما كانت السينما على وشك أن تنتزع المظهر الوجودي من الجمال الجوهري، عندما يميل النموذج الأصلي نحو فتنة الوجوه الفانية، عندما صفاء الجسد كجوهر يخلي مكانه لغنائية المرأة”.

مقارناً بين وجه جاربو ووجه أودري هيبورن، ذي الفردية المميزة، يقرّر أن خصوصية جريتا جاربو هي من خصوصية وضع المفهوم، بينما خصوصية أودري هيبورن نابعة من وضع الجوهر. وجه جاربو هو فكرة.. وجه هيبورن هو حدث”.

– 6 –

ثمة طريقة أخرى للنظر إلى رولان بارت والفيلم،أقل شعرية، لكنها لقيت استحسان بعض الاكاديميين. هذه تشمل رؤيته بوصفه واضعاً لنظام (system) رائع، والذي تحليله النصي الشهير لرواية بلزاك القصيرة “سارازين”، في دراسة معروفة كـ – Z/s، يفكك »النص الواقعي«إلى »خمسة مستويات من الدلالة«أو »الشفرات«. من ميثودولوجيا (علم المنهج) تحليل السرد النثري – الذي استمده رولان بارت إجمالاً من احدى حلقاته الدراسية – حاول بعض أكاديميي السينما أن يؤسسوا طريقة فهم نظامية أكثر من دراسة الأفلام.

من دون رغبة مني في رفض هذا النوع من العمل، لا أستطيع أن أقول بأنني وجدت ذلك نافعاً كما هي كتابات رولان بارت الأكثر شعرية وإيحائية (حتى لو كانت أقل نظامية أو اعتناء بالتصنيف والترتيب) ذلك لأنني ربما أثمّن كتاباته لما تتضمنه من أسئلة أكثر مما تتضمنه من أجوبة، وبسبب طابعها الفني (خاصية اللعب) أكثر من طابعها العلمي (خاصية العمل). بهذا الخصوص، أسلوبياً ومن جهة تحطيم المعتقدات التقليدية، رولان بارت هو أقرب إلى ناقد سينمائي أمريكي مثل ماني فاربر – بالأخص في تدفق وسرعة وحركة تفكيره – من زملائه السيميولوجيين الفرنسيين مثل ريمون بيلور وكريستيان ميتز. بإمكان المرء أيضا أن يبرهن بأنه كلما كانت الطريقة التحليلية أكثر قابلية للتعليم فإن تطبيقها آليا يصبح أكثر يسراً، وهكذا رأينا جيلاً من الأساتذة والطلبة الخريجين ينزعون غالبا إلى تطبيق S/Zبدون تفكير عميق أو نفاذ بصيرة.

– 7 –

“الايديولوجيا هي، في الواقع، نتاج مخيلة عصر ما، السينما نتاج مخيلة مجتمع”..

(عند مغادرة صالة السينما)

في العام 1959، مباشرة حين بدأت الموجة الجديدة الفرنسية في جعل نفسها محسوسة، نشر رولان بارت نقداً لأول أفلام كلود شابرول “سيرج الجميل”، والذي وصفه باليميني بسبب محاولة الفيلم فرض صورة ساكنة للإنسان.

الطريقة الفظة التي بها ينظر المرء إلى شخص ما أو شيء ما كان يمكن أن تصبح كما كتب بارت: “الأساس لفعل التهكم أو فعل الحنان”. لكن الطريقة الفظة التي يتوصل بها المرء إلى ثيمة أو فكرة ما يمكن أن تكون زائفة ومضللة. يضيف بارت:  “ما هو بغيض بشأن السينما، أنها تجعل المسخ قابلاً للحياة أو للنمو. حتى أن بوسع المرء في الوقت الحاضر أن يزعم بأن الاتجاه الطليعي كله يعيش على هذا التناقض: إشارات حقيقية، معنى زائف”.

كلود شابرول

ملخصاً ما أحبه في ميلودراما شابرول الريفية بوصفها “واقعية مصغرة”، قام بارت بعقد مقارنة بين “سطحه الوصفي” – كما في إيماءات الأطفال الذين يلعبون كرة القدم في الشارع – وسطح فلوبير..  “الاختلاف، الذي هو جدير بالاعتبار، أن فلوبير لم يكتب قصة أبداً”. إن استبصار فلوبير جعله يدرك بأن القيمة الجوهرية لواقعيته كانت في خلوّها من المغزى.. “وأن العالم لا يدلّ على شيء”، أما واقعية شابرول فهي على العكس تماماً.. “في موضعها على نحو راسخ تستثمر الشفقة والاخلاص، أي الأيديولوجيا.. سواء شاء ذلك أم لم يشأ. ليس ثمة قصص بريئة: لمائة سنة ماضية، كان الأدب يتصارع مع هذه النكبة”.

بالنسبة لرولان بارت، فن اليمين عند شابرول دائماً ينسب معانٍ للمحن الإنسانية من دون استنطاق الأسباب.

“القرويون يسرفون في معاقرة الخمر. لماذا؟ لأنهم فقراء جداً، ولا شيء لديهم ليفعلوه. لِم هذا البؤس، وهذا الانغماس في الملذات؟ هنا يتوقف استقصاء الأب فجأة أو يخضع للتصعيد: إنهم بلاشك أغبياء في الجوهر، إنها طبيعتهم. يقين المرء لا يطالب بأخذ دروس في الاقتصاد السياسي لمعرفة أسباب الفقر في الريف، لكن ينبغي للفنان أن يعترف بمسؤوليته عن التعبيرات أو المصطلحات التي ينسبها إلى تفسيرات: هناك دائما لحظة يشلّ فيها حركة العالم، وكلما جاءت متأخرة كان ذلك أفضل. أسميه فن اليمين هذا الافتتان بالثبات، بالسكونية، والذي يجعل المرء يصف النتائج من دون أن يسأل أبداً (لن أقول عن الأسباب بل) عن الوظائف.

– 8 –

بعد أربع سنوات، في مقابلة مع مجلة كاييه دو سينما (دفاتر السينما)، تابع رولان بارت هذا المفهوم إلى مدى أبعد باستدعاء فن ارتاب في الأيديولوجيا عن طريق تعطيل أو تعليق المعنى.. وهو تطوير، من بعض النواحي، لأفكار بريشت عن التغريب، وأفكار الروائي الجديد ألان روب جرييه بشأن التشيؤ في الفن.

“أسأل نفسي الآن عما إذا كانت هناك فنون رجعية بطبيعتها وتقنياتها ذاتها. أعتقد ذلك في ما يتصل بالأدب. ولا أظن أن أدب اليسار سيكون ممكناً. أدب اشكالي.. نعم، هذا ممكن.. أعني، أدب المعنى المعلّق: الفن الذي يثير استجابات لكن لا يوفّرها. أظن أن الأدب يفعل ذلك في أفضل الأحوال. بالنسبة للسينما، لدي انطباع بأنها – من هذه الناحية – تقترب كثيراً من الأدب. وبسبب بنيتها ومادّتها، هي مهيأة على نحو أفضل بكثير من المسرح لتحمّل مسؤولية أشكال كنت قد سمّيتها تقنية المعنى المعلّق. أظن أن السينما تواجه صعوبة في توفير معان واضحة، وهذا ما ينبغي أن تفعله في حالتها الراهنة. إن أفضل الأفلام، بالنسبة لي، هي تلك التي تعطّل المعنى.. وهي عملية صعبة جداً تقتضي، في آن واحد، تقنية رفيعة وأمانة فكرية تامة، لأن ذلك يعني تحرير المرء لنفسه من كل المعاني الطفيلية”.

كمثال رئيسي لما كان يعنيه، استشهد بارت بفيلم لوي بونويل “الملاك المدّمر”، وهو فيلم رعب هزلي رائع عن ضيوف أثرياء يجدون أنفسهم، على نحو يتعذّر تفسيره، عاجزين عن مغادرة المكان الذي يقام فيه حفل العشاء. هنا، حسب قول بارت، المعنى معلّق على نحو مقصود، من دون أن يصبح مبتذلاً أو عبثياً في فيلم  “يرجّ المرء بعمق، وراء العقائدية، وراء المذاهب”. بالحسّ الشائع لكن الدقيق.. إنه الفيلم الذي يجعل المرء يفكر.

– 9 –

الإشارة إلى الأفلام في كتابات رولان بارت تشكّل جزءاً هاماً من نسيج هذه الكتابة وبنيتها الإجمالية. في العام 1955، وقد استثاره إلى حد ما فيلم جاك بيكر TouchezPas au، حلّل بارت “رباطة جأش”  أفراد العصابات في الأفلام البوليسية التي تدور حول رجال العصابات، مندهشاً من التوكيد البصري، غير اللفظي، لسلوكهم الذي يضمن بأن:

“كل رجل يستعيد مثالية عالم استسلم لمعجم ايمائي محض، عالم سوف لن يعود يتباطأ تحت أغلال اللغة: أفراد العصابات والآلهة لا ينطقون، إنهم يؤمنون.. وكل شيء يتحقق”.

– 10 –

أحيانا يمكن لفيلم معيّن أن يحرّض رولان بارت على التوصّل إلى صيغة هامة. بالنسبة للعديد من القراء، المقطع الرئيسي في “لذّة النص” هو الفقرة التي تربط السرد بأسطورة أوديب. ويشير بارت في النهاية إلى أنه كتب هذا بعد مشاهدته فيلم الألماني فريدريك مورناو “فتاة المدينة” (وهو فيلم أنتج في هوليوود العام 1929) عند عرضه في التلفزيون الفرنسي.

في كتابه الذي يحمل عنوان “رولان بارت”  ابتهج بارت بـ “الثروة النصيّة” التي وجدها في فيلم الأخوة ماركس  “ليلة في الأوبرا”، والتي اشتملت على كابينة الباخرة المكتظة كلياً بالأفراد، تمزيق الاتفاقية أو العقد، الفوضى النهائية لديكورات الاوبرا، التي هي رموز للتدمير المنطقي الذي يمارسه النص.

في الكتاب ذاته، قارن عملية الكتابة لديه بالبروفة المسرحية المصوّرة في فيلم جاك ريفيت (الذي بدوره تحدّث كثيراً عن تأثير بارت على أعماله).

في ما بعد، في كتابه “حديث العاشق: شذرات” (1978)، سوف يورد مشهداً من فيلم بونويل “سحر البورجوازية الخفي” حيث الستارة ترتفع لا لتُظهر خشبة المسرح بل لتُظهر الصالة المزدحمة والحضور يتفرجون على الشخصيات البورجوازية وهي تتناول الطعام في ارتباك شديد.

لقطة من فيلم “سحر البورجوازية الخفي” لبونويل

وفي عمود له في إحدى المجلات سنة 1979، أشار بارت إلى ضيقه وانزعاجه من جمهور كان يضحك على الأشياء ذاتها التي كان يحبها كثيراً في فيلم إيريك رومر  “برسيفال”  (مثل بساطة وسذاجة البطل). كما سجّل استمتاعه بمشاهدة الفيلم الفرنسي جداً “فنسنت، فرانسوا، بول.. والآخرون” على شاشة التلفزيون.. “النمط هنا مؤمّم.. إنه يشكّل جزءاً من الديكور وليس جزءاً من القصة”.

– 11 –

مقالة “عند مغادرة صالة السينما” تبدأ بوصف رولان بارت لمدى ولعه بتلك الفعالية اللافتة للنظر بغرابتها (الخروج من صالة السينما) والتي يشبهها بالخروج من حالة التنويم المغناطيسي.

متأملاً ظلمة الصالة وما توحيه له – “الافتقار إلى الطقس”  و”استرخاء الوضعية الجسمانية” – يستقرّ بارت على الصورة الشعرية للشرنقة: “متفرج الفيلم قد يتبنى شعار دودة القز: لأنني محتجز فأنا أعمل، وألتمع بكل كثافة رغبتي”. “غائصين في ظلمة الصالة (الظلمة المكتظة، المجهولة) نحن نكتشف المصدر الفعلي للسحر الذي يمارسه الفيلم (أي فيلم). تأمّل من ناحية أخرى التجربة المعاكسة.. تجربة التلفزيون الذي يعرض أيضاً أفلاماً: لا شيء، لا سحر. الظلمة تتبدّد، المجهولية مقموعة، الحيّز مألوف ومنظّم (بواسطة الأثاث والأشياء المألوفة) ومروّض. الإيروسية – أو شهوانية الحيّز.. من أجل التوكيد على طيشها وعدم كمالها – هي ممنوعة”.

يرى بارت بأن الطريقة الوحيدة لكي ينتزع المرء نفسه من سحر المرآة (أي الشاشة) هي أن يحطّم “حلقة الثنائية”.. أي يتحرّر من سيطرة التنويم. ويمكن تحقيق ذلك باللجوء إلى قدرة المتفرج النقدية (السمعية او البصرية) كما في تأثير التغريب عند بريشت.

وبدلاً من الذهاب إلى السينما “مسلّحاً بأيديولوجيا مضادة” فإن بارت يقترح طريقة أخرى: أن يدع نفسه تستغرق كلياً، كما لو أن لديه جسدان في وقت واحد، أحدهما نرجسي والآخر مشاكس ومضاد لرغبات المرء. في هذه الحالة لا يتّجه ولعه، أو تعلّقه الشديد، بالصورة بل إلى ما يتخطاها: الصالة، الكتلة الغامضة من الأجساد الأخرى (المتفرجون)، أشعة الضوء، المدخل، المَخرج.

ويستنتج بارت بأن ما يفتننا هو المسافة المتّصلة بالصورة.. المسافة التي هي ليست فكرية بقدر ما هي دالة على الحب.

على الرغم من مناوشات رولان بارت العديدة مع السينما، طوال ربع قرن من الكتابة، يخامر المرء شعور بأن العديد منها، في التحليل الأخير، كانت مناوشات عاشق.. حديث عاشق.

Visited 73 times, 1 visit(s) today