“روبي سباركس”: عفريتة هانم على الطريقة الأمريكية!

لولا أن صنّاع الأفلام التي نعتبرها في عُرف السينما مغامرة انتاجية يحملون من الشغف ما يساوي ما يملأهم من الأمل لما تنوعت السينما العالمية وارتقت على عدة مستويات. عندما غامر أحدهم بإخراج (أليس في بلاد العجائب) اتهموه بالخبل، لكن لولا حماسه (حتى وإن فشل فعلا كما تنبأ الشامتون) لما ظهر (ساحر أوز) العالمي، وما لمعت الشاشات فيما بعد بابطال مجلات الكوميكس التي لا يدمنها سوى فتى منطوٍ يغطي وجهه النمش، لولا إيمانهم بصوت هذا الصبي لما كان هناك سوبرمان أو مجموعة آفنجرس حتى يبدأ السادة في مانهاتن بدعم خط مارفل الإنتاجي لتقديم أفلام البوكس أوفيس في كل عام، مرورا بسلسلة باتمان وابن الجحيم وكابتن أمريكا حامل اللواء العصري سليل رامبو!

الأفلام التي تتناول حياة كاتب والآلية الإبداعية للكتابة يسير أصحابها على حد السكين، فبالرغم من شغف أرباب القلم بالموضوع، ينصرف القطاع الأكبر من المشاهدين عنها، تماماً كما يحدث مع الأفلام التي تتناول عوالم شديدة الخصوصية، كحياة أسطورة الشطرنج بوبي فيشر (التضحية ببيدق) لدرجة أن عنوان الفيلم نفسه لا يمكن أن يفهم مغزاه إلا لاعب حاذق، لكن الفضل يعود لفيلم متواضع الانتاج منذ عدة سنوات بعنوان (البحث عن بوبي فيشر)، وهكذا كانت أفلام الكتابة والكتّاب عاثرة الحظ في أغلب الأحوال (آيرس، ميس بوتر، كاتب..كاتب!) حتى أن المخرج يعمد إلى دمج الموضوع مع خط حكائي أخر (فيلم “طريق مختصر” يحيله إلى فانتازيا، وفيلم “كلمات” يتحول إلى رومانسية تاريخية في زمن الحرب)، لكن لولا هذا الحماس و(الإيمان بالآخر) و(منح الفرص) لما التقط الخيط الكاتب العظيم ستيفن كنج وصارت الأفلام المأخوذة عن رواياته التي تتحدث عن حياة الروائي مثل (ميزري) و(النصف المظلم) و(إشراق) من ضمن أعلى الأفلام مشاهدة.

والآن نشاهد فيلم الكاتبة زوي كازان، حفيدة المخرج الكبير إيليا كازان، الجديد (روبي سباركس) الذي يتناول فكرة مدهشة وعميقة جداً مفادها أن الأنثى المثالية والمُلهمة وهم أحمق للكتّاب الذكور، ومن الغباء أن نجذب من نحب تحت ضوء نماذج مثالية خاصة لا تمت للواقع بصلة. الأنثى في العادة ترى العالم بعيون المؤلف الرجل الذي يعتقد أنها خليلة دافئة وجميلة ومراهقة وجاهزة لمتعته 24 ساعة وسبعة أيام كل أسبوع! وهو خطأ، خطأ!

حلم كالهاجس

 الفيلم يقدم لنا الكاتب (كالفين واير فييلدز)- الممثل بول دانو- المقيم في لوس أنجليس، تستعد دار النشر التي تتولى طباعة كتبه للاحتفال بصدور الطبعة العاشرة من روايته اليتيمة، بالرغم من هذا فهو غير سعيد، بل يعاني من إحباط وتعاسة عميقة، كيف لا وقصة حبه الوحيد مهددة بالضياع.

كالفين رجل حالم متردد وفصامي وكان يتلقى علاجاً نفسياً يُخلّصه من خصال الانطواء والميول المرضية التي يعيشها بشكل ما مثل اقتناؤه كلباً لا حباً في الحيوانات الأليفة وإنما ليلفت إليه الأنظار، إنه خجول مضطرب لكنه مغرم بالظهور وحب الاستعراض. يقص على معالجه الدكتور روزنتال حلماً لطيفاً يراوده كل ليلة كالهاجس: شابة كالحورية تزوره كل ليلة في المنام، إنها الملهمة التي لا تحبه ككاتب وإنما لشخصه. كذلك يصارح طبيبه بمشكلة قفلة الكاتب الشهيرة، فيملي عليه الأخير واجباً منزلياً أشبه بتمارين ورش الكتابة إياها: قم بوصف فتاة أحلامك في صفحة واحدة.

كالفين يحل الواجب، ويحلم بمزيد من اللقاءات والمحادثات بينه وبين الملهمة الخيالية، وفي كل صباح يهرول إلى آلته الكاتبة ويعزف عليها كلمات وكلمات، تتراكم لتصنع مخطوطه الجديد عن الشخصية المثيرة للاهتمام والشغف، الرسامة الموهوبة (روبي سباركس) تلعب دورها البطلة وكاتبة الفيلم الجميلة زوي كازان (أمها روبين سويكورد كاتبة حوار فيلم “الحالة المثيرة لبنجامين بوتون”، ووالدها نيكولاس كازان هو كاتب فيلم “عكس الحظ” عام 1999) هذه الفتاة تتجسد من الأوراق وتخرج للحياة الواقعية، حواء تتخلق من ضلع آدم مستعدة بالكامل لتعطيه، وهنا يأتي السؤال الهام: ماذا لو كان بمقدورنا أن نخلق بأيدينا شريك حياتنا؟ وهل من الصواب أن نمنحه تلك القدرة الخيالية على المنح في سبيلنا دون تمييز؟

في البداية يجد في داره كُلَما استيقظ أشياء نسائية هنا وهناك، خصلة شعر حريمي أو قلم شفاه، أو سوتيان، حتى يجد (روبي) كاملة تعد له الإفطار في المطبخ في إحدى المرات. في البداية يظن أن حالة الفصام التي أصابته تفاقمت إلى هلاوس بصرية، لكنه يفاجأ بأن الآخرين يرونها ويسمعونها معه وليست مثل سامية جمال (عفريتة هانم) بالنسبة لفريد الأطرش في الفيلم المعروف عندما كان اسماعيل ياسين ينبِّه أفراد الفرقة ألَّا يجزعوا؛ فالأستاذ يُكلم نفسه أحيانا وينفعل ويثرثر مع الهواء، هذه علامات العبقرية!

كائن غامض

كالفين، المؤلف، يهرع لإخبار شقيقه الذي اعتاد نوباته ووساوسه، ويتشكك فيه هذا الأخير حتى بعد أن يرى (روبي) ويلمسها، لكن (كالفين) فيما يشبه ألعاب التحدي يحاول اثبات صدق حكايته الغريبة لشقيقه (هاري)، وينطلق كالفين –لاثبات سلامة عقله- إلى الآلة الكاتبة ويكتب في المخطوط الطازج أن روبي قادرة على التحدث بالفرنسية، وفي الحال تتوقف الفتاة الجميلة عن الكلام بالإنجليزية التقليدية وتتحدث الفرنسية بطلاقة.

 يهز الشقيق هاري رأس متعجباً ويؤكد على كالفين أن يأخذ حذره من النساء، بالرغم من أن المؤلف يأتمن أخيه على السر ويتعهده ألا يخبر أحداً بأصل الفتاة، لكنه يعود ليحذره؛ حتى لو كانت المرأة من صنع يديك وأفكارك، فهي كائن غامض لا يمكن أن تثق به وبمقدورها أن تتغير من النقيض في لمح البصر. وبينما كان المؤلف في قصة (منسق كلمات للرب) البديعة لستيفن كنج يتحكم في تفاصيل أسرته بكبسة ذر، يضغط على delete فتختفي زوجته المشاكسة مثلاً، فإن كالفين لا يتعرض لبنت أفكاره بأي إساءة لفظية أو تحرش جسدي فظ، لكنه طفل أناني صنع أمه بأنامله ويرغب في الاستحواذ على كامل اهتمامها، هكذا يتحكم في عواطفها ودقائق نفسيتها بحركات بسيطة على آلته الكاتبة بالرغم من أنه كان في البداية يقتصر في تعامله على أمور شكلية لا تتجاوز الصفات التي تعرَّف عليها في الحلم الأول، لكن العنت الذكوري يتسلل إلى تصرفاته لا إرادياً حتى يجعلها كدمية الماريونت معلقة بخيوط في كفيه.

 (روبي) تشعر بالضجر، إنها ترغب في بعض التنفس والاستقلال وهذه الرغبة في شيء من الخصوصية تثير قلقه، فمعنى هذا أنها قد تتركه، ولكن هل يحق له أن يقلق وبمقدوره أن يجعلها أكثر نساء العالم إخلاصاً ببضع كلمات يسطرها على الصفحة البيضاء؟! روبي تمشي وتتكلم كأي إنسان، وتقدم نفسها لمعارفه على أنها صديقته التي تعيش معه، فتزداد ثقة كالفين بنفسه حتى تصل إلى الغرور ويعتورها شيء من الصلف الذكوري فبدأ يعطيها الأوامر بعدما كان قد وعد بأن يترك لها حرية التصرّف، إنه يحاول أن يجعلها نسخة نسائية منه أكثر مثالية لدرجة أنه عندما يصحبها لمنزل عائلته يبقى هو في مقعده حبيس الانطواء الطبيعي وتنعم هي بالصحبة والمرح! هي تثرثر معهم وهو يقرأ وحده، فشعر بالغيرة منها وتنتقل إليها روح الكآبة بالتبعية ويمضي هو الوقت يحدق في الورقة البيضاء مغمور بالوحدة وتتوتر العلاقة بينهما وعندما يخشى أن يتحول صنع يديه إلى كارثة، يكتب بنفسه أنها تشعر بالسعادة الغامرة، وفي الحقيقة تكون سعادة مفتعلة يشعر بها، فيغير سطر النهاية أكثر من مرة وفي كل مرة تكون النتيجة ألعن.

ملاحظات

أخرج الفيلم الزوجان دايتون وفاريس بعد نجاح فيلمهما السابق (الآنسة شروق الصغيرة) في إبراز المقصود بيسر على الشاشة، وخصوصا باللجوء لنغمات فرنسية رشيقة لهولدن بلاستيك، وسيلفي فارتان، وبيرتراند ديريك هاريوت مع نغم كونترباص حزين من آن لآخر حالما تنزوي (روبي) عندما تنفتح على فهم طبيعة العلاقة بينها وبين مبدعها. لا توجد لدينا أعمال فنية تتناول أزمة الكاتب أو الفنان عموما إلا بمنظور سطحي سخيف، فهو مبهرج أحمق يلعب الدور الثاني ليضحك المتفرج (رامي قشوع في “بطل من ورق” عندما كان ممدوح عبد العليم يتغابى أكثر من اللازم والفيلم في المجمل مسروق) أو هو بطل خارق جدا مثل محمد فؤاد في (رحلة حب) فهو مطرب وملحن ورسام وشجاع ورومانسي، بل ويلقي نكاتا في الجنازات، أو تكون البداية واعدة ثم تتفكك المفاهيم كالعادة لإرضاء الطبقات الدنيا في المنظومة، كما في فيلم “درب الفنانين” مثلا، الذي لا توجد فيه سوى مشاهد أولى، آفان تتر، تلخص مأساة نحات شاب متمرد “محمد صبحي” تتحمس له ابنة مدير المعهد وزميلته الجميلة “وفاء سالم”، لكن العناوين تحمل أسماء أخرى وتتحول فكرة يوسف فرنسيس إلى فيلم حواري آخر، يهرج فيه أحمد بدير، ويتلوّى صبحي، وفي النهاية تنتصر بنت البلد معالي زايد ويعيشان معا فوق الفرن ومحل الطعمية، ولا يبقى أي شيء من موضوع فرنسيس أو نضارة وفاء سالم أو الهدف الذي اجتمع من أجله صنّاع الفيلم، وأخيرا أرجو أن يتعلم أهل الفن الكرام عندنا من الموازنة بين التعمق في دراسة سر الصنعة والإيمان الحقيقي و(الصحيح) بما يرجونه للأجيال القادمة من الفنانين والمشاهدين وناس البلد.

Visited 99 times, 1 visit(s) today