رؤية نقدية: نهايات الأفلام أساس نجاحها

 يخضع كل عمل سينمائي بالضرورة لخماسية المسار الحدثي من بداية، وبداية التغيير، والعقدة، ومحاولات التغيير، ثم النهاية التي تشكل قفل العمل وخاتمته، والمنحنى الحدثي يبلغ ذروته في العقدة لتتبعه لحظات الصراع والتصارع من اجل الوصول للحل فتكون الدقائق الاخيرة من الشريط حاسمة في صقل العمل فتجعله يسمو أو يهوي بفعل عبقرية بنائها، وقدرة المخرج على فك عقد الاحداث بشكل فني يجمع بين قوة الفكرة وجمالية الصورة ودقة الرسالة.

لذلك تعتبر النهاية الخانة الأهم في خماسية المسار الحدثي رغم ضيق حيزها الزمني بالشريط.لا شك أن المشاهد للشريط السينمائي وإن كان يستمتع بالشريط فإن لهفته لنهايته تكون أشد وألح، لأنه وفي إطار تفاعله مع الأحداث يطمع في إراحة نفسه من مؤثر العقدة ويستعجل الختم ليبلغ الوضع السوي وضع الارتياح اللاشعوري، فزخم الأحداث القاسية يخلق شعوراضطراب داخلي ينتج عنه وضع انفعال بسبب فعل قوة الأحداث المؤثرة، فيرغب المتفرج في إعادة التوازن لنفسيته رغم ان الموضوع فقط شريط سينمائي.

تتحول خاتمة الشريط إلى مبتغى يرغب فيه المشاهد أحيانا أكثر من رغبته في توالي الأحداث المتشابكة لبلوغ الارتياح المنشود.وهو الارتياح الذي تخلقه النهاية.

وقد اثبثت الدراسات ان جل المتتبعين للمسلسلات يصبحون في حالة غير طبيعية اذا تعددت الحلقات وطال الانتظار ليصبح همهم هو الوصول الى الحلقة الاخيرة وليس الاستمتاع باحداث المسلسل. ولذلك لا بد من الوقوف عند هذه المحطة المبتغاة من العمل السينمائي لقراءتها.

في هذا المقال سأتوقف عند أنواع من النهايات وأبين إيجابياتها وسلبياتها بشكل دقيق ولكن قبل ذلك لا بد من أن أبين قيمة النهاية في الفيلم.

 إن نهاية الفيلم هي آخر ما يشاهده المتفرج وهي بذلك زبدة الفيلم وخلاصته ونقطة نهايته ولا شك أنها تكون الأرسخ بمخيلته، وقد صدق المثل العربي القائل: إن الأمور بخواتمها أو المثل الذ ي مجد الختم بقوله “ختامه مسك” ومن هنا يصبح البناء السينمائي للخاتمة مسألة أساسية لإنجاح العمل، والملاحظ أن أعظم الأعمال السينمائية والتي حصلت على جوائز عالمية هي أعمال فيها نهاية متقنة ومبدعة منذ بداية السينما إلى الآن، من ذلك بعض أفلام سيرجيو ليوني وأفلام كاميرون  وغيرهما فتفوق افلامهم يعزى لروعة النهاية.

ومن دون شك فإن كل شريط توفرت فيه حبكة النهاية بتقنية عالية وإبداع فإن الفيلم غالبا ما يحصل على جوائز الأوسكار وينال رضى المشاهد. وهذا موضع الخلل بالنسبة للسينما المغربية خصوصا والعربية عموما، فهي سينما تركز على العقدة والأحداث ولكنها تقدم للمشاهد نهاية سخيفة في الغالب وضعيفة البناء الفكري والفني بل وكثيرة هي الأفلام التي ليس فيها نهاية أصلا، ولذلك تسقط هذه الأفلام من عين المشاهد حتى وإن كانت عقدتها جيدة وأحداثها مشوقة …لذلك فالنهاية هي الحكم على قيمة الإبداع غالبا.وهي تأشيرته للخلود.

أنواع النهايات

تتعدد نهايات الأفلام بحسب قناعة المخرج، وله مبررات تعلل هذا الاختيار، غير ان النهايات لا ترتبط فقط بالاحداث بل ايضا بخلفيات يستبطنها المخرج احيانا  سأحاول بيانها.

إذن قلت بأن النهايات متعددة ومنها نهاية يساير فيها السينمائي رغبات المشاهد طمعا في كسب وده من خلال وضع خاتمة تناسبه وتريحه فيموت مثلا الشرير وينتصر البطل…وقد تكون هذه النهاية أحيانا غير مناسبة لمسار النظام الحدثي ومع ذلك يعكسها المخرج لكسب ود المشاهد وإراحته…هذا النوع من النهايات تقليدية عرفتها السينما الايطالية والفرنسية والامريكية. بشكل ملفت.وغالبا ما تجعل المتفرج غير متفاعل مع الأحداث لأنه يكون متوقعا للنهاية الحسنة ويعرف مسبقا أن البطل سينتصر وأن ما يتمناه سيحصل.

في هذا النوع من النهايات مخادعات تصور الواقع بشكل مريح وتبعده عن واقعية النكبات المتتالية وهنا لا يصبح الشريط ممثلا لواقع ولكن ممثلا لأمل كاذب غالبا ما لا يتحقق واقعيا ولكنه يتحقق سينمائيا، ولا زلت أذكر أنني كنت أتتبع يوما شرطا فطلب مني شخص مرافقته لشغل فاعتذرت لكوني كنت متشوقا للنهاية فقال لي وهو لم يشاهد الشريط أصلا – البطل سينتصر ويقتل الشرير ويتزوج بحبيبته وكفى.

أصررت على البقاء وكانت النهاية كما قال تماما…وهنا تساءلت أين هو الفرق بين كاتب السيناريو وصديقي؟ وفعلا تساؤلي في محله، إذ ماذا أضاف صاحب الفيلم من خلال عمله هذا للمتفرج..إنهما يلتقيان في صياغة خاتمة ساذجة،  وهذا ينزل صاحب الفيلم إلى مستوى العامة ويبعده عن عوالم الإبداع الفكري، وأنا أرى أن الخاتمة لا يجب أن ترضي الجمهور ولكن ترضي المسار الحدثي وتفضي لنهاية منطقية تقبلها الأحداث وإن تعارضت مع ميولات المتفرج وإلا فما هو الفرق بين المبدع والمتلقي.

وهذا لا يعني مخالفة انتظارات وتصورات المتلقي للنهاية ولكن يعني ضرورة ربط النهاية بمسار الأحداث بشكل تصاعدي قد يساير رغبة المشاهد وقد يخالفها، ولكنه لا يجب أن يخالف المسار المنطقي للأحداث فقط من أجل إرضاء المتفرج.بالسقوط في النهاية الميثولوجية التي تجعل الخير ينتصر على الشربالضرورة ولو بمعجزة لا يقبلها منطق الاحداث بالشريط.

هناك نوع ثان من النهايات وهو النهاية المفاجئة وغير المتوقعة، وهذا النوع من النهايات  التي يطلق عليها البعض النهايات الهيتشكوكية،  تعطي تصورا فكريا خاصا للسينمائي الذي لا يهمه موقف المتفرج بل يرضي فكره ولو على حساب رضى الجمهور.

 وهذا لا يفقده عطف المشاهد بل يكسب احترامه لأن قوة الاختلاف في النهاية تظهر للمتفرج الاختلاف الفكري للسينمائي، وقدرته على خلق نهايات تكسر النمطية لتخلق الصدمة كالرجة الكهربائية التي تحرك المشاهد، وتجعله بالضرورة ينخرط  في مناقشات فكرية لهذه النهاية، تضمن لها الخلود، وتصبح مادة دسمة في النقاشات النقدية، وهذا الاختلاف في النهايات قد يحولها أحيانا إلى نظريات فكرية كما هو حال فيلم “بسيكوز” التي أضحكت نهايته جزءا من نظريات علم النفس، تماما كما كانت نهاية  اسطورة الملك أوديب مصدر نظرية عقدة أوديب الشهيرة.

إن الأفلام الخالدة التي نقشت بذاكرة العالم لا تكون نهاياتها من النوع الذي يرضي المتفرج بل من النوع الذي يخلق نهايات من رحم الفكر الإنساني العميق والذي يمتد طاقاته من مسار الأحداث لا من رغبات المشاهد.

ونجد هناك نوع ثالث من النهايات في الأفلام وهي نهايات مفتوحة بمعنى أن المخرج يعطي نهاية مزدوجة تراوح بين إرضاء المشاهد ثم فرض استمرارية للعقدة ومن أمثال ذلك، صراع سكان مدينة مع ديناصورات تنتهي بالقضاء عليها كلية، وبينما يتنفس المتفرج الصعداء، وقبل الجنريك يظهر المخرج صورة بيضة ديناصور تتفتق بين صخور كهف خفي، مما يوحي بأن النهاية تتبعها عقدة أخرى..فهي نهاية وغير نهاية.

ومن بين أنواع النهايات المفتوحة أيضا تلك التي ينهي فيها المخرج شريطه السينمائي والأحداث معلقة، فيصدم الشريط المشاهد بكتابة الجنريك بدون نهاية. ومرد ذلك إلى أن المخرج تعذر عليه إيجاد حل لشريطه إما لكثرة عقده أو لعدم منطقية الخاتمة أو لعجزه أصلا عن إيجاد خاتمة، أو لرغبته في انجاز جزء ثان لشريطه، فينهي الشريط دون أن يقدم نهاية ويعلل ذلك بمبرر تافه وهو أنه يريد أن يترك الفرصة للمشاهد لوضع نهاية تناسبه، وهذا كلام تافه لا يستقيم وفي الوقت نفسه يحكم على العمل كله بالضعف، ويجعل المتفرج يسخط ويغضب كتعبير عن عدم رضاه بهذه النهاية اللانهاية مما يجعله يندم على تتبعه الشريط السينمائي ككل وهذا حال جل أفلام المغرب العربي تقريبا.

وهناك نوع من النهايات السخيفة التي نجد فيها استهانة بالمتفرج وهي تلك التي تتعقد فيها الاحداث الى درجة الغرابة، فتنتهي الأحداث فجأة باستفاقة البطل من كابوسه، فتصبح الأحداث عبارة عن كابوس مزعج ليس الا، وفي هذا النوع تهرب واضح من البحث عن الحل، وهذا النوع من النهايات المتكررة في أعمالنا يشعرنا بالخيبة ويسقط العمل كله مادام حلما لبطل استفاق منه.

إن الفيلم إبداع، والإبداع لا يقبل التحايل ولا المساومة، بل يتطلب الصدق والإجهاد والاجتهاد  ولذلك فرسالتي للمخرج السينمائي هي أن يعطي وقتا أكثر للنهاية، وأن يقوم ببنائها بشكل أدق وأعمق لأنها هي التي ستوشح عمله، وهذه الخاتمة يجب أن تساير فكرة النص وفكرة المخرج سواء أناسبت رغبة المشاهد أو لم تناسبه، ولهذا على المخرج أن يختار نوع الخاتمة (مغلقة أو مفتوحة، متوقعة أو غير متوقعة..) بشرط أن يرضي ثقافته وأن تكون هذه الخاتمة تحفة إبداعية تضمن للعمل عالميته وديمومته وأن تبنى بشكل احترافي يمتع المشاهد، ويثير اهتمامه، ويحرك فيه غريزة النقاش والسؤال والتساؤل وبذلك تصبح أفلامنا ذات بعد إبداعي يجمع بين جمالية الصورة وعمق الفكرة بعيدا عن كل مساومة لعاطفة المتلقي. 

Visited 114 times, 1 visit(s) today