رؤية مغربية نقدية لفيلم “ياخيل الله” لنبيل عيوش

كتب الناقد المغربي محمد بنعزيز مقالا في نقد الفيلم المغربي “ياخيل الله” للمخرج نبيل عيوش بعنوان “نبيل عيوش نضج” نشرته مجلة “هسبريس” الالكترونية المغربية (بتاريخ 14 أبريل)  ننشر هنا نصه…

شاهدت الفيلم مرتين في الدورة الثانية عشرة من مهرجان مراكش دجنبر 2012، كانت القاعة ممتلئة في قصر المؤتمرات وأكثر امتلاء في سينما كوليزي. في أول لقاء بعد العرض، وكان في مطعم فاخر عانقتُ أبطال “يا خيل الله”. كانوا ثمرة كاستينغ موفق. وقد اشتغل نبيل عيوش على مادة بشرية خام مقنعة. كان الشبان الأربعة ممثلين مبتدئين تمت إدارتهم بحرفية، مثلوا بتلقائية وكان مستوى أدائهم متقاربا لذا لم يُغطّ أيّ منهم على غيره فيسحقه. الممثلون أنقذوا الفيلم، منحوه من دمهم لينبض. وخاصة الأخوين عبد الإله رشيد وعبد الحكيم رشيد.

في الفيلم، نكتشف فضاء الأحداث دفعة واحدة، من خلال ترافلينغ تتقدم الكاميرا ببطء مريح لعين المتفرج، تطارد الأطفال الهاربين من المعركة ثم ترتقي إلى الأعلى، وبذلك نحصل على مشهد بانورامي رهيب للحي الصفيحي بفضل كاميرا تحلق فوق الخراب… جرى التصوير في فضاء يؤدي تنقل الممثل فيه إلى إنتاج المعنى.

هنا نتعرف على أربعة أصدقاء، يلعبون الكرة، أبرزهم الشقيقان طارق وحميد، يعتبرون أن كرة القدم هي التي ستنقذهم من بؤسهم. لا أثر للمدرسة في الحي وفي حياة الاطفال. نتعرف على باقي الشخصيات ويقوم المخرج بقفزة زمنية. وقد شكل موت الحسن الثاني مؤشرا سياسيا لموقعة القصة في تاريخ المغرب. كان القرن العشرين يحتضر. توجد مؤشرات سوسيولوجية أيضا. انكسر اللاقط الهوائي التقليدي، وجاءت الصّحون المقعرة والمسلسلات المكسيكية لتعلم النساء الحب.

رغم القفزة الزمنية لا يفقد المتفرج صلته بالشخصيات، لأن المخرج حضّر لتلك النقلة جيدا بمؤشرات بصرية متشابهة… نحن في صيف 1999 إذن. كبر حميد ودخل السجن لعامين. بقي طارق وحيدا مكشوفا في الشارع يهان بسهولة. كانت الرياضة وسيلة للتسلية في الصغر، لكن الواقع أقوى. لم تكن لدى شبان الحي أية صلة بالثقافة وباقي مؤسسات الدولة، لا يرون من السلطة إلا الزيارات المفاجئة للشرطة…

خرج حميد من السجن شخصا مختلفا تماما. وجد أصداء وتبعات 11 سبتمبر في الحي. تجري تحولات في حياة الشبان، استقبلهم الشيوخ باعتبارهم “حُدثاء في الإسلام”. كانوا ينامون جد متأخرين ويستيقظون بعد العاشرة صباحا، صار عليهم أن يناموا مبكرا ليلحقوا صلاة الفجر…. انضموا لأهل التوحيد ورفعوا شعار الولاء لله الواحد القهار… لتطهير الكاريان تم ترحيل بائعة الهوى لكاريان آخر لم تصله موجة التقوى بعد. يحب طارق جارته غزلان. لكن شخصا تقدم لخطبتها ولديه “شقة” وهذه حجة لا ترد… وبذلك احترقت كل الزوارق التي تربط طارق بالحي ما عاد لديه ما يجعله يلتفت للخلف، للماضي. هكذا ارتمى في المجهول. ارتكب جريمة وأبان السلفيون عن فعالية هائلة في طمسها. تدخل حميد لينقذ طارق وكان هذا دينا في عنقه. لتسديده انضم لجماعة الشيخ أبي الزبير.

يندهش حميد للطاعة العمياء التي يتصرف بها طارق مع الشيخ، بفضل أبي الزبير، ولأول مرة يجد طارق وسيلة للتفوق على مُنقذه. لكن حميد حائر بين الغيرة والخوف. فهو يندهش ثم يقلق ويخاف على مصير شقيقه… كانت العلاقة بين الشقيقين متينة رغم التقلبات والمنافسة.

هكذا رصد فيلم “يا خيل الله” تقدّم السلفية في فضاء الحي لتثمر الانتحاريين. وهو فيلم آني تماما. إذ أكتب عنه وأتابع تفاصيل احتجاز رهائن من طرف انتحاريين في حقل نفطي جنوب شرق الجزائر وأخبار اعتقال نشطاء إسلاميين يجندون شبانا مغاربة للجهاد في مالي.

ما الذي يجعل شخصا يقوم بعملية انتحارية ؟

يصنف إميل دوركايم سلوك الكاميكاز ضمن “الانتحار الإيثاري” الذي يتم من أجل مصلحة عليا هي هنا إعلاء كلمة الله. ويفسر دوركايم هذا السلوك بأنه نوع من التضامن الآلي. بينما يفسر الفيلم التوجه للإرهاب بما وقع في الطفولة. إذ يتأسس “ياخيل الله” على فرضية في علم الاجتماع مفادها أن نسبة كبيرة من الأطفال الذين يتعرضون للعنف والإيذاء الجنسي يصيرون جانحين. وقد اتخذ الجنوح هنا شكل تشدد ديني. ارتكب طارق جريمة. وهي مبرر تحوله التام.

أعطت الكاميرا للمكان حقه. فقد سبق لنبيل عيوش أن صور فيلمه “علي زاوا” 2000 في حي صفيحي. الصور رائعة. في المونتاج تتوالى لحظات الصمت والضجيج، مع ذلك يشعر المتفرج بضعف شديد في الثلث ساعة الأخير من الفيلم. حين يبدو كل شيء محسوما. القفلة كانت مخيبة ولا تتلاءم مع ميزانية الفيلم… كما كانت تفتقر للخيال. وهذه خاصية النهاية في الأفلام التاريخية التي تبحث عن الأمانة التاريخية فتقع في الرتابة. لم يضف تصوير موت لنكولن شيئا لفيلم سبيلبرغ الأخير. ولكي يغطي على ذلك أظهر أشهر خطاب للرئيس بعد مقتله.

لا تنبع الرتابة من كون القصة معروفة مسبقا للمتفرج بل يوجد خلل في السيناريو، وهو مقتبس بشكل مزدوج. أولا من واقعة حقيقية كانت ثمرة لتحولات المغرب في العشر سنوات التي يغطيها الفيلم بين 1994-2003.

ومقتبس ثانيا من رواية “نجوم سيدي مومن” لماحي بنبين. أثمّن الاقتباس من النصوص الأدبية التي تأخذ وقتها في الكتابة بدل تصوير فاست سيناريو على وزن “فاست فود”. وقد تجلى ذلك في النصف الأول من الفيلم وكان رائعا. فقد خصص عيوش ساعة كاملة لطبخ التحول الذي سيجري في مصير الشخصيات. أهم شيء هو التحول وكيف يتم، أما ما يتبعه فليس مهما…. وهذا التحول الأيديولوجي من خصائص “الفيلم الأطروحة” film à thèseالذي يقدم الأطروحة ونقيضها ليخلص للتركيب. صحيح أن الأفكار الفلسفية ثقيلة في السينما وتحتاج الكثير من الكلمات لشرحها. لكن هذا ضروري لكي لا يسير السيناريو على قدم واحدة. لكي لا يعْرض الفيلم وجهة نظر واحدة، وبذلك يفقد الجدل. وهذا هو الخلل الذي حصل لفيلم عيوش. فقد غاب الصراع فبدا وكأن المجتمع المغربي ينحدر للتطرف بلا مقاومة.

لماذا صنع عيوش فيلما أحادي الرؤية؟

لسببين:

الاول هو تفسير سوسيولوجي ينبع من المكان الذي تجري فيه الأحداث. تفسير يفترض أن انحطاط الوضع الاقتصادي يترتب عنه انحطاط الوعي وهشاشته أمام كل هجوم، أمام كل استقطاب… ولإثبات ذلك بالغ عيوش في تصوير بؤس شخصياته، خاصة الأم العاطلة التي لا تتوقف عن التشكي والأب المريض نفسيا…

الثاني لصد كل تهمة متوقعة له بالإساءة للإسلام. فمسبقا استفتى المخرج شيخ السلفية محمد الفيزازي الذي سجن بسبب تفجيرات ماي 2003. فماذا فعل الشيخ؟

حذر عيوش “من إقحام ما يسيء للإسلام”. وبذلك حذف المخرج كل وجهة نظر مخالفة. في تصريح له بعد عرض الفيلم افتخر الفيزازي بأن مخرج الفيلم “استفاد من وعظه”.

Visited 118 times, 1 visit(s) today