ذكريات من “عصر الراديو” وعلاقته بالسينما والخيال
يندهش الكثير من الأصدقاء عندما أقول لهم إن الإذاعة المسموعة هى أكثر الفنون التى خدمت السينما. وفورا أبدأ فى تقديم الحيثيات: فالإذاعة هى التى تقوم بتنمية الخيال الإنسانى ، وتجعل من السهل أن يتم تحويل الكلمات الى صور على شاشة الذهن. عندما تسمع إحدى المسلسلات الإذاعية، فأنت تقوم فى الواقع بدور المخرج الذى يرى بعين الخيال حركة الممثلين وتعبيرات وجوههم والديكورات التى يتحركون وسطها، ولا شك عندى أن تجربة مخرج مثل أورسون ويلز الإذاعية قد ساهمت الى حد كبير فى إثراء تجربته الإخراجية الأولى والأهم فى السينما بفيلمه الأشهر “المواطن كين”.
فى رأيى أيضا أن الأجيال الجديدة من مخرجى السينما لا تنقصهم ثقافة الصورة أو المشاهدة ولكن ينقصهم “الخيال” لأنهم لم يستمعوا الى الراديو بشكل جيد. هم لم يجربوا لذة أن تُغمض عينينك لتسمع أصواتا تقوم بتحويلها الى صور متحركة، كل ما يستطيعون الإعتماد عليه مجرد صور ومشاهد من أفلام شاهدوها وأعجبوا بها ويحاولون محاكاتها أو حتى نقلها، ولكن الخيال نفسه شديد الجفاف أو كسول يلجأ الى السهل والأقرب، تحتاج هذه الأجيال الى أن تعى عبارة الشاعر اللبنانى جورج جرداق فى قصيدة “هذه ليلتى”: “ثم أغمض عينيك حتى ترانى”، وليست هناك وسيلة لكى ترى وأنت مغمض العينين مثل الراديو.. وأيام الراديو.
الذين عاشوا طفولتهم (مثلى) فى فترة السبعينات يعرفون أن العلاقة بين الراديو والسينما كانت وثيقة جدا على عكس ما يعتقد البعض، ويتذكرون قطعاً أن عدداً كبيرا من الأفلام السينمائية كانت أولاً مسلسلات إذاعية ناجحة. كانت الإذاعة المصرية حاضرة فى تلك السنوات رغم وجود التليفزيون القوى والمؤثر، ولكن ساعات البث التليفزيونى كانت قليلة ولساعات محدودة ومن خلال قناتين فقط هما الأولى والثانية، بل إننى أتذكر أنه فى أحد شهور رمضان من سنوات السبعينات، صدر قرار من وزير الإعلام بتوقف البث التليفزيونى لمدة ساعتين بعد الإفطار مباشرة حتى تُتاح للجمهور متابعة برامج الراديو ومسلسلاته. كان الأثر الأكبر فى تلك الفترة ليس من خلال البرامج الناجحة مثل “الغلط فين” و”على الناصية”، ولكن أيضاً فى الدراما الإذاعية التى أفرزت فيما بعد عدة مؤلفين عملوا فى السينما مثل وحيد حامد وسمير عبد العظيم.
سمارة
أصبح من التقاليد المألوفة أن ينجح المسلسل الإذاعى فيتحول الى فيلم ناجح فى نفس العام. فيلم “سمارة” مثلاً كان مسلسلاً إذاعياً فى الخمسينات، ويقال أن الشوارع كانت تخلو عند إذاعته، ولكن بطلة الحلقات الإذاعية هى سميحة أيوب وبطلة الفيلم هى تحية كاريوكا. فيلم “هذا هو الحب” الذى قام ببطولته يحيى شاهين ولبنى عبد العزيز وأخرجه صلاح أبو سيف، كان أيضا مسلسلا إذاعيا فى الخمسينيات، وقد لفتت الممثلة الراحلة وداد حمدى نظر المخرج الكبير الى المسلسل، فاستمع اليه وقرر تحويله الى فيلم سينمائى. وفيلم “شئ من العذاب” الذى قامت ببطولته سعاد حسنى ويحيى شاهين وحسن يوسف هو فى الأصل مسلسل إذاعى كتبه أحمد رجب فى الستينات، وقام ببطولته الموسيقار محمد عبد الوهاب شخصياً، والممثلة الناشئة وقتها نيللى.
طبعاً لم أستمع الى هذه المسلسلات القديمة وقت إذاعتها، ولكنى استمعت إليها بعد إعادة بعض حلقاتها فى سنوات السبعينيات. أما أقدم ما فى ذاكرتى عن الدراما الإذاعية فيرتبط بمسلسل الخامسة والربع فى محطة البرنامج العام. كان هذا المسلسل يوقف الحياة تقريبا فى قريتى الصعيدية الصغيرة تماما مثل مباريات الكرة (أتحدث تحديدا عن عام 1975). لم اكن أعرف شيئاً عن هذا المسلسل لانشغالى بجهاز التليفزيون (الوافد الجديد الى بيتنا)، ولكن اكتشافى لمسلسل الخامسة والربع كان مفاجئاً ومدهشاً. كنت ربما فى الصف الثالث الإبتدائى. دخل الفصل الأستاذ “عدلى” وأخذ يتبادل حديثاً ودياً معنا عن المواد والحصص، وفجأة سأل سؤالاً عاماً: “حدّ فاكر قفْلة مسلسل الخامسة الربع إمبارح؟”. أدهشنى أن كل الفصل أجاب عن السؤال فيما كنت لا أعرف أصلا أن هناك مسلسلاً فى الراديو يحقق كل هذه المتابعة. وهكذا دفعنى الفضول لكى أكتشف الدراما الإذاعية. كان المسلسل المذاع وقتها (موضع السؤال) بعنوان “الفتى الذى عاد” للمؤلف الشاب وحيد حامد، وكانت تلك المرة الأولى التى أسمع فيها اسمه. عرفتُ فيما بعد أن العمل مقتبس عن مسرحية “مهاجر برسبان” التى كتبها جورج شحادة، ولكن التمصير كان متقناً لذلك حقّق المسلسل الإذاعى نجاحاً مدوياً مما شجع منتجى السينما على تقديمه فى فيلم أقل شهرة ونجاحا بعنوان ” بنات إبليس”.
طائر الليل والفتى الطائر
انطلق “وحيد حامد” الى السينما من بوابة الإذاعة ، فيلم “طائر الليل الحزين” الذى قامت ببطولته نيللى ومحمود عبد العزيز، كان أيضا مسلسلاً إذاعياً ناجحاً بنفس الإسم، وفيلم “الغول” الذى قام ببطولته عادل إمام ونيللى قدّمه وحيد من قبل كمسلسل ناجح بعنوان “قانون ساكسونيا” ولكن من بطولة نور الشريف ونيللى، وفيلم “كل هذا الحب” من بطولة نور الشريف وليلى علوى كان أيضاً مسلسلاً إذاعياً أخرجه نفس مخرج الفيلم الراحل حسين كمال، وفيلم “الدنيا على جناح يمامة” الذى قام ببطولته محمود عبد العزيز وميرفت امين كان فى الأصل مسلسلاً إذاعياً فى رمضان بنفس الإسم ولكن من بطولة محمود عبد العزيز ونجلاء فتحى. وأتذكر جيداً اننى استمعت الى مسلسل من تأليف وحيد حامد فى السبعينيات بعنوان “بلد المحبوب” هو أصل المسلسل التليفزيونى الشهير”أحلام الفتى الطائر”، والمفارقة أن الذى قام بدور “ابراهيم الطائر” الممثل القدير توفيق الدقن الذى لعب دورا صغيراً، وكان أحد ضيوف الشرف فى المسلسل التليفزيونى الناجح.
كانت تجارب عجيبة لطفل صغير ينطلق خياله أثناء الإستماع الى العمل الدرامى فى الراديو ثم يشاهد نفس العمل فيما بعد فى السينما أوكحلقات تليفزيونية، أظن أن ولعى الشديد بالمقارنات الأدبية أو السينمائية قد وُلد فى تلك السنوات المبكرة. أصبحت مجنوناً بالدراما الإذاعية وبالذات فى محطة الشرق الأوسط خلال شهر رمضان . كان مسلسلها الأهم من تأليف الراحل سمير عبد العظيم ومن إخراجه أيضا. كان كاتباً موهوباً للغاية سواء فى تعبيره عن طبقات وفئات مختلفة أو فى رصده للتغيرات الإجتماعية نتيجة عصر الانفتاح، وفى رأيى أنه كان يستطيع أن يترك بصمات أقوى لولا أنه دخل سريعا فى “مفرمة” السينما التجارية بل والمسرح التجارى (من أشهر مسرحياته الواد سيد الشغال لعادل إمام). كانت مسلسلات سمير عبد العظيم بدون فواصل موسيقية مثل مسلسلات أستاذه الرائد الإذاعى الكبير محمد علوان فبدت كما لو كانت أقرب الى الأفلام القصيرة المسموعة.
من أشهر هذه المسلسلات التى تحوّلت فيما بعد الى أفلام: “أفواه وأرانب” الذى تحول الى فيلم بنفس الإسم بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين، وهما أيضا بطلا المسلسل، أما الجزء الثانى من المسلسل وعنوانه “كفر نعمت” فلم يتحول الى فيلم سينمائى ربما لأنه كان أقل نجاحا. من مسلسلات عبد العظيم أيضا: “على باب الوزير” الذى تحوّل الى فيلم بنفس أبطاله عادل إمام ويسرا وسعيد صالح، و”لست شيطانا ولا ملاكا” الذى تحول الى فيلم بنفس الإسم من بطولة سهير رمزى ونور الشريف، وحلقات “الشك ياحبيبى” التى قامت ببطولتها شادية، ثم تحمست لتقديمها فى السينما من خلال فيلم بنفس الإسم من إخراج بركات وبطولة يحيى شاهين ومحمود ياسين.
الرقص على السلالم
لا أستطيع أيضا أن أنسى مسلسلات الثنائى الكوميدى الشهير فؤاد المهندس وشويكار. بعض هذه الأعمال استمعت إليها كمسلسلات فى وقت إذاعتها مثل مسلسل رمضانى بعنوان غريب هو “سُها هانم رقصت على السلالم” لم يتحول الى فيلم ولم تُستكمل إذاعته أصلاً بعد أن أصدر وزير الإعلام وقتها عبد المنعم الصاوى قرارا بوقف إذاعته بسبب “الإسفاف”، وكانت تلك أول مرة اقرأ فيها هذه الكلمة عند نشرها فى الصحف. ولكن مسلسلات المهندس وشويكار الأكثر شهرة، والتى تحوّلت الى أفلام معروفة، كانت تُذاع كحلقات منفصلة فى برامج بعينها مثل “ذكريات إذاعية”. من هذا المسلسلات مثلاً “شنبو فى المصيدة” التى تحولت ال فيلم بنفس الإسم من إخراج حسام الدين مصطفى، و”العتبة جزاز” التى أصبحت فيلماً من إخراج نيازى مصطفى، و”إنت اللى قتلت بابايا” التى تحولت ألى فيلم من إخراج نيازى مصطفى أيضا، وكانت فى مجملها أعمالاً مسلية تستهدف التخفيف عن الجمهور آثار ما بعد كارثة 1967.
ولكن الراديو لم يكتف بدور تغذية الخيال عن طريق المسلسلات المدهشة، ولكنه حاول أيضا أن ينقل السينما نفسها الى البيوت. كان البرنامج العام يقدم برنامجاً شهيراً ناجحاً بعنوان “من الشاشة الى الميكروفون” تعدّه وتقدمه ثريا عبد المجيد ويهتم بتقديم “مسامع” من الأفلام الجديدة. التجربة غريبة فعلاً ولكنها مثيرة جداً لأننى كنت أشاهد من خلالها أفلاماً بعين الخيال ثم أشاهدها فيما بعد بعين البصر.. فيالها من تجربة.. ويالها من أيام.
لا أعرف ماذا يدرس طلاب معاهد السينما، ولكنى أتمنى فعلاً أن يكون جزءاً من تدريبهم، تنفيذ مسامع إذاعية لمسلسلات مشهورة، هنا الإختبار الحقيقى للخيال، وهنا القدرة على تحويل الكلام المسموع الى مشهد مصور، ولا أظن أنه من الممكن تنمية هذه القدرات إلاّمن خلال العودة الى الإذاعة.. من أجل عيون السينما.