ديفيد لين.. مخرج من طراز خاص

ديفيد لين ديفيد لين

بقلم: روجر إيبرت

ترجمة: رشا كمال

في عام 1969 ذهبت إلى مدينة دينجل في إيرلندا لزيارة المخرج ديفيد لين أثناء تصويره فيلم إبنة رايان.

كانت الشمس ساطعة، وانعكس نورها على رمال شاطئ البحر. في اليوم التالى بدأ هطول الأمطار، وفي غضون أسبوع أبدى روبرت ميتشوم ملاحظته الشهيرة آنذاك “لقد انتهينا من تصوير يوم واحد فقط، ومتأخرين عن الجدول المحدد بثمانية أيام.”

وبعد عدة أشهر، أخذ المخرج فريق العمل وسافر إلي مدينة ناتال في جنوب أفريقيا من أجل تصوير شواطئها المشمسة لتماثل مشاهد شواطئ إيرلندا، بالطبع كان يستطيع إعادة تصوير المشاهد في أيرلندا في جو ملبد بالغيوم، ولكن لم يكن هذا ما يريده. كان يريد الجو مشمساً حتى لو كان في أيرلندا وفي شهر مارس.

ديفيد لين الذي توفي في انجلترا عن عمر يناهز الثالثة والثمانين عاماً، لم تكن الاحترافية سمة مميزة لأفلامه فحسب بل كانت أمرا مقدساً عنده. لم يكن متعجلا أبدا للانتهاء من تنفيذ أفلامه، فقد كان ينتظر لسنوات إذا تطلب الأمر قبل أن يبدأ العمل على أي فيلم جديد. وكان يشعر بالرضا التام في مراحل ما قبل وبعد التصوير. كان يتأنى كثيراً في العمل على نصوصه السينمائية، وبعد انتهائه من التصوير كان يعتكف في غرفة المونتاج لنصف عام أو اكثر.

وكلما تقدم به العمر كان يتأنى أكثر في عمله، فقد استغرق خمس سنوات بين إخراج فيلمي “جسر على نهر كواي” The bridge on the River Kwai، ولورانس العرب” Lawrance of Arabia.

وبعد ثلاث سنوات قام بإخراج فيلم (دكتور زيفاجو-Doctor Zhivago) ثم فيلم (ابنة رايان،Ryan’s Daughter) عام 1969 وتم عرضه في عام 1970 وأصابه الإحباط بعد أن تعرض لنقد لاذع بسبب هذا الفيلم، فانتظر خمسة عشر عاماً قبل أن يخرج فيلمه الأخير ممر إلى الهند”A Passage to India عام 1985، وبعد سبع سنوات وقبل وفاته بفترة وجيزة كان يحضر لفيلم “نوسترومو” Nostromo عن رواية للكاتب جوزيف كونراد.

لم تكن السنوات العجاف التي قضاها دون عمل في الفترة ما بين 1970 وحتى 1985 أمرا عائدا إليه كلياً، فقد قضي نصف هذه المدة في التعاون مع شريكه في الكتابة روبرت بولت، أي بالعمل على سيناريو فيلم “تمرد على ظهر السفينة بونتي”، وكان يخطط أن يكون فيلما ملحميا مكونا من جزئين، على أن ينتجه امنتج الإيطالي العملاق دينو دي لورنتيس، وعندما صرف المنتج النظر عن هذا الموضوع، تألم كثيراً وأصابه الاحباط (تم إنتاج الفيلم فيما بعد بنسخة متواضعة تحت عنوان بونتي، وتحت إشراف مخرج آخر). ونرى انعكاسات هذه التجربة المريرة في فيلمه “ممر إلى الهند”، في صورة الفيلم الرئيسية يوجد أحد الكهوف في الهند يمتص الأصوات التي تطلق بداخله وترتد بصدى صمت مطبق.

لقطة من فيلم “حسر على نهر كواي”

بدأ ديفيد لين العمل في السينما البريطانية كمونتير في عام 1934، وقبل أن يقدم إبداعاته الطويلة الخلابة قام بإخراج مجموعة من الأفلام الخفيفة الراقية بالأبيض والأسود والتي كان لها دور في تحديد ملامح السينما البريطانية في فترة ما بعد الحرب.

ومن اشهر أفلامه في تلك الفترة “شبح بليث” Blithe Spirit، و”لقاء قصير” Brief Encounter في عام 1945، وفيلم “آمال عظيمة”Great Expectations عام 1946، و”أوليفر تويست، Oliver Twist عام 1948، وفيلمه المغمور “كسر حاجز الصوت”Breaking the Sound Barrier عام 1954، وفيلم “اختيار هوبسون” Hobson’s Choice عام 1954، والفيلم الكوميدي “فصل الصيف” Summertime من بطولة كاثرين هيبورن.

كان أسلوبه في فن المونتاج يُحتذى به في الحرفة، وعندما أسترجع المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي ذكرياته في مدرسة السينما بجامعة نيويورك، كان يطلب من الطلبة آنذاك اعادة تحرير مشهد المقابر في افتتاحية فيلم “آمال عظيمة”، وحاولت أجيال عديدة من الطلبة بذل أقصى ما بوسعهم، مستنتجين في النهاية أن ما قام به لين في هذا المشهد كان أفضل ما قدمه.

على الرغم من أن الأفلام الملحمية تحتل مكانة هامة في تاريخ السينما، الا ان أفلام ديفيد لين عرضت وقت أفول هذا النوع السينمائي. ويعتبر عشاق السينما حاليا فيلم “لورانس العرب” فيلماً ملحمياً، رغم ظهوره بعد عشر سنوات من ذروة هذا النوع في هوليوود.

 وتختلف أفلام لين عن الأفلام الملحمية الهوليوودية، فأفلام هوليوود كانت تميل للمغالاة، والجرأة، والاستعانة بنجوم كبار، ومشاهد الحركة السريعة.

بينما كان فيلم “لورانس العرب” من تمثيل الممثل المغمور آنذاك بيتر أوتول، دراسة نفسية متعمقة في شهصية لورانس، كما كانت لدى المخرج الجرأة لترك الحرية لآلة التصوير لتحدق دون خوف أو تردد، في أطراف الصحراء المترامية، إلى أن ظهر أخيرا على الشاشة في الأفق  شخص آتٍ على أحد الجمال، رآه المتفرجين كما رأته شخصيات الفيلم.

اطلق فيلم “لورانس العرب” نجومية الممثل بيتر أوتول، وأصبحت لقطاته تمثل جزءا راسخا من تاريخ السينما، لكن الفيلم نفسه كان على وشك أن يضيع، فقد تم تصويره بمقياس الشاشة الكبيرة على شريط خام مقياس 70 مللي وخضع لعمليات التقصير واعادة المونتاج واستبعاد جوانب الكادرات ليناس العرض على التليفزيون.

وفي الوقت نفسه، كانت النسخة الاصلية للفيلم قابعة بين المهملات في خزانة شركة باراماونت، إلى أن تم انتشالها وانقاذها منذ عامين وخضعت لعمليات إعادة ترميم، وخلال مراسم المأدبة الشرفية التي أقامتها هوليوود احتفالا بترميم النسخة الجديدة من الفيلم، حمل بوب هاريس المسؤول عن عملية الترميم أحدى بوبينات الفيلم التي وجد بداخلها، وكانت في حالة سيئة، فقد كانت النسخة قد تمزقت بداخلها. ولكن الآن تتم استعادة الفيلم في تألقه القديم، وخلب أنظار وعقول العديد من عشاق السينما.

من فيلم “دكتور زيفاجو”

أما فيلمه الملحمى الآخر “دكتور زيفاجو” فقد صور أيضاً على شريط خام مقياس 70 مللي، حاملاً بصمة ديفيد لين المميزة. ونجد أنه في الوقت الذي بدأ تأثير التلفزيون والأفلام المنزلية يؤثر على أرباح الأفلام، كان المخرج الكبير يصنع أفلاما تصلح للمشاهدة فقط في دور العرض السينمائي.

وفي مشهد من أفضل مشاهد الفيلم نرى قطارا يشق المساحات الثلجية الشاسعة من بعيد، كان مشهاد يسلب الأنفاس، وإذا شاهدناه على الشاشة الصغيرة فكل ما سنراه مجرد نقطة في الأفق محاطة بلون ابيض.

هل كان فيلم “ابنة رايان” سيئا كما رآه النقاد، أم هل جاء في غير أوانه؟

قصة الفيلم رومانسية كلاسيكية تقع أحداثها في أيرلندا عام 1920 ولم تتماشى مع ذوق جمهور عام 1970 الذي اعتاد مشاهدة افلام “الراكب السهل” Easy Rider، و”2001 أوديسا الفضاء”، وفيلم “بوني وكلايد” Bonnie & Clyde.

في مشهد حميمي بين ابطال الفيلم انسحبت الكاميرا بعيداً على منظر لبحيرة تعوم فوق سطحها بذور نبات الهندباء، فانفجر الجمهور في الضحك. وعند سماعه تلك الضحكات، قرر المخرج الكبير المعتد بنفسه عدم اخراج أي أفلام أخرى. وحلت عليه كارثة فيلم “تمرد على السفينة بونتي” وتلاها الانتصار الذي أحرزه فيلمه “ممر إلى الهند” الاقتباس الذكي لرواية اي ام فوستر عن الاستعمار البريطاني في الهند الغامضة.

وأثناء فعاليات مهرجان كان السينمائي في مايو 1988 أقيمت مأدبة شرفية لتكريم السير (وقتها) ديفيد لين. وقبلها أقيم حفل استقبال صغير له على يخت خاص، وأذهل ديفيد الجميع عندما وقف بقامته الشامخة في هيبة وجلال، بملامح وجه كبيرة جداً كأحد تماثيل الأبطال. كان في الثمانين آنذاك ولا يزال يتمتع بالقوة والروح المشاكسة ولديه خطط وطموحات كبيرة. وقد أعرب عن رغبته في إخراج فيلم عن رواية جوزيف كونراد “نوسترومو” التي تدور أحداثها أثناء ثورة في القرن التاسع عشر ضد الاستعمار في أمريكا الجنوبية. وكان يعتقد أن العالم المصغر في رواية كونراد ما هو إلا استهلال للأمور والمسائل السياسية في القرن العشرين.

من فيلم “ابنة ريان”

سارت المسائل الانتاجية لفيلم نوسترومو بكل سلاسة، وكان لين يبدو متماسكا ومستعدا لبدء التصوير حتى العام الماضي.

وبسبب تقدمه في السن أصرت شركات التأمين على ضرورة وجود مخرج احتياطي معه في حال عدم قدرته على استكمال العمل.

وأعلنت مجلة فارايتي أن المخرج ارثر بن مخرج فيلم “بوني وكلايد” أبدى استعداده ليكون مخرجه الاحتياطي، لرغبته في رؤية هذا الفيلم يخرج إلى النور. ولكن هذا لم يحدث فقد عاد لين مريضاً إلى انجلترا من إحدى رحلاته لاستكشاف واختيار أماكن لتصوير الفيلم في الشتاء الماضي، ولم يعد بعد ذلك مرة أخرى.

ما الحكم الذي سيطلقه التاريخ على أعماله؟

كتب  ديفيد تومبسون وهو أحد منتقديه في كتابه الهام “قاموس السيرة الذاتية الجديد للأفلام” واصفا ديفيد لين بـ”المثقف العتيد” الذي لديه “شغف لا ينطفئ لصناعة الأفلام”، ذاكراً “المعاني والمشاعر المألوفة”.

صحيح أن لين لم يكن مخرجاً متمردا، فقد كان من المخرجين الذين أتقنوا اللغة السينمائية عوضا عن اعادة اختراعها. ولكن عندما نعود بالذكريات إلى كعكة زفاف الآنسة هافيشام في فيلم “آمال عظيمة”، أو نظرة الحزن التى اعتلت وجه تريفور هوارد في فيلم “لقاء قصير”، وبهاء وعظمة لورانس في الصحراء، والرزانة الانجليزية الراسخة للسيدة بيغي اشكروفت في فيلم “ممر إلى الهند”،

يجدر بنا ان نتذكر مخرجا كانت مخيلته المرئية تعلو وتحلق في الآفاق، وقدم أفلاما كبيرة في الوقت الذي كانت صناعة السينما تتجه لتقديم أفلام صغيرة.

عن موقع روجر ايبرت 21 ابريل 1991

Visited 98 times, 1 visit(s) today