درس أرونوفسكي: التحدي الأكبر هو أن تروي قصة بطريقة مؤثرة
في عام 2007 اطلق المهرجان الدولي للفيلم بمراكش برنامج درس السينما (ماستر كلاس) على غرار درس السينما الشهير في مهرجان كان وهي أحد اكثر التظاهرات حيوية واقبالا والتي تعكس مدى اهمية الثقافة السينمائية واستغلال حضور كبار المخرجين والسينمائيين من كل العالم ليلتقوا بمحبي السينما وعشاقها ودراسيها والمهتمين بها.
شهدت دورة 2007 اول درس في السينما القاه المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي منفردا ثم تلاه في الدورات التالية توسعا في اختيار الأسماء والشخصيات السينمائية، بعضهم يتم دعوته خصيصا من اجل القاء الدرس وبعضهم يتم الأتفاق معه على القاء الدرس اثناء وجوده في المهرجان سواء كان عضوا في لجنة التحكيم او مشاركا بفيلم من اخراجيه او كتابته.
حملت الدورات التالية لدرس السينما بمهرجان مراكش اسماء مثل جيم جارموش الكاتب والمخرج الأمريكي وامير كوستوريتسا المخرج البوسني صاحب “تحت الأرض” والمخرج الفرنسي جان جاك انوي والتركي نوري بيلجي سيلان والإيطالي الكبير ماركو بيلوكيو.
هذا العام وخلال فعاليات الدورة الثانية عشرة من المهرجان والتي تستمر في الفترة من 30 نوفمبر لغاية 8 ديسمبر تمت دعوة ثلاثة من اهم المخرجين الذين لم تتم دعوتهم من قبل وهم الأمريكي دارين ارنوفسكي صاحب “مرثية حلم” و”المصارع” و”البجعة السوداء”، والفلليبيني بريلانتي ميندوزا الذي يعرض له المهرجان أحدث افلامه “الرحم” وذلك في الاختيار الرسمي خارج المسابقة، والإيطالي ماثيو كارون صاحب الفيلم الشهير “الحب الاول” إلى جانب المخرج الامريكي جوناثان ديم مخرج “صمت الحملان”.
ويضم درس السينما ايضا هذا العام نقاشا مفتوحا مع كل من المخرج البريطاني جون بورمان رئيس لجنة التحكيم الدولية بالدورة الثانية عشر والفيلسوف الفرنسي ادجار موران.
ويلاحظ في درس السينما ذلك التنوع في الاختيار ما بين مدارس السينما المختلفة او توجهاتها فلدينا السينما الأمريكية والإيطالية والأسيوية والمدرسة الفرنسية في الكتابة الفلسفية عن السينما ممثلة في موران نفسه احد اشهر الفلاسفة الفرنسيين الذين كتبوا في السينما, كما ان كل من ارنوفسكي وميندوزا ينتميان في جانب من اعمالهما، إلى تيار السينما المستقلة في العالم سواء على مستوى الجيل او الفكر السينمائي او طبيعة الأفلام التي انجزوها خلال مشوارهم الفني.
خمسة افلام فقط
ولد دارين ارنوفسكي في حي بروكلين بنيويورك وانجز اول افلامه وهو في العشرينيات من العمر عام 1998 بعنوان “بي” وقد صور بالكامل بالأبيض والأسود في اطار من السينما ذات اللمسة التجريبية الواضحة والمغامرة المونتاجية والأنتاجية على حد سواء تلاه في عام 2000 الفيلم الذي وضعه بين قائمة اهم المخرجين الشباب في العالم”مرثية حلم” عن اربعة شخصيات كل منها يدمن شيئا ما, ثم توقف لمدة ستة سنوات قبل ان ينجز فيلمه الفلسفي “النافورة” بطولة هيوجاكمان عن طبيب مخ واعصاب يجاهد من اجل انقاذ زوجته من السرطان فيدخل في رحلة صوفية عن معنى الحياة والموت والخلود.
وفي عام 2008 قدم فيلمه “المصارع” بطولة ميكي روك والذي حصد الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا من نفس العام وحصل ميكي روك على جائزة الجولدن جلوب كأحسن ممثل.
وفي العام الماضي قدم ارنوفسكي قصيدته السينمائية “البجعة السوداء” الذي ترشح لاربعة جوائز اوسكار وحصلت نتالي بورتمان على اوسكار احسن ممثلة عن دورها وصنف الفيلم كأفضل عشرة افلام في سنة انتاجه وحقق ايرادات بلغت 380 مليون دولار.
ومؤخرا انتهى ارنوفسكي من تصوير احدث افلامه “نوح” من بطولة راسل كرو والمأخوذ عن قصة ابو البشر الثاني نوح كما وردت في العهد القديم ومن المنتظر أن يعرض الفيلم عام 2013.
وبهذا يكون كل تاريخ هذا المخرج الهام خمسة افلام فقط وفيلم واحد قيد الانجاز ولكنها افلام تحمل في طياتها عشق هائل لفن تلاوة القصص عبر طرق بصرية غير تقليدية ومن خلال موضوعات تتماس مع ما هو انساني وفلسفي وعاطفي وذهني لدى المتلقين في اي مكان بالعالم.
طريقتنا في الحكي
في رابع ايام المهرجان كانت قاعة السفراء بقصر المؤتمرات “مقر المهرجان” بمدينة مراكش قد امتلأت عن اخرها بالحضور والذين تنوعوا ما بين الأعلاميين والصحفيين والنقاد والمهتمين وطلبة السينما وعشاق افلام هذا ارنوفسكي.
لم يكن الدرس عبارة عن محاضرة تلقينية من نقاط محددة ولكنه اشبه بحوار مفتوح بدأه مضيف الدرس بأسئلة تراكمية زمنيا عن بدايات ارنوفسكي وعشقه للسينما وصولا إلى انجازه فيلمه الأول.
في البداية بدا الأمر اشبه بحوار صحفي ثنائي القطب ما بين أرونوفسكي والمحاور الفرنسي ولكن بعد قليل بدأت الأسئلة تكشف من خلال اجابات ارونوفسكي جانبا من عبقريته الأبداعية وخبراته السينمائية الكبيرة التي حصدها عبر تجاربه المختلفة خلال الخمسة عشر سنة الماضية.
قال ارنوفسكي: ان مشاهدة الأفلام كثيرا هي ما تجعلك ترغب في صناعة الأفلام لقد تعلمت السينما من كثرة المشاهدة خلال سنوات السبعينيات عندما كنت فتى صغيرا ادخل إلى نوادي الفيديو في بروكلين, ولكم ان تتصورا انني حتى قبيل ان اتخرج من الجامعة لم اكن ادري ما هو بالظبط عمل المخرج داخل الفيلم، كانت بداخلي رغبة في صناعة الأفلام ولم اكن ادري سوى انني اريد ان اكون مخرجا دون ان يكون لدي ادنى فكرة عن ذلك.
فيما بعد سوف يصبح المونتاج هو مدرستي الحقيقية استطيع ان اقول انني تعلمت السينما في غرفة المونتاج لقد كنت اساعد الجميع في البداية اثناء عملية مونتاج افلامهم وهناك تعلمت ان فن السينما يعتمد على امر اساسي هو الحكي عبر الصورة وقطعها.
دعني اقول لكم ان الفيلم يأتي للحياة في غرفة المونتاج فمهما كانت جودة التصوير والتمثيل والكتابة فإن العنصر المهم هو كيف تدخل إلى اللحظة في المشهد وكيف تخرج منها! انت تجلس في غرفة مظلمة مع المونتير وهناك يولد الفيلم لقطة بعد اخرى ويخرج للحياة.
ويضيف ارنوفسكي : لقد تأثرت بأفلام كثيرة في شبابي اهمها “الحياة حلوة” لفلليني ولكن دعوني اقص عليكم حكاية صغيرة لقد اتيت إلى مراكش عندما كنت صغيرا ورأيت رجلا يقف في ساحة الجامع الشهير- ساحة جامع الفنا- يروي قصة لمن حوله, وهو ما كان خارقا بالنسبة لي ان ارى حجم القوة والسيطرة التي يملكها الرجل على المستمعين إليه، لم اكن افهم كلمة واحدة ولكني كنت ادرك مدى كون القصة مشوقة من ملامح المحيطين به ودرجة انصاتهم. وعندما كبرت تدريجيا تعملت ان الحكي هو اقدم انواع الفنون منذ عصر الكهوف الاولى وصناعة الأفلام هي طريقتنا في الحكي واهم ما في الحكاية هي أن تمس بشرا اخرين او تحتوي على ما يمسهم او يشغلهم او يدور في اذهانهم, انني اصنع الأفلام لانني احب ان احكي القصص.
وضع الكاميرا
ويتحدث ارنوفسكي عن أهم الخبرات التي اكتسبها خلال رحلته السينمائية فيقول: هناك مكان واحد فقط لوضع الكاميرا في المشهد هكذا تعملت من أحد اساتذتي ولكي تعلم اين هو هذا المكان عليك ان تعلم جيدا ما هي فكرة فيلمك ونوعه وطبيعة شخصياتك والموقف الذي تتحدث عنه وما تريد للمتلقي ان يفهمه من اللقطة!
باختصار عليك ان تستوعب كل شئ وتدقق في كل شئ وساعتها لن تجد اي مشكلة في وضع الكاميرا في المكان الصحيح, وعند التصوير فإن التفاصيل تصبح هي اهم شئ, عندما تقوم بالتصوير عليك ان تسأل نفسك ما هو الحقيقي وما هو غير الحقيقي في اللقطة والحقيقي هنا بمعنى الذي يرتبط بمعنى الفيلم واحداثه وطبيعة القصة على سبيل المثال اذا ظهرت شعرة وحيدة على وجه الممثل لم تكن تريدها عليك ان تتوقف وتزيحها لأنها لا تخص الحالة التي تتحدث عنها.
وعن عمله كمخرج يقول: العمل كمخرج هو ان تقود، أن تمنح فرصة للاخرين ان يكونوا اعضاء في فرقة تريد الغناء دون ان تجبر احدا على ذلك, انت لا تتحكم في الممثل انت تقوده فقط وهو نفس الحال في طاقم التصوير, الجميع لديهم قدرات جيدة و جل ما تريده ان توظف هذه القدرات لخدمة التعبير عن افكارك وبعثها للحياة, أن أهم ما ابحث عنه في الممثل هو ان يوليني ثقته. ان يثق في انني اقوده في الاتجاه الصحيح.
والخبرة شئ مهم لا يمكن ان تعوضه دراسة او موهبة, في البداية كنت اعمد إلى كتابة كل مشهد ورسم الديكوباج خاصة في الأفلام الثلاثة الأولى “بي” و”مرثية حلم” و”النافورة” ولكن بمرور الوقت اصبحت اعتمد على الهام اللحظة عند التصوير, التزم فقط في الحوار قدر ما استطيع واترك للمثل حرية تغيير بعض الكلمات اذا ما وجدت انها اقرب للتعبير عن افكار الشخصية وحالتها.
وعن افلامه يقول: البداية عادة تبدأ بفكرة وأحيانا بلقطة، في فيلم النافورة بدأ كل شئ بلقطة لشجرة الحياة التي صعد بها البطل إلى السماء، ان لقطة واحدة قد تجلب فيلما بأكمله، ثم تأتي مرحلة الكتابة، ولكنها تحدد ما سوف يحدث في الفيلم وليس ما يحدث بالفعل, السيناريو مجرد تخطيط فلا يهم كيف تصف المشهد في السيناريو انه مجرد خريطة تقودك من نقطة إلى أخرى، لا تعمل على العشرين صفحة الأولى كي تصنع سيناريو جيدا يبهر كل من يقرأه، استمر في العمل من البداية للنهاية.. عليك ان تصل للنهاية حتى لو اتتك فكرة جيدة، استمر في الكتابة نحو النهاية ثم عد مرة اخرى لتصنع ما تريد ولكن لا تتوقف.
لا تحاول ان تجعل الفيلم يبدو جيدا اكتب ما لديك وانظر له عندما تفرغ منه، وبعد ان تنتهي من التصوير ابدأ بالحذف, ان الأفلام لا تكتمل إلا إذا تخليت عن افضل المشاهد بالنسبة لك وابقيت فقط على المشاهد التي يمكن أن تكون الأفضل بالنسبة للمتفرج.. لا يهم اذا استغرقت في تصوير مشهد يوما بأكمله ثم تحذفه في المونتاج, لا تفكر في انه يروقك فكر فيما اذا كان سيروق المتفرج لأنه ضمن سياق الفيلم ام لا.
كذلك لدينا ايضا عنصر الصوت. إنه عنصر مهم جدا وللأسف قد لا يوليه بعض المخرجين الاهتمام الازم, عندما افكر في الصوت افكر في حالة الشخصية ومشاعرها وكيف يمكن للصوت أن يساعد المتلقي على فهم هذه الحالة ان القدرة على استخدام الصوت او الموسيقى لهي موهبة قائمة بذاتها ويجب ان ننتبه إلى ان لكل فيلم موسيقاه الخاصة, فهناك بعض الأفلام حين تضع لها الموسيقى ومهما كانت جيدة فمن الممكن أن تفسد الفيلم بأكلمه.
وعن فيلمه الجديد نوح يقول: لقد حكينا قصة نوح آلاف المرات دون ان نصورها في فيلم وصناعة فيلم عنها هو محاولة لأعادة اكتشافها من جديد, انها تحوي الكثير من الأفكار بين السطور التي تتضمنها قصة من صفحتين في العهد القديم. والتحدي الاكبر هو أن تروي قصة معروفة لكل الناس ويصبح عليك أن تحكيها بطريقة جديدة ومؤثرة.
وكنصيحة أخيرة لدراسي السينما يقول: قد يقول لك الكثيرون لا تعمل بالسينما ولكن كلما شعرت بالحماس والاثارة عليك أن تعمل، ان كل الأفلام التي صنعتها بدأت بكلمة مرفوض، كل فيلم شرعت فيه رفض، ان ما يحمسك لتلاوة قصة هو ما يجعلك تعمل.. انها شهوة الخيال وقوة الفكر. عليك ان تحيط نفسك بأشخاص يثقون بقدراتك وبموهبتك حتى تتمكن من العمل وصناعة الأفلام.