دارمندرا ديول: رحيل أيقونة هندية وانطفاء زمن

لم يكن خبر رحيل دارمندرا ديول، في 24 نوفمبر 2025، مجرد إعلان عن وفاة نجم سينمائي كبير تجاوز الثمانين، بل كان شعورًا أشبه بانطفاء مصباح ظلّ مضيئًا لستة عقود. كان دارمندرا، بالنسبة لجمهور السينما الهندية، تجسيدًا لمرحلة كاملة، ووجها يختصر ملامح عصر من المتعة والخيال. والغريب أن حضوره لم يقتصر على الهند وحدها، فقد وجد لنفسه محبة خاصة لدى الجمهور المصري الذي عرفه – في الثمانينيات تحديدًا – عبر فيلم التوأمان، ذلك الفيلم الذي ظل يُعرض لأسابيع في سينما رومانس وحقق نجاحًا لا ينافسه إلا نجاح أفلام صديقه ورفيق رحلته: أميتاب باتشان.

ولعل هذا الاقتران بينهما – في أفلام مثل الشعلة ورام بال رام – هو ما جعل اسميهما ثنائيًا لا يُنسى، وصارت الكيمياء التي جمعتهما مفتاحًا لجاذبية خاصة لدى الجمهورين، الهندي والمصري معًا.

وُلِد دارمندرا (الاسم الحقيقي: دارام سينغ ديول) في قرية صغيرة بولاية البنجاب، لأسرة بسيطة كان الأب فيها مدرسًا يعيش برضا القليل. ومن تلك البيئة الريفية الهادئة انطلق الشاب الطموح إلى مومباي في نهاية الخمسينيات، يحمل في حقيبته حلمًا متواضعًا بأن يصبح ممثلاً.

بدأ مشواره فعليًا عام 1960، ثم تدافعت الأفلام واحدًا تلو الآخر حتى تجاوزت أعماله ثلاثمئة فيلم، ليصبح واحدًا من أكثر النجوم إنتاجًا، وأكثرهم قدرة على العبور بين الأجيال. ولم يتوقف عند السينما، بل خاض غمار السياسة، وانتُخب عضوًا في البرلمان الهندي. وعندما نعى رئيس الوزراء وفاته قائلاً إنها “نهاية حقبة”، لم يكن ذلك مجرد تكريم بروتوكولي، بل توصيف دقيق لمرحلة كاملة في تاريخ الفن الهندي.

كانت مسيرة دارمندرا تجسيدًا لحلمٍ هندي كلاسيكي: صعود من الريف إلى أضواء المدينة، ومن هامش الحياة إلى قلبها، ومن الطموح الفردي إلى أسطورة جماعية يتوارثها الجمهور.

لم يكن دارمندرا أسيرًا لنوع واحد من الأدوار. فقد انتقل بحرية بين الرومانسية والحركة والكوميديا والدراما. فيلم Phool Aur Patthar كان بمثابة إعلان ميلاد النجم الوسيم القوي، بينما منحه Mera Gaon Mera Desh مكانة بطل الأكشن المؤثر.

وفي الدراما قدّم أداءات كشفت وجهًا آخر، رقيقًا وحميميًا، كما في Yaadon Ki Baaraat وResham Ki Dori.

لكن الذروة الحقيقية كانت دون شك في فيلم Sholay، حيث لعب دور “فيرو” إلى جانب أميتاب باتشان، ولا يزال الفيلم – حتى اليوم – أحد أعمدة السينما الهندية الجماهيرية، وأشهر أعمالها على الإطلاق. تلك العلاقة مع أميتاب لم تكن مجرد تعاون فني، بل صداقة ممتدة، أضفت على المشاهد الثنائية بينهما صدقًا لا تخطئه عين.

حتى في سنواته المتأخرة، احتفظ بروح الشاب المندفع، وشارك في سلسلة Yamla Pagla Deewana مع أبنائه، كاشفًا عن مرونة نادرة لدى نجم بلغ من العمر عتيًّا.

حين نتحدث عن دارمندرا، لا يمكن الفصل بينه وبين أميتاب باتشان. العلاقة بينهما تتجاوز فكرة “الثنائي الناجح”. لقد كانا، ببساطة، صديقين جمعتهما الثقة قبل الشهرة.

يروي دارمندرا في مقابلة قديمة أنه هو من رشّح أميتاب لدور “جاي” في شولاي، وأنه “ذكره بكلمة طيبة للمخرج” لأنه رأى فيه موهبة حقيقية. وبعد عقود، ظلّ يصفه بأنه “الأكثر موهبة” .

وتبلغ هذه العلاقة ذروتها في مشهد النهاية الشهير للفيلم، عندما يموت “جاي” في سبيل إنقاذ “فيرو”. ربما كان ذلك أحد أكثر المشاهد صدقًا، ليس لأن السيناريو كتبه بهذه الطريقة، بل لأن الخلفية الإنسانية للصداقة تسللت إلى الصورة.

كانت حياة دارمندرا الخاصة مليئة بالعواطف والتعقيدات. تزوّج مبكرًا من براكاش كور، وأنجب أبناءه الأربعة، ثم جاءت علاقته بهيما ماليني، “فتاة الأحلام” في السينما الهندية، لتثير جدلاً اجتماعيًا واسعًا بسبب زواجه الأول.

لكن رغم كل ما قيل، ظلّ الاثنان معًا منذ زواجهما عام 1980 وحتى آخر أيامه. وبعد وفاته نشرت هيما رسالة مؤثرة قالت فيها:

“دارمندرا… كان بالنسبة لي كل شيء: زوجًا محبًا، أبًا رائعًا، صديقًا ومعلمًا.”

هذه الجملة تختصر علاقة استطاعت أن تصمد أمام الرأي العام، وأمام تعقيدات الأسرة، وأمام الزمن.

لم تكن علاقة دارمندرا بأبنائه دائمًا يسيرة، فقد ورث سوني ديول وبوبي ديول عنه الطريق إلى السينما، لكنهما ورثا أيضًا العبء نفسه: أن يكون الأب نجمًا كبيرًا. قال سوني مرة: “أنا ممثل لأن والدي كان أيقونة”، ثم أردف بأن حياة العائلة تحت سقف واحد لم تعنِ دائمًا سهولة التواصل: “كل واحد له حياته الخاصة”.

كان دارمندرا صارمًا أحيانًا، وحكيمًا أحيانًا أخرى، لكنه ظلّ بالنسبة لهم مصدر رهبة واحترام، قبل أن يكون مصدر حنان.

ربما لأن سيرته تجمع بين عدة عناصر نادرة: تنوّع فني يتيح له دخول كل الألوان السينمائية دون أن يفقد بريقه، حضور طاغٍ صنع منه “نجماً جماهيريًا” حقيقيًا، إرث فني ممتد عبر الأبناء، وعبر جمهور لم ينسَه يومًا. هذا بالإضافة إلى علاقات إنسانية صادقة داخل الوسط الفني وخارجه، وحياة شخصية ليست مثالية، لكنها إنسانية بما يكفي لتمنحه عمقًا إضافيًا.

بعبارة واحدة يمكننا القول إن دارمندرا كان ، في جوهره، تجسيدًا لفكرة: أن النجومية ليست مجرد مهارة، بل مزيج من الصدق، والاجتهاد، والقدرة على لمس الناس عبر الشاشة.

لم يكن موت دارمندرا حدثًا عابرًا. إنه نهاية فصل كامل في تاريخ بوليوود ذلك الذي كان يذكّرنا – نحن المصريين – بزمن الفن الجميل. ما يبقى من دارمندرا ليس عدد أفلام، ولا حجم شعبية، وإنما أثر تركه في الذاكرة؛ ذلك الأثر الذي لا تحققه الشهرة وحدها، بل تحرزه الأرواح التي عاشت بصدق، وعبرت بشجاعة، وأخطأت بحميمية.

لقد كان دارمندرا نجمًا شعبيًا بكل ما تعنيه الكلمة: قوّة ودفئًا، بطولة ورقة، عائلة وجمهورًا. وربما لهذا، سيظل – رغم كل الجدل – واحدًا من تلك الصور التي تذكّرنا بأن السينما ليست مجرد حكايات تُروى، بل بشر، ومصائر، وخيارات، وأحيانًا قدر لا يُقاوَم.