خالد صالح.. العزف على أوتار الموهبة
قليلون منْ يمتلكون موهبة خالد صالح، وأقل منهم أولئك الذين يمتلكون ثقافته ووعيه وإحساسه بأهمية فن التشخيص، والبحث عن تحديات جديدة فى أدوار أفضل مما يتيحه السوق. خالد صالح فقدناه فى سنة كبيسة حافلة بالخسائر البشرية فى رصيد الفن المصرى. كان سطوعه بعد اختفاء طويل، بل وابتعاد عن التمثيل لسنوات، دليلا على أن الموهبة لا تموت، وعلى أنها تحتاج أيضا الى المثابرة، الموهبة مثل الآلة الموسيقية، تحتاج أن تعزف عليها بجدية وبتدريب شاق، ولا يمكن أن تفصح عن أصواتها الجميلة بمجرد أن تحرك أوتارها عشوائيا، ستقع حتما فى فوضى النشاز، وقد تقطع أوتارها الأيدى غير المدربة، كان خالد عازفا ماهرا على أوتار موهبة مثل آلة من طراز فريد وثمين.
شاهدت خالد صالح ممثلا على مسرح جامعة القاهرة الشهير ( تحتضنه كلية التجارة) قبل أن يصبح مشهورا بسنوات طويلا، كنت فى السنة الجامعية الأولى أبحث دوما عن أى شىء له علاقة بالفن، وكان خالد مع زملاء جيله: محمد هنيدى ومحمد سعد وعمرو عبد الجليل وخالد الصاوى ، يشعلون المسرح بأعمالهم ومواهبهم، وكان صلاح عبد الله ( الذى سبق الجميع للإحتراف مع فرقة محمد صبحى) يأتى لكى يخرج مسرحية “إنت حر” مثلا تأليف لينين الرملى لفرقة جامعية تتنافس فى مهرجان يشترك فى لجنة تحكيمه أساتذة من معهد الفنون المسرحية مثل سناء شافع، ويحضره كبار الفنانين والمخرجين مثل يوسف شاهين، الذى قدم عمرو عبد الجليل ومحمد هنيدى فى فيلم “اسكندرية كمان وكمان” بعد أن شاهدهما فى مسرحية جامعية شهيرة بعنوان “المجانين”. وسط هذا الصخب الجامعى المسرحى كان خالد صالح نجما متألقا، أتذكر له مسرحية باللغة العربية الفصحى كان يلعب فيها دور أحد القضاة، وقدم فيها لمسات كوميدية مذهلة بمنتهى السلاسة، وبدون أى مبالغات، تماما كما فعل فيما بعد فى الدور / المشهد الذى قام به فى فيلم “محامى خلع”، أدهشتنى الطريقة التى يؤدى بها، بدا لى من حيث الشكل (كان يحتفظ بشاربه ويتمتع ببعض البدانة) أنه ممثل محترف كبير استعان به طلاب الجامعة، أو ربما كان طالبا فى معهد الفنون المسرحية يعاون زملاءه فى جامعة القاهرة فى تحقيق حلمهم المسرحى، ولكنى عرفت أن هذا الممثل الاستثنائى طالب فى كلية الحقوق يدعى خالد صالح، انتهزت فرصة عودته بعد العرض من البوفيه حاملا كوبا من الشاى فى يده اليسرى، فصافحته بحرارة ، وقلت بحماس طالب جامعى : ” الله عليك يا أستاذ”، فرد بنبرة صوته الهادئة فى سعادة : “الله يكرمك .. الله يكرمك”، بدا لى فخورا جدا بهوايته، وبدائرة نجاحه المحدودة.
اختفى خالد صالح لسنوات طويلة، عرفنا فيما بعد أنه تخرج وعمل محاميا لفنرة قصيرة، بل إنه فتح مشروعا تجاريا فى مجال تسويق الحلويات، لم أنس لا الاسم ولا الموهبة، ولكنى أدركت أنه تعب فى أول الطريق، تاه مثل الكثيرين من الموهوبين الذين لم يستطيعوا إدارة موهبتهم، أو الصبر فى شأن التدريب الشاق للعزف على أوتارها، اعتبرته مثل آخرين تعثروا، وقنعوا بمرحلة الهواية، حتى فوجئت به فى دوره المدهش فى “محامى خلع” من تأليف وحيد حامد، الصعوبة التى اجتازها خالد باقتدار أنه أضحك الجمهور من خلال الجدية الشديدة، لاحظ مثلا الطريقة التى يتشمم بها أجواء المحكمة بعد أن صافحت العطور النسائية حواسه، لاحظ أيضا قدرته على الحفاظ على هيبة المنصب بعيدا عن أى مبالغة قد تغرى بها اللحظة، أو يغرى بها الموقف، نجح خالد فى أن يضحك الجمهور أمام ممثل كوميدى هو هانى رمزى فى أحد أفضل أدوار هانى، بل لعل أداءه فى موقف المحكمة أحد أفضل أداءاته السينمائية كنجم كوميدى.
في فيلم “أحلى الأوقات”
عرفت فيما بعد أن خالد عاد أولا للفن من بوابة المسرح، قدم فى مسرح الحناجر عدة أعمال جيدة ولافتة مثل “طقوس الإشارات والتحولات” لسعد الله ونوس مع زميله خالد الصاوى، كما قدم فى التلفزيون دورا قصيرا لافتا فى حلقات “أم كلثوم”، حيث لعب دور الشاعر الراحل مأمون الشناوى، واختاره المخرج السورى أنور قوادرى لكى يلعب دور صلاح نصر فى فيلم “جمال عبد الناصر”، وكان خالد الصاوى بطل الفيلم قد قدّم صالح لقوادرى منوها بموهبة واعدة، وبعد أدوار قصيرة فى أفلام مثل “كرسى فى الكلوب”، وهو بالمناسبة فيلم جيد من تأليف هانى فوزى مؤلف “باحب السيما” و”الريس عمر حرب”، حقق خالد شهرة أكبر من خلال أحد أفضل أدواره فى فيلم أكشن ناجح هو “تيتو”. ربما كان هذا الفيلم هو الذى جعل قطاعا واسعا من الجمهور، وبالذات فى سن تحت العشرين، يسأل عن اسم هذا الممثل “الرهيب” ، على حد تعبير بعضهم، الذى قام بدور رفعت السكرى ضابط المباحث المنحرف، كان رفعت (الذى أطلق على نفسه اسم رمزى فى عملياته المشبوهة) يجمع بين العنف والصرامة الشديدة، وبين إحساس الأبوة تجاه تيتو فى مرحلة توافقهما، شاهد الجمهور أداء سلسا متدفقا، وكأنه يستحضر مشخصاتيا مخضرما يذكره بأداء جيل الكبار الراحلين من ملوك الشر فى السينما المصرية، أصبحت عبارة رفعت السكرى فى الفيلم على كل لسان وهو يعرّف نفسه ل”تيتو” قائلا: ” أنا بابا ياللا”.
كان سر خالد صالح فى رأيى أنه يأخذ الدور الى عالمه ولا يذهب هو إليه، يدرس الشخصية ويضيف إليها من طريقته الخاصة فى الأداء، وذلك على طريقة ممثلى “استديو الممثل”، ليس هناك تقمص كامل كما قد يعتقد البعض، وإنما هناك حرفة فى الإيهام، كان يصطنع لنفسه طريقة خاصة فى تقطيع الجمل، وفى ضبط إيقاع الإلقاء، فى الصعود والهبوط صوتيا وحركيا، ستجد هذه البصمة فى كل أفلامه مهما تغيّر المخرج، كان يشتغل كثيرا على التفاصيل، ولديه قدرة واضحة على الإمساك بمفتاح كل شخصية، طبعا لم تكن كل الأدوار على نفس الدرجة، ولكن يدهشنا فعلا أن يقدم ممثل واحد فى السينما كل هذه الأدوار الجيدة والمتنوعة فى السينما، بالإضافة الى أدواره فى المسلسلات، يدهشنا أكثر أن قوة موهبة خالد صالح تتجلى فى الأدوار القصيرة بنفس درجة تجليها فى البطولات (وهى معدودة على أية حال)، حدث كل ذلك فى فترة قصيرة نسبيا، وفى ظل فوضى سوق السينما، وفى فترة كان خالد قد تجاوز سن الشباب، ورغم ذلك لم يقدم خالد كل إمكانياته، كان رأيى أنه كوميديان خطير، وكان يجد متنفسا لهذه الطاقة فى البصمة الكوميدية التى يضعها على أدواره مثل دور بكر الرويعى فى فيلم “حرب أطاليا”، بالإضافة الى بطولته لفيلمى “ابن القنصل” الذى لعب فيه خالد دور نصاب محترف، وفيلم “فبراير الأسود” من تأليف وإخراج محمد أمين الذى لعب فيه دور عالم مرموق وأب يبحث لأسرته عن كرامة مفقودة فى وطنه، الى حد ما تجلت بعض قدرات خالد الكوميدية فى الفيلمين، بل إنه فى الفيلم الأخير قدم مشاهد جيدة تنتمى الى الكوميديا السوداء، منها مثلا مشهد قيادته لأسرته فى بروفة موسيقية غنائية للتخلص من جلد الوطن، والاستماع الى موسيقى غربية، تدخل الجميع فى دائرة أوطان أكثر قدرة على حماية مواطنيها.
في فيلم “الريس عمر حرب”
ولكن ما قدمه فى السينما كان كافيا للدلالة على حجم هائل من الموهبة، وحجم هائل من وعى الممثل بتكنيك الأداء، أطياف متعددة من الشخصيات لعبها خالد ببراعة واقتدار: إبراهيم فى فيلم “أحلى الأوقات” لهالة خليل نموذج للزوج المصرى الذى لا يعرف إلا الكدح المادى، ولا يفهم من أسباب إسعاد أسرته إلا شراء “عشوة كباب”، موظف الأرشيف الذى يقدم مفاتيح الوعى لبطل فيلم “فتح عينيك” من إخراج عثمان أبو لبن، منتصر المحامى الماكر الذى يمتلك سر ما جرى فى فيلم “ملاكى اسكندرية”، والذى يخدع المتفرج بجدعنته وروحه المرحة، طبيب التجميل والزوج الطيب فى “أحلام حقيقية” الذى يخدع الجمهور مرة أخرى، ولكن فى اتجاه معاكس، إذ يبدو غامضا وغريب النظرات بينما هو يشعر بمرارة لأن زوجته (حنان ترك) لا تشعر به، كمال الفولى رجل النظام القوى فى “عمارة يعقوبيان” الذى يتحكم فى الإنتخابات، والذى يمتلك البلد بعلاقاته وصفقاته وقدرته على توظيف السياسة فى خدمة البيزنس، تشعر بسيطرة خالد الكاملة على مشاهده مع نور الشريف رغم أن خالد كان يشعر برهبة أمام نجومية نور فى الأستديو، يقول خالد إن نور أحس بذلك فساعده على أن ينسى أنه يقف أمام نجم كبير، ومنحه مجالا للسيطرة الكاملة على مشاهدهما المشتركة، أمين الشرطة حاتم الذى يستغل سلطاته المحدودة لكى يجسد سلطة البطش، رغم تهافت بناء شخصية أمين الشرطة التى لا يمكن أبدا فى الواقع أن يخطف فتاة من وكيل نيابة، فإن خالد ملأ الفراغ فى مشاهد كثيرة، لقد فهم أنه يجب أن يعبر عن غطرسة النظام كله، مما يؤدى فى مشهد النهاية الى الثورة، شخصية الريس عمر حرب فى الفيلم الذى يحمل اسمها ، أحد أفضل أفلام خالد يوسف، أداء واع تماما من خالد لشخصية لها أبعادها الرمزية الواضحة، ربما يكون الريس عمر حرب بأداء خالد صالح هو أفضل “شياطين” الأفلام المصرية، وأكثرهم هدوءا وبراعة، دور زكرى الأخ الأكبر الذى يريد أن يجمع إخوته تنفيذا لوصية أمهم فى “كف القمر”، ابن بلد حقيقى فى فيلم أخر من أفضل أعمال “خالد يوسف ” كمخرج، وأخيرا دور فتحى العبيط فى فيلم “الحرامى والعبيط” أمام صديق عمره خالد الصاوى فى دور الحرامى، شخصية العبيط رسمت بشكل شديد الإضطراب فى السيناريو الذى لم يفرق بين التخلف العقلى والصدمة النفسية، ولكن خالد صالح منح الشخصية كثيرا من الحيوية، وكثيرا من التفاصيل.
سيعيش خالد صالح طويلا على شريط السينما، سيبقى علامة هامة وسط قلة محدودة من كبار الممثلين، وسيظل عنوانا على كفاح أبناء جيله، ودليلا أكيدا على أن الموهبة وحدها لا تكفى، لابد أن يتعب صاحبها لكى يعزف على أوتارها، فى رصيد خالد صالح ما يستحق أن تشاهده، وفى سلوكه الخاص والعام وعشقه لفنه ووطنه ما يستأهل الإشادة، و إذا كان المثل المصرى يقول “السيرة أطول من العمر”، فإننا نقول إن “أدوار الفنان أطول عمرا منه”، وسيبقى الفنان ما بقيت أعماله الفنية.