“حياة باي”.. الإيمان بوصفه حكمة الحياة الكبرى
فى تحفة بصرية وشعرية، محملة بقدر كبير من الرموز والدلالات الفلسفية يقدم المخرج التايواني إنج لي فيلمه البديع “حياة باي”pi) life of) عام ٢٠١٢، المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم، كتبها الكندي يان مارتل. الفيلم حصل على كم كبير من الجوائز، منها أربع جوائز أوسكار، كما سبق أن حصلت الرواية على جائزة المان بوكر.
يحكي الفيلم، بنحو رمزي، عن رحلة الإنسان للبحث عن الحقيقة، ومحاولته الدائمة للوصول إلى مرفأ آمن يأوي إليه، وينتشله من دوامات الشك والحيرة التي تحيط به من كل جانب. تقوم بنية السرد على حوار طويل بين باي الشاب الهندى الذى تعرّض لمحنة الغرق وقضي ٢٢٧ يوماً فى المحيط بصحبة نمر بنغالي مفترس، وبين كاتب كندي يبحث عن قصة مثيرة لروايته الجديدة. ومن خلال الحوار يسرد الفيلم قصته، بصرياً، عن طريق الفلاش باك، وما يميز تقنية السرد المستخدمة هو التداخل السلس بين الحوار الفلسفي من ناحية، والتعبير البصرى ذو الشاعرية الكبيرة من ناحية أخرى.
إن قدرة باي، صاحب التجربة الروحية العميقة، على الحكي المشبع بالحكمة الشرقية القديمة، هي ما منح الفيلم جاذبيته، وأضفي الكثير من المعنى على تفاصيل حياة باي الصغيرة. تعد مسألة الدين والإيمان بوجود إله خالق وقادر على تسيير حياة البشر، قضية الفيلم الأساسية. فباي ينتمى إلى أم هندوسية، وأب ملحد، وتلقى التعاليم التربوية التي تخص الحياة والدراسة من الجانبين بالتساوي، أى أنه نشأ فى بيئة غرست فى داخله بذور الإيمان والإلحاد فى الوقت ذاته.
لكن باي القلق، بالرغم من صغر سنه، كان حريصاً على أن يختار طريقاً واضحة ومحددة، حتى لو كلفه ذلك الدخول في تجارب روحية أكبر من سنه. فقد آمن بالهندوسية والمسيحية والإسلام فى وقت واحد، لأنه كان يشعر أن الأديان جميعاً تجليات لإله واحد. وهى الفكرة التصالحية التي رفضها الأب الملحد، ورأي أن الإيمان بكل الأديان يتساوى بعدم الإيمان، وأن الدين اختراع إنساني تجاوزه العلم.
كان السيناريو موفقاً جدأ عندما جعل الأب مالكاً لحديقة حيوان، فوجود الحيوانات في حياة باي جاء كمناسبة مهمة لإعادة اختبار باي لتساؤلاته الميتافيزيقية في سياق أرحب، وهو علاقة الإنسان بالطبيعة، كما جاء كتمهيد للحدث الأكبر في الفيلم عندما غرقت السفينة المتجهة إلى كندا، والتي كانت تقل باي وأسرته وحيوانات الحديقة، ولم ينج سوى باي وأربعة حيوانات تبقى منهم النمر البنغالي المسمى “ريتشارد باركر”.
يمكن تقسيم الفيلم إلى ثلاث مراحل، تلخص رحلة باي من الشك إلى الإيمان، الأولي الطفولة والتنشئة وهى مرحلة الشك، والثانية التجربة المباشرة مع الطبيعة لاختبار الشك، والأخيرة النجاة والوصول إلى مرحلة اليقين. وهى البنية السردية التقليدية، وفقاً لأرسطو، التي تقسم القصة إلى بداية وعقدة وحل. وعقدة الفيلم هي نفسها عقدة باي، فالبقاء وحيداً وسط المحيط بصحبة نمر مفترس يمثل مواجهة حقيقية وفريدة بين الإنسان والطبيعة، بين العقل والغريزة، بين الشك والإيمان. إن المركب التي كان يعيش على ظهرها باي، واقعياً، لا تصلح لإنقاذه من الغرق طوال الأيام التى قضاها وسط المحيط، بكل هدوئه وفورانه، وفى ظل التقلبات الطقسية الحادة والمخيفة، التي كانت تمثل، طوال الوقت، خطراً داهماً يهدد حياة باي، لكن شعور باي الفطري العميق بأن ثمة إله قادر يرعاه فى محنته هو ما منحه القدرة على المقاومة.
وضح أن الصراع من أجل البقاء، وأن البقاء للأقوى، هو القانون الطبيعي الذى يهيمن على الكائنات الحية، غير أن النظرة الغامضة التي كان يلمحها باي فى عيني النمر عندما كان يشارف على الغرق، وتلك التي لمحها فى عين السمكة التى اصطادها، جعلته يشعر بشيء من التعاطف مع الأول، وبشيء من الذنب تجاه الأخيرة. وكأن باي يرفض قانون الطبيعة القاسي، ويبحث عن أساس جديد للعلاقة بين الإنسان والحيوان، لأن كلاهما يمتلك روحاً، وإن كان أحدهما يحركه العقل والآخر تحركه الغريزة. والحقيقة أن الأساس كان موجوداً في تعاليم الهندوسية النباتية، التي تلقاها عن والدته، والتي تحرم أكل اللحوم، كما أن تلك النظرة الغامضة التى لمحها فى أعين الحيوانات التى تبدو مسالمة، هى فى حقيقة الأمر انعكاس لنظرته هو الرحيمة بتلك الكائنات، لأنها في حقيقة الأمر تتصرف بالغريزة ولا تملك عقلاً أو تمييزاً، على نحو ما علّمه الأب.
ربما يرمز النمر إلى الشر أو الغريزة، لكن باي، فى كل الأحوال، يكتشف أن العلاقة بينهما ينبغي أن تقوم على الترويض. فقدرة باي على ترويض النمر، إنما هى فى الحقيقة رمزاً لقدرته على ترويض غرائزه ونزعاته الشريرة التى بداخله. وهى إشارة قوية إلى قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة، وعلى نفسه، أو بالأحرى هو يقدر على السيطرة على الطبيعة إذا ما نجح في السيطرة على نفسه. وربما كان مفتاح هذه القدرة يكمن في فلسفة الكارما يوجا التى تلقاها باي فى صباه وجعلته يدرك معنى أن يعمل الخير دون أن ينتظر المقابل.
فى تحد آخر يجد باي نفسه في جزيرة غريبة الأطوار، فهى جميلة وبديعة وتجري فيها مياة عذبة نهاراً، لكنها قاسية وقاتلة وتجري فيها مياة سامة فى الليل. ومرة أخرى يهرع باي بمركبته إلى المحيط، ليواصل كفاحه الطويل ضد الموت، لكن بعد أن يدرك أن الطبيعة، كالإنسان، ليست شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً، لكنها تحمل بذور الحياة والموت فى الآن نفسه. وما على الإنسان سوى أن يملك القدرة على الاختيار وإرادة الحياة.
من المشاهد ذات الدلالة أن يكتب باي مذكراته ويضعها في زجاجة يلقى بها في عرض المحيط، ربما كان ذلك تقليداً معروفاً يقوم به البحارة الذين يتيهون فى البحار، لكن باي فى الحقيقة لم يكن يمارس تقليداً أو طقساً أملاه العرف البحري وقت الشعور بالضياع، لكنه كان يلقى برسالته من منطلق شعور عميق بأن ثمة قوة عليا ستحمل الرسالة إلى من يأتى لإنقاذه. فكلنا، فى الواقع، يلقى بهذه الرسائل البحرية، فى صورة طلبات أو شكاوي، أو حتى منشورات نتركها على مواقع التواصل الاجتماعي، أملاً فى أن يعثر عليها من يشعر بوجيعتنا، غير أن الدرس العميق الذى علمته لنا التجربة أن رسائلنا مهما بلغت من الصدق لن تصل إلا إذا كنا نحمل داخلنا ذلك الإيمان العميق بأن الله سبحانه سيضع في طريقها من يملك القدرة على تحقيق الخلاص.
فى المرحلة الأخيرة، يتم انتشال باي من المحيط، وفى كادر معبّر نشهده ممداً على رمال الشاطئ بينما يتحرك النمر ببطء باتجاه الغابة، وهنا يتساءل باي وهو يشيعه بنظراته المجهدة، لماذا لم يلتفت إليه النمر ليلقى عليه نظرة وداع؟!
يجيب الأديب الكندي بأن ذلك أمر طبيعي لأن الحيوان يتصرف بغريزته، وهو بهذا الاعتبار لا يعرف معنى الوداع، لا يعرف سوى الغابة والطبيعة التى ينتمى إليها، وقد عاد إليها. غير أن الذى لم يدركه الأديب أن باي فقد الأب والأم والأخ الكبير لحظة غرق السفينة دون وداع، لأن هناك إرادة أعلى شاءت أن يتم الفراق دون نظرة وداع، لتبقى حكمة الافتراق موضوعاً للتأمل، وليظل الإيمان هو الملاذ الوحيد لقبول فكرة المصير المحتوم.
وفى مشهد أخير ومعبّر، لا تقنع شركة التأمين اليابانية، التى جاءت لمعرفة أسباب غرق السفينة، بالقصة التي رواها باي لهم، فيعمد إلى أن يختلق قصة أخرى أكثر واقعية، فتقتنع بها الشركة. لكن اللافت أن باي فى الحقيقة لم يصنع سوى أنه أعاد سرد الحكاية لكن بصيغة أكثر واقعية، أى بعد أن جردها من أبعادها الميتافيزيقية، وهنا نجد تأكيداً على ذلك الصدع بين العلم والدين، بين الممارسة والاعتقاد، فى حياة الإنسان المعاصر، كما نجد تأكيداً لفكرة باي التي استهل بها رحلته من الشك إلى الإيمان، والتى تجعل الحقيقة الإلهية واحدة، بينما الأديان متعددة. ويمكننا أن نضيف أن العلاقة بين اللغة والوجود هي التي تحدد العلاقة بين الإنسان والإنسان، فكل إنسان لديه قصته وأسطورته التي يمكنه أن يعبّر عنها بالصيغة التي يشاء، غير أنه لن يستطيع أن يقنع الآخرين بصدق روايته إلا إذا صاغها بلغة يقبلها الآخرون وفقاً لأبجدياتهم هم لا أبجدياته هو.
ولعل في التساؤل الأخير ما يؤكد هذا المعنى، فقد سأل باي الأديب الكندي عن القصة التى يفضلها، فأجاب “قصة النمر” ، أى القصة الحقيقية بالرغم من طابعها الأسطوري، وهى إجابة تتسق وأديب حرفته الكتابة ومنطقه الإبداعي الذي لا يميز بين الواقع والخيال. لكن تظل عبارة باي الأخيرة التي اختتم بها الفيلم أحداثه هي الأعمق عندما قال “أشكرك.. لذلك هي مع الإله”!