دلالات الالهام الشعري كما يعكسه فيلم “الشعر”

Print Friendly, PDF & Email

ظهرت العديد من التصنيفات التي وضعها الفلاسفة للفنون إلى أن جاء لنا التصنيف النهائي لها والذي وضعه ايتيان سوريو مقسما إياها الي سبعة فنون وهي العمارة والرسم والرقص والموسيقي والأدب والشعر ثم أخيرا السينما وهي الفن السابع كما يطلق عليها التي تجتمع فيها كل الفنون، ولذلك قد يتجه البعض عند مشاهدته لأي فيلم سينمائي يربطه بشكل أو بآخر بغيره من الفنون الأخرى وخاصة الأدب والشعر.

السينما فن جميل وساحر ولكي نستمتع بهذا الجمال والسحر لابد أن نفهمها أولا ونفهم لغتها. هناك العديد من النظريات النقدية التي وضعت لفهم السينما ولغتها ورموزها. وفي مقالي هذا سوف أتطرق الي أحد تلك المداخل لقراءة السينما وفهم لغتها وهو الشعر وتأثيره فيما بعد على السينما ليظهر مصطلح (سينما الشعر).

الشعر والسينما ذو وظيفة واحدة فكلاهما يستحضر أدواته ليخترق وجدان المتلقي سواء كان عن طريق نصا شعريا مكتوبا أو صور مرئية متحركة.يقول المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي في كتابه «النحت في الزمن» الذي يجسد رؤيته الذاتية للشعر، والتي يرى على ضوئها في السينما أكثر الأشكال الفنية صدقًا وشعرية.

في هذا المقال سوف نتعرض الي العلاقة بين الشعر والسينما من خلال أحد الأفلام التي هي شاعرية قلبا وقالبا وهو الفيلم الكوري “الشعر” (2010) Poetry للمخرج لي تشانغ دونغ ومن بطولة الممثلة المبدعة يون يوانغ – هي.

تدور أحداث الفيلم حول السيدة (ميجا) ذات الـ 66 عاما التي تريد الالتحاق بدورة لدراسة الشعر، وتقرر أن تحقق أحلام الشباب الخاصة بها عن طريق كتابة الشعر، إلا أن هذا الطريق لم يكن مفروشا بالورود أمامها، خاصة بعد معرفتها بتورط حفيدها المراهق الذي يعيش معها، بانتحار فتاة تعرضت لاغتصاب جماعي من قبل زملاء لها في المدرسة.

بعيدا عن الجانب الدرامي التي تتناوله أحداث الفيلم سوف نلقي الضوء على التقنيات الشعرية التي يحتوي عليها هذا العمل السينمائي الشاعري.

أولا: نجد أن رسم شخصية (ميجا) نفسها من أول وهلة لا تبدو كأي امرأة عادية فهي برغم فقرها وعملها كممرضة بدوام جزئي لأحد المسنين، مهتمة تماما بأناقتها فهي تحرص دائما على الخروج متأنقة مهما كانت متاعبها أو همومها وهو ما يدل على حسها الجمالي.

إنها رغم حياتها القاسية المتعبة في محاولة بحث عن معنى جمالي جديد في حياتها ومن هذا المنطلق نجدها تسعي للانضمام لفصل الشعر وإصرارها على كتابة قصيدة في خريف عمرها، حيث لم يسبق لها أن كتبت واحدة من قبل، نجدها تحاول الحصول على الإلهام الشعري عن طريق الإقبال على متع الحياة الصغيرة، ورصد تفاصيل الحياة اليومية، بكتابة ملاحظات على دفتر صغير تصف به مشاهداتها عن الزهور والطيور والأشجار.

 ثانيا: شخصية مدرس الشعر الذي هو مدخلنا مع السيدة (ميجا) الي عالم الشعر وماهية الشعر. ففي أولي المشاهد الخاصة بالمدرس يبدأ كلامه بقوله إن الشعراء يرون ما لا يراه الناس العاديون.

يؤكد مدرِّس الشعر أن الناس لا يرون الجمال الحقيقي، ولا يكتشفونه بسهولة على الرغم من أنه موجود بالقرب منهم دائماً.

وفي واحدة من محاضراته القيّمة يقول: «إن كل واحد منكم على انفراد يحمل الشعر في قلبه، لكنكم تحبسونه، ولقد جاء الوقت لتحرير الشعر وإطلاقه». ثم يضرب مثالاً في غاية الأهمية حينما يمسك تفاحة، ويقول إننا جميعاً قد رأينا مثل هذه التفاحة آلاف المرّات، ولكننا لم نتمثلها ونتحسسها جيداً، ولم ندوِّرها في أيدينا، لذلك فإننا لا نستطيع أن نمسك بجمالها الحقيقي الذي يختفي وراء عجالتنا وانهماكنا في مشاغل الحياة اليومية.

وفي هذه الأثناء تسأل السيدة ميجا سؤالاً منطقياً قد يدور في أذهان العديد من الناس المعنيين بالعملية الابداعية مفاده: «متى يأتي الإلهام الشعري؟» فيجيبها المدرِّس جواباً قد يبدو غامضاً ومُربكاً بالنسبة لها حينما يقول: «الإلهام لا يأتي، بل يجب أن تذهبي إليه وتتوسليه. يجب أن تصلّي له، وحتى الصلاة قد لا تضمن لك شيئاً. انه شيء ثمين جداً، ولا يمنح نفسه دفعة واحدة. وهذا هو السبب الذي يدعوكِ لأن تذهبي إليه وتتوسلي له».

تسأل ميجا سؤالاً ينطوي على بعض السذاجة هذه المرة حينما تقول: «أين أذهب؟» فيضحك المدرس ويقول: «إنه ليس في مكان محدّد، ولكن لابد أن يكون في مكان ما يجب أن تذهبي إليه. الشعر لا ينتظركِ، وهو موجود في مكان قريب جداً، وليس بالضرورة أن يكون نائياً. إنه هناك حيث تقفين. إن الشعر يمكن أن يوجد حتى في حوض غسيل الأطباق!».

هذا المشهد بالكامل يمثل المعني الحرفي لكلمة تواسط حيث تم استحضار عالم الشعر من خلال مدلوله وتعريفه ومصطلحاته مثل مصطلح الشعر والشعراء وما هو مدلول الإلهام الشعري فنجد أنفسنا قد تعلقنا بهذا العالم بعيدا عن الأحداث التي حدثت أو ستحدث لاحقا فنحن حاليا ممتزجين كليا في هذا العالم الشاعري الخالي من أي هموم والذي يسعي دائما في البحث عن الجمال كما تفعل تماما (ميجا) وأصبحنا نتماهي ونتوحد معها تماما في مسعاها فمن منا لا يبحث عن الجمال أو السحر في هذا العالم القاسي.

يحتوي الفيلم علي الكثير من المشاهد التي تشير الي تداخل كلٍ من العالمين الشاعري والسينمائي بصورة استثنائية، فرغم قسوة الأحداث التي تتعرض لها شخصية (ميجا) الا أن الفيلم يؤكد علي وجود الجمال والسحر والسكينة في هذا العالم القاسي المتداعي ويظهر ذلك في مشهد النهاية ونحن نستمع الي القصيدة التي قامت (ميجا) بتأليفها ولكننا نسمعها من خلال الفتاة الضحية (بارك هي جا) التي تقول:

كيف انتهت الأمور هناك؟

 كم هي وحيدة؟

 أمازلت ِ تلمعين في غياب الشمس؟

 هل الطيور لا تزال تغني في الطريق الى الغابة؟

 هل بإمكانك أن تستلمي الرسالة التي لم أجرؤ على إرسالها؟

هل أستطيع أن أنقل الاعترافات التي لم أبح بها؟

 هل سيمضي الوقت وتذبل الزهور؟

لقد حان الوقت لأقول وداعاَ مثل الريح التي تتوانى ثم تمضي.
قبل أن أعبر النهر الأسود – بنَفَس روحي الأخير

بدأت أحلم بصباح مشمس لامع (التقيتك)

Visited 83 times, 1 visit(s) today