“جيوا”.. التصالح مع الماضي في بلاد المهجر
محمد كمال
كلمة “Juwaa” في اللغة السواحلية تعني “الشمس”.. والكلمة في الفيلم البلجيكي الكنغولي الذي يحمل نفس الاسم تعبر عن المعنى الشامل لها، حيث الشمس من حيث الشروق في كل يوم جديد، الشمس التي تملئ الدنيا بالدفئ في الليالي شديدة البرودة، الشمس التي تعكس بظلها تجاه البشر، وأيضا التي في بعض الأحيان تكون حارقة، الشمس التي تعبر عن حياة أبطال هذا الفيلم الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة خلال المشاركة في مسابقة الدياسبورا خلال الدورة ال 12 بمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية.
يشارك في بطولة فيلم ” Juwaa” إديسون أنيبال، بابيتيدا ساجو، كلاوديو دوس سانتوس، فرانسيسكو إيفان لوزيمو، وآدي باتيستا، ومن تأليف وإخراج نجانجي موتيري في تجربته الأولى على مستوى الأفلام الروائية الطويلة، ويبدو أن الفيلم يعتبر سيرة ذاتية له حيث أن موتيري من أصول كنغولية ولد في مدينة بوكافو قرب العاصمة كينشاسا وهاجر إلى بلجيكا عام 1996 بعد حادث مقتل والده في الكنغو ويعيش في بروكسل هناك حتى الآن، ونفس الأمر نجده في بطل الفيلم “أماني“.
مع أغنية خاصة للأطفال تأتي المشاهد الأولى حيث الأم ريزيكي تغنيها للابن أماني صاحب ال 10 أعوام حيث يتعرض حين ذلك الأب بول إلى القتل بسبب مقال نشرته ريزيكي تقدم خلاله نقدا لاذعا لأحد الوزراء الكبار في الحكومة الكنغولية وتضطر لمغادرة الكنغو والحياة في أوروبا وترك ابنها مع الجدة في كينشاسا، وتنتقل الأحداث سريعا بعد مرور أعوام طويلة حيث تتوفى الجدة ويضطر أماني السفر لبروكسل للعيش مع والدته واستكمال دراسته هناك.
لم يعتمد المخرج نجانجي موتيري على فكرة المقارنة بين الحياة في كينشاسا والفوارق الكبيرة مع بروكسل بل صب كل تركيزه على شخصية الابن أماني ذلك الشاب الذي افتقد التواصل مع والدته بل ويحملها مسئولية مقتل والده وأيضا لا يتصالح مع موقفها في التخلي عنه لعدة أعوام، ,واتضح هذا جليا خلال اللقاء الأول في المطار حيث لم يحمل أماني نفس مشاعر الحب والترحاب التي قابلته بها والدته.
ظهرت شخصية أماني على أنه شاب سريع الغضب متهجم الوجه طوال الوقت يتعامل مع والدته وزوجها رافييل البلجيكي بفتور وحذر وبكلمات قليلة في أضييق الحدود وفي أحيانا بعنف في ردود الأفعال تجاهما وخاصة تجاه زوج الأم الذي لا يستطيع أماني التصالح مع فكرة أنه البديل لوالده الراحل.
اختار أماني أمرين ليكونا بمثابة تعويض له أو متنفس لحالة الغضب المسيطرة عليه، الأمر الأول الاتجاه لممارسة الملاكمة حتى يخرج بها طاقة الغضب الكامنة خاصة في الضربات التي يوجهها للخصوم، والأمر الثاني كان الرسم حيث يستخدمه للتعبير عن كل الهواجس التي تدور داخله، واختيار المخرج للأمرين كان شديد الذكاء نظرا للفوارق الكبيرة بين طبيعة كلا منهما عن الآخر فالملاكمة رياضة شديدة العنف عكس الرسم فهو فن شديد العذوبة، وهنا أراد موتيري أن ينقل لنا تفاصيل شخصية أماني التي تحمل الأمرين معا لكنه مازال يبحث عن ذاته.
في البداية سارت شخصية أماني عبر مسارين الأول العلاقة المتوترة مع والدته وزوجها حيث أن أماني أعلن لهما أنه أتى للدراسة فقط لكنه في حقيقة الأمر حضر للبحث عن والدته التي أيضا لا يستطيع أن يتجاوز مسألة غيابها عنه وتركه وهو صغير وهو الشعور الخاص بالهجر الذي سيطر عليه في موطنه مع ذلك استمر معه حتى عندما وصل إلى بروكسل ورغم أنه أصبح مع والدته إلا أن شعور الغربة ظل محاصرا له بحكم أنه يعيش في بلاد المهجر.
المسار الثاني في شخصية أماني كان الارتباط الشديد بالجدة أولا وبموطنه ثانيا، فالأولى مازلت مصدر قوته وإلهامه والملجأ لشكواه وغضبه، أما الوطن فهو متغلغل داخل أماني لدرجة جعلته يلتزم بالمعتقدات الدينية الإفريقية أولا، يدافع عن الوطن أمام أصدقائه من الكنغوليين المهاجرين، في مقدمتهم شخصية “جيجا” المهاجر الكنغولي الذي يحمل نفس مشاعر الغضب وأيضا الماضي القريب من ماضي أماني لهذا فأن جيجا يرى أن أماني يمثل صورته في شبابه عندما هاجر من كينشاسا إلى بروكسل.
سيطر الارتباك تماما على أماني لأنه بعيد عن الوطن وزاد هذا الارتباك بعد إعجابه بفتاة كنغولية تدعى راينا وهي تمثل النموذج العكسي له حيث الانخراط التام في الحياة الأوروبية والابتعاد كثيرا عن الهوية الإفريقية عن قصد، صحيح ان الفيلم لم يبرز أي تفاصيل عن ماضي راينا لكن يبدو أنه أليم أيضا لهذا فهي اختارت الحياة كمواطنة بلجيكية دون الالتفاف لأي أحداث قبل ذلك.
ارتكز المخرج في النصف الثاني من الفيلم على استخدام مشاهد الفلاش باك حيث العودة إلى الكنغو ليقدم لنا تفاصيل الماضي الأليم للأم والأسباب التي جعلتها مجبرة على ترك الكنغو، ريزيكي هي الأخرى تحمل مشاعر متضاربة بين حب الوطن ورفض العودة له لدرجة جعلت ابنها يتشكك في نوايا المقالات التي تكتبها عن الكنغو ليس فقط لأنها تقدم انتقادات حادة ولاذعة للديكتاتورية هناك لكن لأنها أيضا بالنسبة له ليست مخلصة.
وجاء توظيف مشاهد الفلاش باك بصورة عكسية خلال حركات الممثلين اختيار ذكي ومبدع من موتيري أراد من خلاله التعبير بدقة عن الماضي وتفاصيله خصوصا في المشاهد التي جمعت بين الثلاثي أماني وريزيكي مع الأب.
نجحت ريزيكي في إعادة بناء حياتها في المهجر على مستوى العمل أو علاقتها بزوجها رافييل لكن ظلت علاقتها بابنها هي النقطة السلبية الوحيدة في حياتها، ونفس الحال أماني الذي يحاول هو الآخر بناء حياته الجديدة في بروكسل لكن هنا مختلف حيث أن أماني يحاول أولا أن يجد ذاته خاصة تحديد مشاعره تجاه والدته خاصة.
كانت لدى أماني الرغبة في دراسة الصحافة الاستقصائية على غرار والده ووالدته لكن الماضي ومشاعر الغضب تجاه ريزيكي جعلته يتراجع ويقرر تغيير مصيره، وجاءت نهاية الفيلم مثل بدايته على كلمات الأغنية التي قدمتها الأم في البداية للابن لكن الفارق فقط كان في المرحلة العمرية.
اختار المخرج نجانجي موتيري أن يقدم دور الأب بول الذي ظهر في بداية الأحداث، ويبدو هنا أن اختيار موتيري جاء كنوع من التكريم لوالده الذي له تأثير كبير على شخصيته وحول التباين في علاقته بوالدته في البداية غضب ثم تحول إلى تصالح، ليس فقط مع الأم لكن أيضا مع الحياة خارج الموطن الأصلي، ولم تكن تلك هي التجربة الأولى لموتيري كممثل بل ظهر في المسلسل البلجيكي “Salamander” وأيضا المسلسل السويدي “Hassel“.