جاك ريفيت  و”جنون الحب”: موجة جديدة لجمهور قديم

Print Friendly, PDF & Email

ملاحظة للجمهور الذي يستعد لمشاهدة فيلم “الحب المجنون”  L’Amour fou، وهو فيلم من إخراج جاك ريفيت  عام 1969. الفيلم مدته أكثر من أربع ساعات. كن مستعدًا، ابحث عن مقعد وثير، وتناول الطعام والشراب. ألق نظرة عاطفية على رفقائك في العرض وأخبرهم أنك تحبهم، لأنكم على أعتاب مغامرة في الزمن. وهذا ليس كل شيء: فقد تم تصوير ما يقرب من نصف الفيلم بكاميرا 16 ملم، وللصورة مظهر حبيبي مقصود، وباختصار، مرحبًا بك إلى الجناح المتشدد للموجة الفرنسية الجديدة. من المؤكد أن العديد منكم هنا بسبب هذه الأشياء، وليس على الرغم منها.

عندما أخرج جاك ريفيت  فيلم  L’Amour fou، كان مخرجا رائدًا في تلك الحركة السينمائية المتفجرة التي أطلقت سلسلة من الموجات الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا ومناطق أخرى من عالم السينما. ولد ريفيت في مدينة روان بشمال فرنسا، وجاء إلى باريس في أوائل العشرينيات من عمره ليصبح مخرجا سينمائيا بعد أن ألهمته مذكرات جان كوكتو المنشورة حول تصوير فيلمه “الجميلة والوحش” (1946)وبعد وصوله مباشرة تقريبًا، انضم إلى أعضاء المجموعة الأساسية التي ستكتب النقد السينمائي لمجلة  Cahiers du Cinéma، وكان يحررها الأسطوري أندريه بازان، وشكلوا أول مجموعة من مخرجي الموجة الجديدة. وبعد أن رفضت مدرسة السينما قبوله، انضم ريفيت  إلى جان لوك جودار وفرانسوا تروفو وغيرهما ممن دربوا أنفسهم على السينما من خلال مشاهدة الأفلام القديمة كل يوم في دار السينماتيك الفرنسية، وأصبح هذا الملاذ لمحبي السينما بالنسبة لريفيت  بمثابة “جامعتي هارفارد وييل (على حد تعبير هيرمان ميلفيل).

جاك ريفيت

 بدأ ريفيت  في كتابة النقد السينمائي في عام 1950 لكنه لم يتوقف أبدًا عن اعتبار نفسه مخرجا سينمائيا. ثم أخرج عدة أفلام قصيرة قبل محاولته إخراج أول فيلم روائي طويل له في أواخر الخمسينيات، وهو فيلم Paris Nous Appartient (باريس تنتمي إلينا)، والذي عرض عام 1961. وقد وضع هذا الفيلم نموذجًا مهمًا: فقد كان أول عدد من الأفلام التي كان تركيزها الأساسي على المسرح، وتحديدًا تصويؤ تدريبات فرقة مسرحية على العرض المسرحي. وسيعود ريفيت إلى هذا الموضوع مرارًا وتكرارًا، بدءًا من فيلم L’Amour fou

من فيلم “على آخر نفس” لجودار

ولكن قبل ذلك، جاء فيلمه الروائي الطويل الثاني La religieuse (الراهبة، 1966)، وهي قصة تقليدية مبنية على رواية من القرن الثامن عشر بقلم دينيس ديدرو. وكانت الشخصية الرئيسية امرأة أجبرتها عائلتها النبيلة على دخول دير، حيث تبذل قصارى جهدها للهرب من مصيرها. وكان فيلما مثيرًا للجدل إلى حد كبير بسبب انتقاده الضمني للكنيسة الكاثوليكية. وانتهت معركة استمرت لمدة عام مع الرقباء لصالح ريفيت ، حيث حقق فيلم “الراهبة” في النهاية نجاحا كبيرا. ومن عجيب المفارقات أن هذا النجاح الهائل كان المرة الأولى والأخيرة التي يحاول فيها ريفيت  تقديم قصة مباشرة للجمهور. وكان في فيلمه التالي، “الحب المجنون”، يتجنب السينما التقليدية؛ وكان فيلماً مصورا بالأبيض والأسود يقع في أربع ساعات، وقصة الفيلم بعيدة كل البعد عن المباشرة.

ولم يكن ريفيت  وحيداً في محاولة دفع الأمور إلى هذا الحد، فقبل عشر سنوات، أزعج صديقه الحميم جان لوك جودار السلام القائم وقتها في عالم السينما بفيلمه “على آخر نفس” (1960)  ولا شك أنه كان يتذكر، مع كثيرين غيره، الإثارة التي نتجت عن استخدام الأبيض والأسود (خاصة في عصر التحول إلى الألوان)، إلى جانب مخالفة الكثير من القواعد السينمائية الذين أطلقت في وجه جمهور غير مستعد لها، وكان لدى جودار ورفاقه ــ النقاد والمعلقين الذين يكتبون لمجلة “كاييه دو سينما” ــ مهمة: إيقاظ صناع الأفلام الذين ظنوا أنهم ناموا أثناء العمل.

ولكن الهجوم كان موجهاً أيضاً إلى الجمهور، وكان يركز على جبهتين: الماضي والمستقبل، فقد تلقى العالم توبيخاً شديداً من كُتاب مجلة “كراسات السينما” (وكان ريفيت ، وفقاً لشهادة أقرانه، في مقدمتهم) بسبب مواقفه السابقة من الأفلام، فقد كنا جميعاً مخطئين في الطريقة التي كنا نشاهد بها الأفلام ونقدرها: فالأفلام التي رفضناها كانت خاطئة (دوجلاس سيرك، ونيكولاس راي)؛ والأفلام التي أحببناها كانت لأسباب خاطئة (جون فورد، وألفريد هيتشكوك). وقد قدمتنا إلى كلمة غير مألوفة هي المخرج- المؤلف. وفي أعقاب تصريحات كتاب/ مخرجي الموجة الجديدة، عدنا إلى أفلام الماضي باهتمام متجدد ومنظور مختلف، ولم يشكك سوى قِلة في تأثير ريفيت  وزملائه على الكيفية التي ينظر بها العالم إلى السينما اليوم.

من فيلم “الراهبة”

وعلى الجبهة الثانية، التي كان هدفها تغيير مستقبل صناعة الأفلام، قاد جودار الهجوم. وكانت البداية بفيلم “على آخر نفس”. لقد أصبحت الصدمات الأسلوبية لهذا الفيلم التاريخي مألوفة الآن: الانتقالات المفاجئة، واستخدام الضوء المتاح مع تأثيراته غير المتساوية، والمونتاج المتقطع، وارتجالات الممثلين، ولكنها كانت مفاجئة بشدة للجمهور المعاصر. لقد بدا الأمر وكأن جودار، بدعم من نقاد مجلة “كراسات السينما” الآخرين، بما في ذلك صديقه المقرب ريفيت ، يهز أكتاف المشاهدين ويصيح: “لقد ولت أيام مشاهدة الأفلام في راحة! لا مزيد من التدليل من خلال المونتاج السلس المستمر في هوليوود! نحن هنا لتذكيرك بأن الذهاب إلى السينما هو فعل سياسيـ ابقَ مستيقظاً، وكن على دراية، وابقَ منخرطاً!“. وكان الارتباك في السرد أحد المكونات القوية للقلق.

ومع ذلك، لم تكن أعمال كبار مخرجي الموجة الجديدة: جودار، وتروفو، وريفيت ، وشابرول، ورومير، كلها متجانسة، ذلك أن نسيج تروفو من السرديات غير المتجانسة، وأفلام الإثارة الأنيقة التي تشبه أفلام هيتشكوك التي أخرجها شابرول، وحكايات رومير اللطيفة، تختلف تمام الاختلاف عن أعمال جودار النشطة. وكان ريفيت أقرب إلى جودار المتشدد في إرباك المشاهدين، وإن كانت تكتيكاته الثورية مختلفة. وفي أغلب الأحيان، تجنب ريفيت المونتاج المتقطع والمؤثرات المزعجة التي كان مخرج “على آخر نفس” يلجأ إليها، ولكن ممارساته السردية وارتجالاته جعلت المشاهدين يشعرون بعدم الارتياح.

والأهم من ذلك كله أن ريفيت تحدى الجمهور بطول أعماله، فقليل من أفلام ريفيت لا تقل مدة عرضها عن ساعتين ونصف الساعة. وأحد أشهر أفلامه وهو فيلم
سيلين وجولي يذهبان في نزهة بالقارب”- 1974
Céline et Julie Vont en bateau  كان من عرضه ثلاث ساعات؛ و”الحب المجنون،  و“المشاغبة الجميلة” (1991) مدة كل منهما أربع ساعات؛  Jeanne la pucelle  و”جوان العذراء”، 1994)، وهي رؤية ريفيت  لقصة جان دارك، مدته أكثر من خمس ساعات ومقسم إلى فيلمين، ويعد فيلم سيئ السمعة” (1971)، الذي يصور قصة مؤامرات مرتجلة إلى حد كبير (ويتضمن مرة أخرى ممثلين يتدربون على المسرحيات) أطول فيلم لريفييت، وبلغ ما يقرب من ثلاث عشرة ساعة، وهناك نسخة مختصرة مدتها أربع ساعات.

استغل ريفيت الحريات التي اكتسبها مخرجو الموجة الجديدة من القيود السينمائية التقليدية التي فرضوها على أنفسهم من أجل إعطاء ممثليه المساحة والوقت بشكل متكرر لارتجال أدوارهم، وكان الارتجال، وهو من السمات المهمة في فيلم  “على آخر نفس”، جزءًا من التقنية الجديدة التي تبناها ريفيت في لفيلم “الحب المجنون” فقد  كان الارتجال يحظى برواج في جميع أنحاء العالم، وكان ريفيت، الذي اشتعل اهتمامه بالمسرح من خلال إنتاج مسرحي كامل لفيلم “الراهبة” الذي أنجزه قبل بدء تصوير ذلك الفيلم المثير للجدل، معجبًا جدًا بعد بضع سنوات بفرقة من الممثلين المرتجلين تسمى”مارك أوه” Marc’O players  لدرجة أنه استأجر العديد منهم للتمثيل في”الحب المجنون” وشمل ذلك بول أوجييه وجان بيير كلافون، في دور السيدة الرئيسية ومخرجها في فرقة مسرحية تتدرب على إنتاج مأساة جان راسين  Andromaque “أندروماك” والاثنان أيضًا زوجان يكافحان من أجل البقاء.

من فيلم “الحب المجنون”

و”الحب المجنون” فيلم متعدد الطبقات يحدث فيه عدد من التفاعلات المختلفة في وقت واحد، أما قصص الحب المحبطة، والخيانة، في فيلم “أندروماك” فتنعكس في سلوكيات الشخصيات التي تقوم بها، في حين يتميز الفيلم بشكل بارز، ليس بمخرج واحد بل مخرجين: الأول هو المخرج المسرحي (كالفون) الذي يحاول استحضار الأداء الطبيعي من ممثليه (يحثهم على التحدث عن حوارهم باعتباره “محادثات”)؛ والثاني هو مخرج تلفزيوني يصور فيلمًا وثائقيًا عن عملية التدريب المسرحي (أندريه لابارث). وبالطبع هناك مخرج ثالث، هو ريفيت نفسه، يصور فيلمه الواقعي.

وعادة ما يثير أي فيلم عن مخرج سينمائي تكهنات بشأن ما إذا كان يعتبر تعبيرا ذاتيا. ولإضافة المزيد من التعقيد بين الواقعي والمسرحي/ السينمائي، سُمح للممثل كالفون بإخراج الممثلين بنفسه، كما فعل في فرقة ماركو، بينما تم تصوير تسلسل المقابلات التلفزيونية تحت إشراف لابارث بشريط 16 ملم على غرار “سينما الحقيقة” الشعبية آنذاك. وفي هذه المقابلات، سُمح للممثلين بأن يكونوا على طبيعتهم، مع ترك المشاهد لتحديد مستوى الواقع الذي يعمل عليه الممثلون. وفي تحليلها الممتاز للفيلم، لاحظت ماري إم. مايلز اختلافات كبيرة في حركات الكاميرات مقاس 16 مم و35 مم، وكأن المشاهد يستطيع أن يكتشف دخول ريفيت نفسه وخروجه من المشاهد في أوقات مختلفة. ويقول الناقد روبن وود: “لدينا إذن ريفيت يصنع فيلمًا عن لابارث الذي يصور فيلمًا وثائقيًا عن كالفون الذي ينتج مسرحية لراسين يعيد تفسير أسطورة يونانية”.

ما الذي يختبره المشاهد في هذا المثال الجذاب لنهج الموجة الجديدة التي يتبناها ريفيت؟ تعقيد جمالي رائع أم ارتباك عقابي؟ حسنًا، ربما القليل من الاثنين. يقدم فيلم “الحب المجنون” L’Amour fou تجربة غنية للمشاهدين ولكنه قد يتطلب بعض العمل الشاق من جانبهم. ربما يجد المشاهدون لأول مرة تعليق جيمس موناكو ذا أهمية خاصة: “قد يكمن الاختبار الحقيقي لنجاح فيلم “الحب المجنون” في جودة استجابتنا للقصة، ليس أثناء مشاهدتنا لها، بل بعد يوم أو أسبوع”.

Visited 10 times, 4 visit(s) today