ثلاثية الألوان لكريستوف كيشلوفسكي
عندما يبحث الإنسان عن ملاذ يقيه من قسوة الحياة، يلجأ في غالب الأحيان إلى الشيء الذي يذكره بأيام سعادته. قد يكون حضن امرأة، أو مذاق كأس، كما قد يتعلق الأمر بلوحة فنية أو فيلم معين.
لا يمكنك أن تصدق فيلما عن الثورة من اخراج شخص لم يجرب أن يثور. كما لا يمكن أن تشاهد فيلما طويلا يتحدث عن الوحدة، بينما أنت تبحث عن الخروج منها!
بولندا، هذه الدولة القابعة في أوروبا الوسطى عرفت ثورات عدة، كما أنها عانت جدا من طغيان الجارة ألمانيا أيام الحرب العالمية.
من رحم المعاناة يولد الإبداع! هكذا استطاعت بولندا أن تمنحنا أعظم الشعراء، و لم تتوقف عند ذلك فقط، بل تجاوزته الى حد أن شرَّحت كافة المجتمعات من خلال صور تتحرك في شاشة عملاقة وسط قاعة “السينما”.
السينما البولندية هي سينما اجتماعية/ درامية بامتياز،مرورا بأندريه فيدا .. كرزيشتوف زانوسي . أندريه زولاوسكي.. رومان بولنسكي.. وصولا إلى العظيم كريستوف كيشلوفسكي.
لن يخصص المقال لحياة المخرج كيشلوفسكي، أو تحليل للرمزية في أعماله، بل سينحصر المقال في ثلاثيته الشهيرة “ثلاثية الألوان”. هل هي حقا ألوان أم أحلام، ثم ماذا يمكن القول عن باقي الألوان؟ هل يكتفي الإنسان بثلاثة أحلام؟ أم أن الحياة تفرض عليه الخضوع للنظام؟.
الافلام عبارة عن ثلاثة ألوان: الأزرق 1993- الأبيض 1994- الأحمر 1994، وهي ألوان العلم الفرنسي التي ترمز إلى مبادئ الجمهورية الفرنسية؛ الحرية .. المساواة .. الإخاء. لكن الأمر يتعدى مجرد هذه المبادئ الى ما هو أكثر عمقا، وأشد رمزية. حيث صرح كيشلوفسكي أن هذه المفاهيم أو المبادئ اعتمدت لأن فرنسا هي بلد الإنتاج، الأفلام تتضمن مفاهيم تضطرب بها الأحاسيس، أفكارا تنشرح لها الصدور.
عذاب الحب، حتمية الخداع، الفاعلية الفظيعة لخوف الرجال والقرف الذي تشعر به النساء.
مفاهيم يصعب حظرها بسهولة، حيث ان افلام كيشلوفسكي تعتمد بشكل أساسي على الرمزية، الفيلم ليس ذا أهمية تذكر اذا كان واضح الأفكار. هكذا تسير الثلاثية وفق تسلسل منطقي، تتخلله تخمينات في مشاهد قد تبدو ثانوية أو مجرد فواصل لشد انتباه المشاهد! لكنها تتعدى كل التوقعات، حيث من بين الاشياء الأكثر بساطة تظهر الاشياء الأكثر تعقيدا. هذه هي سينما كيشلوفسكي.
ثلاثية عاطفية
الأفلام تتحدث عن شخصيات مختلفة عبر مدن مختلفة، الجميل في الأمر أن الشخصية الرئيسية في كل فيلم، تلعب دور كومبارس في الفيلم الموالي. ربما دلالة على كون العالم ليس إلا عالما صغيرا، و أن مأساة شخص لا تعني بالضرورة أنها الأسوأ على الإطلاق؛ المآسي لا تنتهي، فلم علينا الاستسلام!
الأزرق: العدمية طريق نحو الحرية
الفيلم الأول من الثلاثية، الأزرق، يبدأ بحادثة سير قاتلة يشهد على حدوثها مراهق سوف يتواصل بعد ذلك بمدة مع الناجيو الوحيدة. هل هي صدفة؟ أكيد ليست كذلك. هل هو تذكير من القدرعلى أنه ما يزال منتبها لها رغم كراهيتها الشديدة له؟ القدر الذي أخد منها طفلها وزوجها؟ القدر الذي جمع بين زوجها وامرأة اخرى؟ القدر الذي يرفض أن يمنحها حريتها؟
تبيع جولي – جولييت بينوش – ممتلكاتها وتقرر العيس متخفية في باريس. الان سوف تعيش ضد القدر،لابد من البكاء لكن هذا لا يعني الاستسلام والعيش المستمر في العدم. الحياة تستمر والروح عليها أن تتحرر.
الأبيض: هل المساواة كافية لرد الاعتبار
في الأبيض الجزء الثاني من الثلاثية، نجد كارول المهاجر البولندي الحلاق الذي يعيش بباريس، سوف يطلق غصبا عنه من زوجته دومينيك – جولي ديلبي – لأنه لا يلبي رغباتها الجنسية! كانا في غاية السرور قبل الزواج، لكن بعده تغيرت الكثير من الاشياء خاصة الشاعرية منها. ما لا يقتلك يقويك، هكذا أصر كارول على الانتقام منها. لكنه قبل ذلك لم يجد بنسا واحدا يمكنه من العودة الى بولندا كما أنه بلا جواز سفر، سوف يسافر مختبئا وسط حقيبة!.
بعد ذلك سوف ينتقل رويدا رويدا من عالم البؤس، الى عالم البورجوازية، مستغلا صحوة العقار الجديدة. ثم سيتمكن يعد خطة محكمة من تحطيم قلب دومينيك.
الفيلم صدر قبل انضمام بولندا الى الاتحاد الاوروبي، يبدو أن كيشلوفسكي تسائل في فيلم عن مستقبل بلده بعد الانضمام الذي تحقق فعليا سنة 2004، هل حقا هذا ما يبحث عنه الشعب، أن تتحقق المساواة؟ هل المساواة تتعلق فقط بالثروة والنجاح المادي؟ ماذا عن الروح؟ هل هذا فعلا ما تبحث عنه بولندا؟ هل هذا حقا ما يريده الشعب البولندي؟ ينتهي الفيلم بالبكاء.
الأحمر: النصر حليف المضطهدين
الأحمر، الجزء الثالث من الثلاثية، وأكثرهم صلابة، فالنتين – ايرين جاكوب – طالبة وعارضة في مجال الدعاية، تعيش في عالم من الوحدة والعزلة في ظل غياب حبيبها الذي يعيش في انجلترا، تصدم كلبة لسيارتها، هذه الحادثة سوف تجعلها تلتقي فالقاضي المتقاعد – جان لوي ترينتينان – العدائي، شديد الغرابة والمستاء ذو الهواية غير القانونية، حيث يتجسس على اتصالات جيرانه. تدور بينهما علاقة ليس لها عنوان لكنها تمثل الكثير لكليهما، كأن كل منهما أحس برغبة الأغر في من يؤنس وحدته ويعزز ثقته. الإيخاء الذي نجده من الغريب ونفتقده من الحبيب!
في الجانب الآخر نجد الشاب اوجست طالب الحقوق الذي تربطه علاقة غرامية بامرأة تكبره سنا تشتغل مذيعة للارصاد الجوية، ينجح في امتحان القضاء، لكنها تهجره، ماذا يعني هذا؟ هل كان مجرد دمية تلهو بها خلال الأوقات الصعبة؟. العلاقات الغرامية لا تعني بتاتا الحب والايخاء. هذه قاعدة قد يعطيها استثناء!
تتعرض سفينة في آخر الفيلم لحادثة خطيرة، يغرق الجميع ما عدى؛ فالنتين .. القاضي المتقاعد .. القاضي الشاب .. و بطلا الجزئين السابقين. كأن طريق النجاة من العرق في محيط الحياة يتطلب التشبث بثلاثة مبادئ : الحرية – المساواة – الايخاء.
بعيدا عن الأفكار والمفاهيم، الكرام في الاجزاء الثلاثة كأنها أحلام دون دلائل على حدوثها، أحلام قد تتحقق بعيدا عن كل التوقعات، وأكثر بعدا من الدراما والأحلام، يمكن الاكتفاء فقط بالأداء المميز للممثلين، والاستمتاع بالموسيقى التي ألفها الملحن الكبير زبيغنيو بريسنر.