ثرثرة وجريمة حرب وأشياء أخرى

في 1979، أي بعدَ قرابة أربعَ سنواتٍ مِن اشتعالِ الحربِ الأهلية، قامت أسرةٌ لبنانيّةٌ بتسجيلِ أخبارِهم على شريط كاسيت، كما جرت العادة آنذاك، لقريبهم زياد الذي كان يدرس في الاتّحاد السوفيتي، ثم بعد أكثر من عشرين عامًا يقوم أحد أبناء تلك الأسرة، الذي أصبح مُمثلًا ومسرحيًا وفنانًا بصريًا، بكتابةِ وإخراجِ شريطِ لا يتجاوزُ مُدّتُه العشر دقائق، يجمع فيه أصواتَ عائلتِه، وصورًا فوتوغرافية مُختلفة، وحزمةَ تساؤلات شخصية، فكان شريط “وجه أ/ وجه ب” للمُخرج متعدد المواهب ربيع مْروّة ، صاحب أحد أجمل الأفلام القصيرة التي صدرت في العشرين عامًا الأخيرة.

أفلامُ الحظرِ

أطلقتْ جمعيةُ بيروت دي سي العامَ الماضي، وهي جمعية تُعنى بالسينما وتطويرها، منصةَ “أفلامُنا” لتقديمِ الأفلامِ العربيّةِ غير المعروضة جماهيريًا، وشملتْ القائمةُ أفلامًا روائيةً، وتسجيليةً، ووثائقيةً وأخرى يصعبُ تصنيفها تحت ضرب فنيّ معيّن منها شريط “وجه أ/وجه ب”.

يُفتتح الشريط بشاشةٍ سوداء، يُنيرها، بعد ثوانٍ قليلة، صوتُ طفلٍ يُخبر شقيقَه زياد بأنّه سينشد له أغنيةً، ويُملي عليه طريقةَ الاستماعِ، ثم نسمعُ صوتَ ربيع (مُخرج العمل) في الثانية عشرة من عمرِه كأنّه صوت جدّته حسب وصف زوجته لاحقًا، ثم تأتي أصواتٌ نسائيةٌ من الأسرةِ والأقرباءِ تطرحُ على زياد تفاصيلَ يوميةً عن الأسرةِ، والحربِ، والمخاوفِ، لا يُطلعنا ربيع مروّة على أيّ تسجيلات من زياد الغائبِ، لذا فهو يبدو غائبًا إلى الأبد.

 بعد ذلك يُعيدنا إلى “الواقع” صوتُ ربيع مْروّة الرجوليّ الناضج، الذي لم يعد يشبه صوتَ جدّته على الإطلاق، وهو يشرحُ تفاصيلَ تلك التسجيلات، ويُشركنا في هواجسِه الشخصيّة عن كيف كان صوتُه في هذه الصورةِ أو تلك، أو كيف كان شكلُه وقت تسجيل الكاسيت.  

في شريط ربيع مْروّة درجتان من السَرْد، الأولى مواد خام أدّى إعادة خلقها، وترتيبها، ومنتجتها على ذلك النحو إلى ما يُشبه قصة لها بداية، ووسط، وختام، والسَرد الثاني كان تساؤلات ربيع مْروّة الذاتيّة ورؤاه الشخصية عن الأصواتِ والصورِ المعروضة. 

في الفيلمِ صورُ العائلة، بالأبيض والأسود، هناك أيضًا صورٌ لآثار قصف، ولتجمعات عائلية، وغرباء، وولائم، ونزهات، “صور بلا صوت” كما يقول مْروّة عنها، يقولُ أيضًا أنّ كثير من هؤلاء الأشخاص لا يعرف من هم، اسم الفيلم نفسه “حمّال أوجه” حرفيًا، فهو يعني وجهي شريط الكاسيت، كما قد يعني أسماءً مؤقتة للوجوه المجهولة، وبالمناسبة فإنّ كل الصور المُرفقة مع هذا المقال تم التقاطهُا عن طريقِ تصوير الشاشة.

السيدة سِكْنة جابر تذيع الأخبار

لقد اختار ربيع مْروّة أصواتَ “وجه أ/وجه ب” مثيرةً للحزن، والنوستالجيا، والتأمّل: الطفل ياسر الذي يؤكدُ بأنّ صوته في الحقيقة أجمل من التسجيلات، وطلبه من زياد بأن يُسمع أغنيته اليساريّة لأصدقائِه الروس، وكذلك صوت والدة زياد التي تؤكد أنّ مها بخير وأنها تذهب للمدرسة (لا يُشير الشريط من هي مها) ثم هناك صوت السيدة سِكْنة جابر التي تبدو أنّها أكبر الأصوات سنًا، تقول سِكْنة في بضعة كلمات أنّها حزينة من أجل جنوب لبنان الذي تُحدّق به المخاطر، تقول سِكْنة بأنّ الجنوب جميل و”يا ضيعان الجنوب يا زياد”، ثم تضيف أنها تسمعُ بقدومِ الإيرانيين الوشيك، وأنّ الناس خائفون من ذلك، تضيفُ سِكْنة بأنّ قذائف سعد حدّاد تصيبهم، وسعد حدّاد، كما قد يعرف الأغلب، هو أول قائد لجيشِ لبنان الجنوبيّ الذي تأسس أثناء الحرب الأهليّة وكانت إسرائيلُ أبرز حلفائه.

تقول سِكْنة أيضًا أنّ أفرادًا تابعين للأمم المتّحدة يعيشون بالقرب من منزلهم، وأنّ أعمار معظمهم في عمر زياد الذي تبثُّ لها همومها.

تُخبرنا سِكْنة كل ذلك في أكثر من 40 ثانية بقليل، إنّه صوتٌ مدنيٌّ لامرأةٍ لبنانية، لم نكن نعرف عنه شيئًا لولا شريط ربيعِ مْروّة هذا، حديثها الذي كان أقرب إلى فضفضةِ الجدّات، يُصبح الآن وثيقة غاية في الأهميّة عن صوت الغائبين في لبنان 1979.

في أحدِ المقاطع يقولُ ربيع مروة أنّ أسماءَ عائلتِه ذُكرِت في كُلّ محطات الراديو إذ كانوا ضمن ضحايا القصفِ العشوائيّ الذي كان في 1989، ويُطلعنا على صورِ الخرابِ، في نفسِ العامِ تخضع سِكْنة جابر لعملية قلب مفتوح وتتوفى إثر ذلك، وفي نفس العام أيضًا يُسافر ربيع مْروّة إلى الاتّحادِ السوفييتي لدراسةِ الموسيقى.

تخييطُ الشأنِ الشخصيّ بالشأنِ العام، نتجت عنه هذه الدقائق العشر الساحرة.

“كانوا يا حبيبي”

لم يخلُ شريط ربيع مْروّة من ثيمتَيْ الأفلامِ اللبنانيِة الشهيرتين: الحرب، والأماكن، في الحقيقةِ إنّ حديثَ الحربِ يُحيل بالضرورةِ إلى حديثِ الأماكن.

ما بين الموادِ الخامِ في الشريطِ (الصور وأصوات الأشخاص)، وتساؤلات ربيع مْروّة عنِ الصوتِ والصورةِ، يُخلق تيارٌ دراميّ مشحون، تساؤلات المُخرج عن كيف كان شكله في 1979 تذهب بنا إلى بعيد، إلى جوهرِ التواجدِ في هذا العالم، فننتبه إلى أنّ البشر قد اهتموا كثيرًا بتوثيقِ صورِهم دون أصواتِهم، وفي هذا الشريط الذي تتداخل فيه عدة وسائط، وتُنتزع تلك الأصواتُ من مرقدِها يدفعُنا التساؤلُ: ما هو الهدف الحقيقي من صنع “وجه أ/ وجه ب”؟

قبل عشرين عامًا تقريبًا استطاع ربيع مْروّة بفيلمه هذا أن يُصوّر الصوتَ، استطاع أيضًا أن يُعزّزَ لمعجبي أغنية الرحابنة “كانوا يا حبيبي” أسباب افتتانهم بأجمل أغنية تحدثت عن أصواتِهم التي تأخذنا “مشوار صوب المدى والنار”.

أشباحُ المستطيلاتِ البلاستيكيّة

إنّ “موضة” تسجيلِ الأخبارِ على شرائط الكاسيت كانت رائجةً في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي، وخاصةً من أواخر السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات، لقد كانت فترة شديدة السخونة سياسيًا في الشرق الأوسط، فقد كان لدينا حربُ الخليجِ الأولى بين العراقِ وإيران، والهجومُ الكيميائيّ على حَلبْجَة، واغتيالِ السادات في مِصر، والحربُ الأهليّة في اليمن الجنوبي، واحتجاجات الإخوان المسلمين في سوريا وما تبع ذلك من مجازر قام بها النظام السوريّ، والحرب الأهلية الثانيّة في السودان، بالإضافةِ إلى الحرب الأهليّة في لبنان بالطبع، ولو كانت الأسر تحتفظ بالأشرطة التي يرسلها البعيدون، لربما عرفنا أشياءً كثيرةً عن مخاوف الأهالي ورؤاهم و”فتافتيت” معلومات لم توثقْها جريدةٌ، أو مرصدٌ حقوقي، أو منبرٌ رسميّ.

يُفصّل ربيع مْروّة تساؤلاته عن شكلِه وصوتِه في مراحلِه العمريّة، ثم في آخر الشريط يظهر لنا بوجهِه وصوتِه ويقولُ أنّه استطاع أن يُسجّل الصوتَ والصورةَ معًا، تاركًا لنا تخمينَ الأشكالِ المُختلفةِ لمن سمِعنا أصواتِهم (ثلاث نساء وطفل)، أولئك الذين اشتبكنا مع تفاصيلِهم، وأنصتنا إلى هواجسِهم كأنّهم يتحدثون إلينا، وقد أغنانا الصوتُ عن الصورةِ!

إنّ اقتصارَ بعض مقاطع الفيديو على الصوتِ فقط، دون العناصرِ الفنيّةِ الأخرى، وجعلَه موضوع الفيلمِ الأساسيّ، قد أهدانا نوعيْن من التلصّص المُحبّب: التلصّص عبر ثقب البابِ، وآذانِ الجُدرانِ.

لقد انتزعَ ربيعُ مْروّة تلك الأصواتَ من هامشِ الذاكرةِ الشخصيّةِ ووضعها في متنِ اللحظةِ السياسيّة اللبنانيّةِ، ومزجَ العامُ بالخاص بالتساؤل الذي يستحيل إجابةً والعكس، فتُصبح تلك الأصواتُ العائليّةُ المُفرطة في العاديّة، أحد أصواتَ بيروت الغائبِة عن التدوين، وأحد وجوه لبنان التي خرجت عن بروازِ الصورةِ فلم يرها أحد، لقد بعثَ ربيعُ مْروّة أبطالَه من الأرشيفِ/الموتِ، وأطلقهم أحرارًا في فضاءِ الفنّ والتساؤلات.

إنّ أفضلَ ما قد يُختم به هذا المقال هو ما ختم به ربيعُ مْروّة شريطَه المصوّر وفي الخلفية أغنيةٌ من شقيقِه الأصغر، بأنّ كل من سمعنا أصواتَهم في الشريط، باستثناء المُخرج طبعًا، قد توفي لسببٍ أو لآخر.

Visited 19 times, 1 visit(s) today