تساؤلات نظرية حول هوية السينما العربية

لقطة من الفيلم التونسي "الهائمون في الصحراء" لقطة من الفيلم التونسي "الهائمون في الصحراء"
Print Friendly, PDF & Email

مناقشات كثيرة وخلافات عديدة تفجرت في ملتقى تطوان السينمائي الذي انعقد عام 1993، حول قضايا شغلت، ولا تزال تشغل السينمائيين (أو بالأحرى بعض السينمائيين) والنقاد لسنين طويلة.

مناقشات حول هوية الفيلم العربي، مشكلة توزيع الافلام العربية في السوق العربية، تعامل الناقد مع الفيلم: كيف يراه كرؤية (أو كمتخيل حسب التعبير المفضل لدى نقاد المغرب)، كمنتوج ثقافي وكقيمة جمالية، كاشارات وأبنية وفضاءات توحي بالكثير من الافكار، كعلاقة بين التقنية السينمائية وخصوصية الكتابة، واللغة، النقد الابداعي والنقد النظري الانطباعي، الانطولوجيا والسوسيولوجيا والبنيوية والتفكيكية وأشياء أخرى كثيرة.

وسط هذه المناقشات كلها، طرحت دعوة، أو تساؤل: حول غياب نظرية نقدية عربية تتعامل مع السينما وتسهم في الجدل النقدي الدائر حول هذا الفن في العالم، بل وتستطيع ايضا الاضافة الى نظريات النقد السينمائي الحديث في اوروبا وامريكا (بما في ذلك بالطبع امريكا اللاتينية).

توقفت كثيرا امام هذا التساؤل الذي طرح في سياق توجيه النقد الشديد الحاد او التقريع واللوم. وكأن النقاد العرب الذين يكتبون النقد، مقصرون كثيرا لانهم لم يسعوا الى انتاج «نظرية جديدة متكاملة للنقد العربي».

وأخذت أتساءل مع نفسي: هل ظهور مثل هذه النظرية افتراضا، سوف يتكفل بانعاش النشاط السينمائي العربي من حيث الانتاج والتوزيع والعرض ورفع مستوى التذوق العام لدى المشاهدين، بل والاهم، هل سيرفع من مستوى المنتوج السينمائي العربي (اي الفيلم) ويجعله اكثر مواكبة لروح العصر الذي نعيشه، واكثر اقترابا من خصوصية التجربة الابداعية العربية؟

وتساءلت ايضا: هل يمكن لسينما لا تزال تعيش تحت مستوى الوجود وتكافح من اجل الاعتراف الرسمي بها كجزء مهم في الثقافة العربية، ان تخلق «نظرية نقدية» متكاملة؟

وهل من الممكن عمليا ان يجتمع عدد من نقاد السينما، ويخرجوا بنظرية من هذا النوع.. وبعد ذلك نقول انهم حققوا الاضافة المطلوبة الى التراث النقدي السينمائي الانساني؟ وهل يلزم لوجود سينما قوية متعددة المستويات والاتجاهات والتيارات والاجيال كالسينما اليابانية او الهندية او الصينية، وجود «نظرية نقدية» يسترشد بها السينمائيون وهم يصنعون أفلامهم؟

من فيلم “الهائمون في الصحراء”

أسئلة كثيرة.. وغيرها ألحت عليّ. ولا أزعم انني املك بمفردي الاجابة عليها جميعا دفعة واحدة. غير ان هذا لا يمنع من محاولة مناقشة بعضها، ليس بغرض احتكار الحقيقة، بل كاسهام في دفع النقاش حولها من اطراف أخرى من المهم ان تعيد طرح هذه الاسئلة على نفسها ايضا.

وسوف ابدأ هنا بفكرة ظهور النظرية السينمائية.

معروف ان تراكما حقيقيا من الافلام والانجازات السينمائية التي تمثل علامات بارزة على الطريق في سينما البلد الذي تنتمي اليه، هو عادة ما يدفع النقاد والمشتغلين بموضوع رصد وتحليل تطور هذا الفن الى بناء ملامح لنظرية نقدية او جمالية، يسترشدون فيها بما هو موجود في الواقع، ويتخذونه اساسا للحديث عن «مستقبل» ما، او اطار نظري وجمالي لسينما مستقبلية (بالمعنى الزمني فقط)… والصحيح ايضا في تصوري، ان وجود النظرية احيانا قد لا يكفل تحقيق ما نتطلع اليه بالكامل بسبب التغير السريع الذي يطرأ يوميا على ساحة الفن السينمائي. فأين الأعمال الحديثة لسينمائي مثل سولاناس الأرجنتيني اليوم من نظرية «السينما الثالثة» التي وضعها هو في الستينات؟ بل واين جان لوك جودار اليوم من نظريته التي وضعها في الستينات حول السينما كسلاح سياسي؟

من جهة أخرى حتى في البلدان التي ظهرت فيها نظريات سينمائية، فان نظرية بعينها لم تنجح أبدا في ان تسبغ نفسها على حركة السينما في بلد ما. فهل يمكن ـ على سبيل المثال ـ القول بوجود «نظرية فرنسية للسينما» او «نظرية روسية للسينما»؟

في فرنسا ظهرت عشرات النظريات والافكار والمناهج الجمالية، التي سعت لتفسير وتحليل أوليات وجماليات هذا الفن. ولم تدع نظرية معينة انها أصبحت مسيطرة بمفردها على مجمل الفكر السينمائي في فرنسا. فهناك نظرية «سينما ـ المؤلف» مثلا كما ان هناك نظرية «سينما الحقيقة»، و«السينما النضالية» (لصاحبها جي أنيبيل). وفي مجال النقد هناك مناهج متعددة ومتنوعة، لا يمكن ان يزعم اصحاب منهج واحد منها انهم يحتكرون وحدهم القدرة على الاحاطة الشاملة بجماليات السينما، وعلى الاخص ان معظم ما ظهر منها حديثا، هي مناهج ترتبط بتطور نوع فني اخر يختلف كثيرا عن السينما هو فن الرواية. فهل من الممكن مثلا التوصل ـ عن قناعة تامة ـ الى مقاربات نهائية بين لغة الادب واللغة السينمائية استنادا الى علوم الابستمولوجيا والانطولوجيا والسيميائية؟

واذا كانت هذه المناهج تصلح للتطبيق ـ ولو جزئيا ـ على قسم من الانتاج السينمائي في بلد كفرنسا، فهل تصلح بالضرورة للتطبيق على سينما لم تتجاوز بعد مرحلة «التكوين» كالسينما المغربية مثلا؟ وألن يصبح ذلك ـ اذا ما حدث ـ على نحو ما،  شبيها بأن نأتي بعملاق هائل الحجم ونفرضه قسرا على كائن هش هزيل البنيان؟ وألا يؤدي هذا بالضرورة الى تحطيم هذا الكائن تماما بدلا من الأخذ بيده ودفعه الى النمو التدريجي والتطور في اطار بيئة تشجع وتدفع كل الافكار والاتجاهات والاساليب والمناهج؟

من حق المنهج البنيوي أو التفكيكي أو السيميائي، أن يوجد وأن يسعى للعثور على نماذج يمارس عليها تطبيقاته وابداعاته، وأن يرفد المناهج الأخرى ـ الحداثية ـ بما يفيدها ويطورها، لكن هل من الصواب أن يصبح منهج بعينه هو الذي ندعو لسيادته وتسييده على كافة المناهج الاخرى بدعوى انه المنهج الوحيد «العلمي» أو «المتقدم» وان ما عداه ليس من العلم في شيء؟

من المؤكد ان «التجريب» في المجال السينمائي مطلوب وضروري لتطور أي سينما في العالم، لكن ان يتم تكريس التجريب باعتباره النموذج الاصح للسينما المغربية طوال اكثر من 30 عاما، تارة بدعوى رفض الاطر التقليدية (رواية قصة) وهي المرحلة الاولية التي يتوجب على السينمائي ان يمر بها ويتعلم ابجدياتها، وتارة أخرى بدعوى الابتعاد عن الوتيرة العاطفية، والميلودرامية التي نجحت في تقديمها السينما المصرية ـ على الاقل في عهود سابقة، هل يعني هذا ان على هذه السينما (اي المغربية) ان تظل باستمرار والى الأبد «سينما تحت التكوين»؟ والا يؤدي هذا الى حرمانها من روافد أساسية في فن الدراما (وليس الميلودراما بالضرورة)، وأليس معنى هذا أن لا نجني في النهاية سوى الحسرة ونحن نشاهد أحدث الافلام المغربية «حب في الدار البيضاء» يعود، بعد 30 عاما من التجريب، الى الطموح لرواية موضوع درامي تقليدي بامكانية فنية فقيرة للغاية، ويطرح موضوعا مشابها لما سبق ان طرحته عشرات الافلام والمسلسلات المصرية المرفوضة باصرار طوال السنين، دون امتلاك المقدرة على توظيف العناصر الدرامية لخدمة الموضوع، ودون حتى الموهبة التمثيلية التي تستطيع ان تضمن وصوله الى المشاهدين ـ باقناع؟

من ناحية أخرى ألا يؤدي طرح المنهج النقدي الطموح الذي ظهر نتاجا لسينما تنتمي لمجتمع آّخر في ظروف تراكم ابداعي طويل ومتنام ومتعدد الاتجاهات والأوجه، على السينما المغربية و«محاكمة» أفلامها من خلال هذا المنهج وحده، الى رفض كل نتاج تلك السينما عدا نموذج او اثنين، ثم هل يكون من الصواب ان نتوجه باصبع الاتهام الى السينمائيين المغاربة بالجهل وعدم التطور ومعاداة العلم والمناهج الابداعية الحديثة، وهل يصبح من الأفضل في هذه الحالة تطبيق منظوماتنا الفكرية على سينما أخرى أكثر تقدما مع ترك سينمانا الوطنية غارقة في تجريبيتها العشوائية او نزعتها الفلكلورية (ضمانا للحصول على التمويل الغربي على الأقل)؟

في تصوري أيضا ان تكريس نوع من «عبادة النظرية» أدى في المغرب ـ كما سبق أن أدى في الجزائر- الى استبعاد عامل اساسي ومهم في تطور اي سينما. فمع اعتناق وترويج نظرية «المخرج ـ المؤلف» اي ضرورة ان يكتب المخرج فيلمه بنفسه دون ان يكون متمكنا بالضرورة من أدوات الكتابة السينمائية، وقبل ان يتوفر له من التجربة الثقافية الانسانية ما يمكنه من تقديم «رؤيته الخاصة» للعالم، انتهى الى ان اصبحت الساحة خالية (أو شبه خالية) من كتاب السيناريو (المحترفين) الدارسين لقواعد الدراما (التقليدية اساسا) ثم امتلاك القدرة على الابتكار في اشكال ووسائل السرد الفيلمي والسعي بعد ذلك لتحطيم الطرائق التقليدية.

والحقيقة ان «خصوصية» الرؤية او خصوصية التجربة (الفردية اساسا) هي التي تضمن نوعا من الخصوصية للفيلم العربي سواء المنتج في سورية او في المغرب، في مصر أو في الجزائر وتونس، وخصوصية الرؤية هذه هي التي تؤدي بالضرورة الى خصوصية في الشكل وتميز في الاسلوب.

ولا أزعم هنا انني اقطع فيما يدور حول هذه النقطة من جدل، غير أنني أود فقط (التشكيك) في جدوى تلك النظرة «التوتاليتارية» التي تريد أن تفرض تصورا محددا وأحاديا لنوع التقنية السينمائية في السينما العربية، بدعوى ان لكل شعب طريقته «التقنية» الخاصة، استنادا على تصور ان اليابانيين يتحركون بالكاميرا من أعلى الى أسفل، ويجعلونها عادة تتخذ زاوية منخفضة (وهو ما يرتبط بتقاليد كتابة اللغة اليابانية وطريقة  جلوسهم!) أو أن السينمائيين الغربيين، يحركونها من اليسار الى اليمين بحكم ما تفرضه طرىقتهم في الكتابة.. فهل هذا المدخل يصلح أصلا أساسا جديا للمناقشة؟

وأزعم هنا ان موضوع التقنية اكثر اتساعا بكثير من هذا الفهم الضىق، والا لتوجب على السينمائيين العرب باستمرار تحريك الكاميرا من اليمين الى اليسار، واعتبار التكوين التشكيلي المعقد للكادر السينمائي (علاقة الكتلة بالفراغ بالبعد الثالث اي عمق المجال، بنظرة الممثل…الخ) نوعا من «الحذلقة الغربية» الدخيلة على تقنية الصورة «العربية» الكلاسيكية (فقيرة الظلال والكتل.. عديمة اللقطات القريبة بحكم ترامي الصحراء وسطوع شمسها اللامتناهي).

للتقنية السينمائية قواعد، اجتهد في صياغتها ودراستها والكشف عنها عدد من الباحثين والمنظرين والسينمائيين من هنا وهناك، من جريفيث الامريكي الى ايزينشتاين الروسي (الذي اهتم بالمناسبة بدراسة ما توحي به طريقة الكتابة اليابانية)، ومن مورناو وبالاش وآرنهيم، الى بازان وهنري أجيل وبول روثا وروجر مانفيل.. وغيرهم. واجتهد سينمائيون كبار في ابتكار اشكال وسمات جديدة للسينما: من جورج ميلييس الى جودار، ومن مورناو الى برتولوتشي، ومن كوليشوف وبودوفكين وايزنشتاين الى برجمان وانطونيوني وكيروساوا وتاركوفسكي. لكن أحدا من هؤلاء جميعا لم ينغلق على تقنية معينة او مبدأ بعينه من مبادىء الكتابة السينمائية، والدليل على هذا حالة فنان السينما الياباني الكبير كيروساوا، فهو يعتمد على فهم عميق لمكونات الثقافة اليابانية والفن التشكيلي الياباني وتقاليد مسرح «الكابوكي» مع هضم واستيعاب منجزات الدراما السينمائية الحديثة وللتراث الشكسبيري المسرحي الشعري، والتقنية السينمائية التي يرى «البعض» أنها «غربية بالضرورة» (تحطيم الزمن مثالا) ومع ذلك، فهل يجرؤ احد على اتهام كيروساوا هكذا ببساطة، بفقدان خصوصيته كفنان ياباني، سواء في الاسلوب او الرؤية او الخيال؟ بل وما العمل أمام فيلم مثل «راشومون» وماذا يمكن أن نقوله عن هذا الفيلم، فهل هو تعبير عن شكل في السرد ياباني خالص؟

من فيلم راشومون” لكيروساوا

 إن التراث السينمائي تراث انساني ينتمي للبشرية بأسرها، يساهم في صنعه فنانو السينما في الشرق والغرب، يتبادلون التأثيرات والمؤثرات دون «كهنوت» او «وصاية».. لكن لان السؤال الاهم والمطروح بشدة في عالمنا العربي في مواجهة شتى اشكال الغزو الثقافي الفكري والسياسي منذ أوائل هذا القرن وحتى اليوم، هو سؤال «الهوية».. فاننا نطرح باستمرار موضوع «هوية السينما العربية» وبالتالي «هوية النقد السينمائي العربي» أحيانا دون أن نعي أن السينما فن حداثي متعدد الهوية في الحقيقة والواقع، وأنه لا يستطيع أن ينشأ ويستمر في اطار ثقافة معينة، دون ان يتأثر بالابداع السينمائي الذي ينتمي الى الثقافات الأخرى.. وطرح سؤال الهوية مشروع فقط في اطار البحث عن خصوصية الانجاز السينمائي العربي على مستوى الرؤية والابداع والتعبير المتنوع والثري والأصالة في الطرح والمعالجة… والا فان البديل يصبح الدعوة الى «سلفية» سينمائية لا وجود لها بالطبع.. لحسن الحظ!

  • فصل من كتاب “هموم السينما العربية”، هيئة قصور الثقافة، القاهرة 1999.






Visited 6 times, 1 visit(s) today