بين القس والطبيب النفسي: كيف تعيد السينما صنع المجرمين؟
محمد الكرامي
في كتاب صدر مؤخرًا عن أطباء النفس في السينما، يرصد الكاتب «سكيب داين يونج» أنماط الطب النفسي في هوليوود. ففي السنوات الأولى من السينما، وفقًا للكاتب، كان يتم تصوير أطباء النفس كمشعوذين، وفي الأربعينيات والخمسينيات، أصبحت الأفلام أكثر جدية على نحو متزايد في تناولها للتحليل النفسي، وبلغت أوجها مع أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات. وهي الفترة التي يطلق عليها «الفترة الذهبية» للطب النفسي في الأفلام.
وفي السبعينيات، تغيرت النظرة الهوليوودية تجاه اختصاصي الصحة النفسية، وترسّخت في تلك الفترة أنماط جديدة للطبيب النفسي السينمائي (الشرير، الرائع، السخيف، والمعالج الجريح). ومع ابتداء عقد التسعينيات، تحولت هوليوود إلى ماكينة دعاية وترويج لعلم النفس، وتدريجيًا انتقل الطب النفسي من الأفلام إلى حياة المشاهدين إذ صارت تلك الممارسات شائعة في الثقافة الأمريكية.
فإذا كانت تلك صور الطبيب النفسي في الأفلام الأمريكية، ماذا عن صورة الطبيب النفسي في المسلسلات الأمريكية؟ وهل كانت هناك تمثلات أخرى لصورة الطبيب النفسي؟ هذا ما يحاول المقال أن يبحث فيه.
مسلسل سوبرانو.. أو كيف نتخلص من عقدة الذنب من دون الاعتراف بالذنب؟
في مسلسل «The Sopranos»، الذي تدور أحداثه حول رجلِ المافيا الأمريكي ذي الأصول الإيطالية توني سوبرانو (الممثل جيمس غاندولفيني)، وكيف يتجاوز مشاكله مع الشرطة، العائلات الأخرى، المخبرين، والمشكلات اليومية. يواجه توني سوبرانو نوبات فزع متكررة، إذ تسيطر عليه عقدة ذنب بحيث لا يستطيع أن يتعامل مع خواطره، فيقرر زيارة طبيب نفسي بشكل سرّي بعدما سقط مغشيًّا عليه.
تعود مشاكل توني النفسية إلى طفولته الشاقة، ليس بسبب والده الذي كان عضوًا في المافيا، بل بسبب كراهية أمه لتلك الحياة، إذ أصبحت تدريجيًا سيئة بمعاملتها له ومتجهّمة طوال فترة طفولته.
في جميع جلساته النفسية، يكشف توني عن مشاكله بسخرية وتهكم وغضب. تأثير أمه، عمه، أفراد عائلته، ومخاوفه على مصير العائلة. يختبئ توني بشكل حذر خلف شخصية المريض النفسي، دون أن يجازف بكشف جشعه ونزواته وجرائمه، فيظل يخبر الطبيبة النفسية حول كوابيسه لا عما يسببها، وهي تساعده في فهم ما تمثله حتى يتجاوز أزمته. نجد أهم تيمة في المسلسل مثوله للعلاج النفسي وتضخم الجانب الإجرامي، فكلما اكتشف أسوأ مخاوفه وتجاوزها إرتفعت مؤشرات الجريمة.
وعندما ينهار على إثرَ نوبة هلع، بسبب توقف الطبيب النفسية عن استقباله، يخبرها أنه قد أصبح إنسانًا أفضلَ بسبب علاجها، إلا أنّها تعرف حقيقة أنه مجرم، وهي تدرك من اعترافاته المتكررة وإن بشكل رمزي جرائمه من خلال استبدال الضحايا في جلسات علاجه بتعبيرات مثل أنه «تخلص من أشياء محببة» أو «فقد أشياء شخصية» كي يتحرر من عقدة الذنب التي تشلّ عقله وجسده لا سيما بعد موت حبيبة ابن أخيه، صديقه ومساعده الشخصي، وابن أخيه لاحقًا.
يصل صراع الطبيبة النفسية مع نفسها حد أنها تلجأ هي أيضًا إلى طبيب نفسي. فنرى كيف يستغل المجرم وضع المرض، من أجل موازنة المتطلبات المتعارضة بين منزله والمنظمة الإجرامية التي يترأسها. ممّا يعيدنا إلى سؤالِ فلسفيٍّ قديم: هل نمتنع عن مساعدة شخصٍ ما على افتراض أنّه قد يرتكب جرمًا في المستقبل؟ ولكن ماذا لو أنّ هذا الشخص مجرمٌ بالفعل وما زال منخرط في عالم الجريمة، هل سيكون من «المهنيّة» أو «الإنسانيّة» معالجته؟
هانيبال: رحلة الطبيب من انتهاك الضحايا إلى صناعة الوحوش
بعد زمن من إثارة الرعب، يتوقف هانبيال (الممثل مادس ميكلسن) عن القتل، ويفتتح عيادة نفسية خاصة لاستقبال المرضى. يتعرف هانبيال على«ويل جراهام» ، خبير بالسلوك الإجرامي، مدرس أكاديمي وعميل فيدرالي، يعاني من اضطرابات عقلية حادة منحته بصيرة واضحة تمكنه من قراءة سلوكيات المجرمين ودوافعهم.
بعد عامين، يظهر مجرمٌ منتحلاً نمطَ جرائمه المريعة التي منحت صاحبها لقب «سفاح تشيسابيك»، فيشعر هانيبال برغبة لإعادة هويته التي سُلبت منه. تتزايد حالة عدم استقراره عاطفيًا، إذ يتجاوز علاقة «المعالج والمريض» بتكوين صداقة مع ويل، ويتورط في علاقة مع فتاة حيث يضطر إلى التستر عن جرائمها ويقنع ويل بذلك. بعد مدة غير طويلة، يخرج الأمر عن السيطرة، فيقوم هانبيال بخطوة استباقية حيث يقتل الفتاة ويلفق جريمتها إلى ويل، فتتأكد عودة الوحش.
يعود هانبيال إلى العلاج النفسي لدى طبيبة متقاعدة، تشبه طبيبة سوبرانو، من حيث هي معالجة جريحة، وتختلف عنها من ناحية عدم ربط مريضها بخلفيته الإجرامية في جلسات العلاج. لا يفصح المسلسل بالكثير عنها، ولا يوضح ظروف معالجتها له (قسرًا او طوعًا)، إلا أنّنا نتكشّف تواطؤها في نهاية الموسم الأول عندما تحذره بأنه بدأ بترك نمط معين له، محذرةً إياه بشكل متلاعب بأنه سيكون من السهل الوصول إليه مستقبلًا والقبض عليه، مما يوحي بأنها منخرطة معه. مع ذلك، ترفض علاجه في الموسم الثاني بقولها إنها تخللت قناعه النفسي وأدركت كم هو خطير. لنكتشف في الموسم الأخير أنّها زوجته.
يتعمد المسلسل أن يغير موقفها بتغيُّر موقعها، وهو ما يفعله مع هانيبال، مع فارق أنه يتنقّل بإرادته الحرة بين جميع أنماط الطب النفسي: الرائع بتكوين صداقات وإنقاذ زوجه جاك، الشرير بالقتل وأكل لحوم البشر، السخيف برغبته في صداقة ويل واستقباله كمريض على الرغم من محاولة قتله، والجريح بماضيه المحكم وعالمه المعزول، والذي يرتد دومًا إلى نمط الشر، وعلى الرغم من تأرجُح بيديليا بين المراقبة والمشاركة كزوجة، والتواطؤ والرفض كطبيبة نفسية، إلا أنّها في كل مرة تعيد صُنع الوحش. وهو ما سيفعله بدوره لاحقًا عندما يعود إلى مهنته كطبيب نفسي: صناعة المزيد من الوحوش.
القس، الطبيب النفسي البديل في الوسط الإجرامي
في إحدى روايات اِيزابيل الليندي، تتساءل إحدى الشخصيات: لماذا علينا أن ندفع أموالًا للطبيب النفسي للإستماع إلينا، في حين أننا نستطيع الذهاب ببساطة إلى الكنيسة كي نتحدث إلى القس مجانًا؟
في سينما الجريمة، ينوب القس عن الطبيب النفسي، باعتبار أن حضور تلك الجلسات قد يشكل خطرًا على المنظمة الإجرامية من جهة، بتسريب المعلومات عن الأعمال غير القانونية، ومن جهة أخرى على الشخص نفسه لما يحمل من دلالات على الضعف وفقدان الأهلية، فنجد في مسلسل “السوبرانيون” «The Sopranos» أن انكشاف حقيقة ذهاب «توني سوبرانو» إلى طبيبة نفسية كان سببًا كافيًا لتنحيته عن إدارة مصالح العائلة وتنفيذ اغتياله من قبل عمه. على حين نجد أن الذهاب إلى الكنيسة والاعتراف بالخطايا إلى القس، لا يغدو ضعفًا ولا خطرًا، بل خيارًا وقائيًا؛ إذ يميل المجرمين إلى الاعتراف بذنوبهم وأخطائهم في الظلام وفي مساحات معزولة في الكنيسة.
الخطيئة وعقدة الذنب.. من الاعتراف وإصلاح الأخطاء إلى الصفح عنها ومباركتها
يمنح التقليد الكنسي ميزة فصل الخطيئة عن المخطئ، ليس عبر التصميم المكاني الذي يحفّز المجرم على الاعتراف في الظلام، بل عبر المؤسسة الدينية نفسها. فالاعتراف بالخطيئة يخلص الفرد من ذنبه دون المسّ بشخصيته، ما يجعل بيت الرب أشبه بعيادة روحية تتجاوز ما تفعله العيادة النفسية.
في العديد من مشاهد السينما، يتعمّد المجرم عند حديثه إلى القس أو الطبيب النفسي أن يتحايل باعترافاته، من جهة لأن الطبيب النفسي ملزمٌ بالتبليغ عنه، ومن جهة أخرى لأن القس سيمتنع عن استقباله، ولكن بما أن الرب يهتم بالأرواح الضالة، نجد أن الإصغاء في بعض المرات لا يتم بالاعتراف المتحذلق بل بفعل القدوم نفسه.
في مسلسل “الأب الروحي لهارلم” «Godfather of Harlem» تتكرر اعترافات رجل المافيا الإيطالي «فينسنت جيجانتي» إلى القس، إلا أنه يستكمل نشاطه بشكل طبيعي، ويعود كلما أثقله ضميره. وفي الموسم الرابع من مسلسل «Ozark»، يعترف «عمر نافارو» إلى القس عن أخطائه دون أن يفصح عن جريمته، فيمنحه الغفران. ويتحول دور القس في المسلسل من الإصغاء والغفران إلى ماسنجر، ليس بين العبد وربه، بل بين المجرمين أنفسهم، إذ يقوم بإبلاغهم أن عليهم التواصل برئيس الكارتيل في السجن. وعندما تنتقل القيادة إلى «بيرد» في المكسيك، يتحتّم عليه القيام بأول تصفية لمن أمر باغتيال عمر نافارو، لا يتحدث القس، بل يمنحه إيماءة الموافقة التي من شأنها أن تخلّصه من عذاب الضمير.
نجد ذلك النوع من الغفران الإيمائي في فيلم «Leviathan»، إذ يمنح القس بركاته للعمدة قبل أن يقوم بتجريف منزل العائلة. ويخلص العمدة نفسه من عذابات الضمير باعترافاته المتكررة إلى القسيس. نجد ترميز قوي عن وظيفة الاعتراف، عندما يكتشف «سيريجيف» أن زوجته انتحرت ومنزله صودر، فيصادف القس ويقول له: «أين إلهك الرحيم؟» فيخبره أنه لا يزور الكنيسة ولا يتلو الصلوات، فيسأله باستنكار: «إذا اعترفت لك هل سيعود كل شي؟ فما فائدة الاعتراف إذن؟» تنعكس تلك الفائدة على العمدة الفاسد، بتخليصه من عقدة الذنب، من ماضيه الفاسد، لا على من فقد منزله، أي الضحية.
في إحدى حواراته مع العمدة، يسأل القس: «هل إيمانك متخبط؟ تماسك يا فاديم، لا تقلق، أنت تقوم بعمل الله، لقد قيل إن الأفعال الخيّرة تتم بسعادة وسهولة، أليس كذلك؟» ويرُدّ بأنها تلك هي المشكلة، يبدو كل شي كما لو أنّه يسير بشكل خاطئ، فيقاطعه القس «لا تظهر كل شيء لي. أنت لست في حجرة الاعتراف.» ويطمأنه القس «كل القوى من عند الله. حل مشاكلك بنفسك وبقدراتك. لا تبحث عن المساعدة. وإلا اعتقد العدو بأنك ضعيف.» ومن ثم يمنحه مباركته، فيتحقق تصالح من دون ندم واعتراف وتوبة وغفران.
المشاهد كطبيب نفسي
بالعودة إلى مسلسل سوبرانو، عندما تتعقد حياة توني سوبرانو الخاصة، بسبب توقف جلسات العلاج النفسي وغياب مَن يصغي إليه، تظهر شخصيته كأنها نتيجة لفوضى حياته وليست سببًا لها، الفوضى التي تتخلها تأثيرات أمه ومؤامرات عمه، لا سيما أنه قد ورث دوره كرئيس عصابة عن أبيه؛ فنصغي نحن لمأساته، نتحول إلى أطباء وقساوسة بتعاطفنا معه. ما من شكٍ أن للأخلاق معاييرَ جماليةً على حد تعبير نيتشه، بحيث ما إن يتخلى عن اللياقة الإنسانية وينفِّس عن ذاته بارتكاب جريمةٍ ما، لا يهتز شيٌء فينا. إننا نتواطأ مع المجرم، ليس لأن الشر ينطوي على سحرٍ يستثيرُ في دواخلنا ما نعجزُ عن تقليدهِ في الواقع أو ما نرغب في فعله، بل لإننا في إصغائنا له ربما نمنح أنفسنا فرصةً أخرى لإصلاح حيواتنا، فنمارس ألعابًا ذهنية. ربما هذا ما يمنح الشخصياتِ الشريرة جاذبيّةً مستمرةً ويجعلنا نتعلق بها.