بين السينما والمنصات: هل آن الأوان لتغيير الموقف؟
عمرو علي
كان مُلفتاً بالنسبة إلينا في قائمة الأفلام الروائية القصيرة المشاركة في مهرجان القاهرة السينمائي هذا العام، مشاركة الفيلم المصري (ماما) من تأليف وإخراج ناجي إسماعيل وإنتاج منصّة فيوVIE.
وسواءً كان هذا الفيلم إنتاجاً أصلياً من إنتاجات هذه المنصّة، أم أنها قامت بشراء حقوقه شراءً قطعياً بعد إنتاجه، فهذا يُشّكل بالتأكيد سابقة في مجال الأفلام العربية القصيرة، وخطوة مُتقدّمة نحو إيجاد سوق حقيقي للفيلم العربي القصير، ونقول خطوة مُتقدّمة لأن خطوة سابقة كانت قد اتُخِذَت بالفعل منذ مطلع العقد الحالي مع إقدام منصّتين عربيتين شهيرتين هما شاهد وOSN على شراء حقوق عرض باقة من الأفلام العربية القصيرة، ولو جرى ذلك على استحياء، وكأنه مجرّد محاولة لاختبار أو جس النبض حول قدرة هذه الأفلام على تحقيق نسب مرتفعة من المشاهدات، هذا فضلاً عن قيام منصّات أخرى أقل شهرة وانتشاراً بخطوة مماثلة على صعيد شراء حقوق عرض لأفلام قصيرة، سواءً كان عرضاً حصرياً أو متوفراً.
إلا أنه وفي نفس الوقت، لم يسبق وأن أقدمت أيّ منصّة ضمن هذه المنصّات على الإنتاج المباشر للأفلام القصيرة، وكأنها تبقي عن سبق إصرار وتعمّد على تلك المسافة الحذرة بين الفيلم القصير ووسيط العرض، رغم أن هذه المنصّات استطاعت أن تُحجّم بمجرّد ظهورها كيانات التوزيع التي كان يُنحى عليها باللائمة سابقاً، ويجري تحميلها منفردة مسؤولية التهميش الذي عانى منه الفيلم العربي القصير لعقود طويلة حُرِمَ خلالها من التسويق والتوزيع الجادّ الذي يحوّله إلى مشروع رابح على المستوى التجاري.
وكأن قدر الفيلم العربي القصير أن يبقى على الدوام مُصنفاً في خانة الإنتاجات الثقافية المدعومة من الدول أومن صناديق الإنتاج التابعة للمهرجانات السينمائية العربية والدولية أومن شركات الإنتاج المستقل نادرة الوجود، رغم قلّة تكلفة إنتاج الأفلام القصيرة مقارنة بالأفلام الطويلة وبالمسلسلات التلفزيونية نظراً لانخفاض مدّتها الزمنية، وبالتالي قلّة عدد أيام التصوير اللازم لها، ورغم كونها قادرة على جذب انتباه المشترك وحثّه على المشاهدة نظراً لاعتمادها في بنيتها الأساسية على الإختصار والتكثيف والإبداع في التعبير الدرامي والبصري، وهذا ينسجم بلا شكّ مع شروط المشاهدة التي توفرها المنصّات للمشترك في عصر السرعة والبثّ التدفقي، ويجعل من الفيلم القصير نوعاً فنيّاً أكثر قدرة على الوصول والتأثير بما يفوق ربما قدرة المسلسل التلفزيوني القصير على ذلك.
وفي سياق متصل يحقّ لنا، في ظلّ المتغيرات الجذرية التي يشهدها الإنتاج والتوزيع السينمائي منذ ظهور المنّصات الإلكترونية، أن نسأل عن دور المنصّات العربية في الإنتاج السينمائي للأفلام الطويلة والقصيرة على السواء، فمعظم المنصّات العالمية مثل Neflix وApple، والتي تسير منصّاتنا العربية على هداها، كانت قد بدأت أصلاً بالإنتاج السينمائي، ولعلّنا لا نزال نتذّكر تلك الزوبعة التي أثارتها قبل سنوات قليلة مشاركة بعض الأفلام التي أنتجتها تلك المنّصات في المهرجانات السينمائية الكبرى مثل مهرجان كان، ورفض الكثير من السينمائيين لمشاركة إنتاجات تلك المنصّات تحت مُسمى الخوف على مستقبل السينما والحفاظ على هويتها، قبل أن يتراجع معظم هؤلاء السينمائيين عن موقفهم الذي بدا حادَّاً ومتسرعاً، إلى أن خَفَتت أصواتهم كلّية، وبتنا اليوم نشهد حتى في مهرجان القاهرة نفسه عَرضَاً افتتاحياً لفيلم من إنتاج نتفليكس هو “السابحات” The Swimmers هذا فضلاً عن حقيقة مفادها أن الإنتاج السينمائي هو الأقدر على تحقيق سمعة عالمية للمنصّات المُنتجة، وبالتالي فتح أسواق جديدة لانتشارها عالمياً، وهوما يُساهم حكماً برفع نسب المشاهدات وزيادة عدد المشتركين وتحقيق مزيدا من الإيراد.
ولعلّنا جميعاً نلاحظ أن لمنصّة مثل نتفليكس إنتاجات سينمائية غزيرة في بلد مثل إسبانيا، وقد استطاعت بسهولة نشر أفلام هذا البلد وإيصالها حتى إلى المشاهد الأمريكي الذي ربما لم يكن يعلم أنه ثمّة شيء اسمه سينما أوروبية أصلاً.
لا شكَّ أن بعض المنصّات العربية قد طرقت أبواب السينما فعلاً، وساهمت بحلّ جزء من أزماتها عن طريق شراء حقوق العرض الحصرية أو الأولى أو المتوفرة لبعض الأفلام التجارية والمستقلة، وخاصّة الأفلام المصرية، لتفتح بذلك نافذة جديدة على مستوى التوزيع، ولكن الأكيد أن مساهمتها هذه كانت محدودة وجزئية، دون أن تُشكّل بالمحصلة بديلاً لنظم الإنتاج التقليدية على غرار ما قامت به المنصّات العالمية سابقة الذكر، فالإنتاج المباشر هو بلا شكّ الأقدر على تحقيق النقلة المُنتَظرة للصناعة السينمائية العربية نحو مرحلة جديدة، على غرار ما حدث في الدراما التلفزيونية.
ولا يمكن لهذا أن يحدث دون تحّول الإنتاج السينمائي بالضرورة إلى أولوية عند تلك المنّصات بعد التخلّي عن شعارات شاهد قبل السينما أو شاهد بعد السينما، والتي لا تعدو في نظرنا كونها أكثر من التفاف على الدور الرئيسي المنوط بهذه المنصّات في الإنتاج المباشر، طالما أنها قادرة على فرض النوع والشكل الذي تسعى إليه.
وانطلاقاً من كلّ الذي سبق لا بدَّ أن نسعد اليوم بإقدام منصّة واعدة مثل فيوVIE على إنتاج فيلم سيمائي قصير، ودفعه إلى المشاركة في المهرجانات قبل العرض، ليكون لها بذلك شرف الريادة والإمساك بزمام المبادرة، وهذا ما يدعو بطبيعة الحال إلى التفاؤل حول مستقبل صناعة الأفلام القصيرة والصناعة السينمائية في العموم، ويؤكّد من جديد أننا على أعتاب مرحلة أكثر غنى وتنّوع.