بيللى وايلدر وهجاء الصحافة بين فيلمين
“قل الحقيقة”.. هذه الجملة تصدرت فيلمين للمخرج بيللىوايلدر. فيلمان شغلته فيهما قضية الصحافة، منطومتها، ومشتغليها، آلية عملها، ومشروعية وجودها وتأثيرها. فيلمان حملا إنطباعا محددا لم يحيدا عنه، شحنة سلبية، وانتقادات لاذعة، وتشبيهات مباشرة لهذه المهنة ولمعظم المتواطئين للعمل فيها. لم يخفى قُبح تصوره عنها وعنهم، قدمه على طبق من صفيح، دون أن يخفى الإطلالة البائنة لوجه التهكم داخله. فيلمان، انتهى فيهما إلى ذات المعنى، واستقر عند نفس الموقف، ولكنه صاغ فى كل منهما موضوعا مختلفا، يمس الرأى العام، ويُعرّى العلاقة الدنسة التى قد تجمع الصحافة بالسياسة.
الورقة الرابحة في الثقب
إختار وايلدر فى هذا الفيلم “الورقة الرابحة في الثقب” Ace in the Hole(1951) أن يكون جادا، بداية من إختيار الموسيقى، ومرورا بإختيار الممثلين، ونهاية بالسيناريو الذى لم يدع منفذا واحدا لإيفهات وايلدر المعتادة، والتى لم يعيقها مدى جدية الموضوع المطروح. وايلدر حسم أمره بأن يقدم المأساة كما يجب أن تكون.
المعالجة بأكملها، تمحورت حول شخصية أكثر من إرتباطها بطبيعة الحدث. فالمتفرج ينفتح على شخصية تشارليز تاتوم (كيرك دوجلاس). الصحفى المخضرم، والذى سبق له العمل بأكبر صحف أمريكا، ولكن لسوء تصرفه الشخصى البحت، تم طرده منها شر طردة. فهو على الرغم من موهبته الملحوظة فى اصطياد الحدث، لم يكن ليحسن الخُلق وخصوصا مع زوجات رؤساء تحريره. تاتوم تقوده حيلته للعمل فى جريدة صغيرة، يعتبرها مجرد جسر للوصول إلى حدث ساخن جديد، يعيد إليه مكانه فى احدى الصحف الكبرى. وحينما يقع تاتوم على هذا الحدث، ويظن أنه بداية عودته تتضح إرادة القدر بأنه القبر الذى سيدفن فيه جسد اسم تاتوم إلى الأبد.
من بداية الفيلم، والسيناريو يكشف للمتفرج خِصال تاتوم، لامبالاته، وقوة بصيرته، حدة ذهنه، وقدرته الفائقة على التعامل مع معطيات العالم من حوله. إنتهازيته البائنة، وأنانيته المُفرطة. يكشف الحوار عن كل هذا، فتجد تاتوم يخبر زملاءه ولو على سبيل المداعبة برغباته الدفينة فى اختلاق حدث ما، حتى وإن كان على حساب موتهم أو تأذيهم، ويقول لرئيس تحريره “إن لم يوجد حدث سأعض قدمى وأخلقه”. هذه الصفات الفوضوية المتعالية، ستواجه حادثة قوية، لا تتوقف قوتها على طبيعتها فقط، بينما يمكن وصفها بذلك لأنها وحدها من وضعت تاتوم قبالة نفسه كمرآة حادة، لم يقف أمام مثلها من قبل، فتبدت بقية سماته كإنسان هش، يقع فى موضع متوسط ما بين التمادى فى الشر، ولفظه بقوة. وهنا كانت نهايته.
صراع داخلى غاية فى الجمال، نسجه وايلدر بحذق، وكشف عنه تدريجيا. لينسج هذا التعقيد المتوارى فى نفس تاتوم، والذى كان سببا وجيها وكافيا لأزمته ونهايته المفجعة. ففى بداية الفيلم، يعرف تاتوم بالصدفة البحتة، أنه بصدد قصة صحافية هائلة، حينما يقابل حكاية “ليو”، العامل البسيط الذى يعلق فى كهف أثرى بعدما كان يزاول الحفر لإقتناء أحد التحف. يمكننا أن نلاحظ هذا التوازى الخبيث الذى حققه وايلدر منذ أول مشهد جمع بين تاتوم وليو داخل الكهف، حيث تطلع تاتوم الجنونى حول تفاصيل القصة، وفى الوقت ذاته، حرصه الغريب على الرفع من معنويات “ليو”. فنجده فى نهاية المشهد، يُحمس “ليو” ليغنى الأغنية التى كان يغنيها زملائه فى الجيش، ليرفهوا عن أنفسهم، بعد أن يلحظ إمارات الخوف على قسمات ليو. ومن ثم يعود ليتواطىء مع المسئول الحكومى ومقاول الحفر على إطالة المدة التى يهمون فيها لإنقاذ ليو. فبدلا من أن يدّعموا الكهف بالأخشاب ويدخلون لجلب ليو، وهو ما سيستغرق ساعات قليلة، يحفرون فتحة فى سقف الكهف ويهبطون بشكل رأسى لإستعادته، وهو ما سيستغرق أسبوعا كاملا. إذا، تاتوم يتعاطف مع ليو، ويكن له خير صديق، يداوم على زيارته فى الداخل، ولا يشرع فى تنفيذ خطته إلا بعد أن يسأل الأطباء حول مدى تحمل ليو مدة أسبوع كامل داخل هذا المكان المغلق، وفى الوقت ذاته، يجيز لنفسه التكسب من وراء روحه الحبيسة فى الظلام والوحشة. فالمسئول الحكومى عندما وافق تشارلز على مخططه، لم يكلف نفسه السؤال عن النتائج المترتبة على اتفاقهما بخصوص ليو. فهو فكر فيما سيعود عليه من تبعات ما سيحدث، بعدما وعده تاتوم بلغط مكثف سيكتبه فى حقه، سيزيد له عدد أصواته الإنتخابية. ولكن تاتوم تورع أن يسأل عن مؤديات فكرته، حتى ولو على المستوى النظرى، بالرغم من أنه الشيطان الذى اقترحها. هذه المنطقة المُلغزة فى نفسه. كانت الثغرة التى جعلت من صراعه الداخلى جحيما حقيقيا، لم يكن ليشعر به غيره لو مر بنفس الموقف، وقد لا ينتهى مثل هذه النهاية أيضا.
كيرك دوجلاس في فيلم “الورقة الرابحة في الثقب”
خط آخر، أضافه السيناريو ليدلل بشكل غير مباشر على المنطقة الملغومة فى شخصية تاتوم، مستخدما اياه فى أحسن صوره، ليُحمى وطيس معاناة تاتوم، ويقوده بمنطقية لمصيره الغائم. إنها تلك العلاقة التى ربطته بزوجة ليو، والتى وإن تأملنا شكل تورطه فيها سنجدها دليلا آخر على القدم التى يضعها تاتوم فى الجنة، والأخرى التى يموطأها فى النار. فهو منذ بداية الفيلم، يصد رغبة زوجة ليو فيه، يردها بقسوة، على الرغم من الإيحاءات التى أصر وايلدر على أن يسلط الضوء عليها فى مشهد لقائهم الأول، والتى تفيد بقوة إلى أنه بادلها شعورها. فحينما ركبت فى سيارته وهما في طريقهما إلى الكهف الذى علق فيه ليو، بدا أنه ينظر إليها نظرة شهوانية ملحوظة. بينما تراجع تصريحه بشعور مماثل، بعدما اطلع على موقف ليو السيىء، وبات مسؤولا بشكل أو بآخر عن سلامته. ولكنه يعود من جديد ويتورط معها فى علاقة جسدية، حينما يخشى أن تعود إليها فكرة هجر المكان بأكلمه والهرب نحو تطلعاتها فى المدينة. وهو ما سيضر بالصورة الصحفية التى تضمنتها تقاريره اليومية عن الحادث، والتى يعلم أنها الأفضل فى التأثير على الناس.
مناطق توهج
المشهد البديع الذى كان بين تاتوم، ورئيس تحرير جريدته المتواضعة التى توقف عن إرسال التقارير إليها، مستعيضا عنها بالعروض التى انهمرت عليه من الصحف الأخرى. المشهد الذى يعد دعامة الفيلم بأكمله، حيث حدثت آخر أشكال المواجهة المباشرة التى خاضها تاتوم مع نفسه. فالرجل الذى أمامه يمتلك صحيفة أمينة لا تنتهج الطرق الملتوية، يأتيه الى مكان الحادث خصيصا، ليستحثه على معاودة النشاط بصدق، متشككا فى وجود ليو داخل الكهف من الأساس.
يتحاور الإثنان أمام الصليب. تاتوم، يدافع بنفس ضعيف عن ما أراده، والآخر يقف متنمرا محتميا بالحقيقة، واثقا من نهاية الطريق الذى قرر تاتوم قطعه. فى بداية المشهد يتعازم تاتوم على رئيسه بكأس من الشراب، ولكنه يقول فى جملة لها دلالتها الرمزية “من الواضح أنه لا يوجد اثنان من الكؤوس هنا، مثل هاتين الشمعتين” مشيرا إلى الشمعتين المنتصبين أمام الصليب. فالكأس أقرب له، ولا يوجد لرئيسه واحد مثله. بينما يبقى وجود الشمعتين فى غرفة والدى ليو رغما عنه، بل وتأتى والدة ليو فى نهاية المشهد لتبدلهما بأخرتين متقدتين. ومن جديد يمكننا أن نرتئى قدرة تاتوم، على لوم نفسه رغم اصراره على قطع الطريق إلى نهايته، فالجملة التى قالها أمام رئيسه لم تكن سخرية من الرمز الدينى بقدر الخشية منه.
نقطة أخرى تمثلت فى اختيار زمن تفعيل الحدث. فمثلا توقيت تورط تاتوم مع زوجة ليو كان مثاليا، حيث نمى إلى علمه أن ليو يحتضر، وأنه لن يستطيع إخراجه من مكانه بالطريقة القدمية لأن حفرة السقف أضعفت الكهف، كل هذا وليو ينعته بـ “أفضل أصدقائه”، ولا يتوقف فى حديثه إليه عن حبه لزوجته. السيناريو هنا، نصب لشخصية تاتوم فخا نموذجيا، يسوقها إلى إنهيار عصبى مفاجىء، فيه نسبة من الخبل، فيهرع إلى مكان الزوجة، ويجبرها على ارتداء الفرو الذى أطلعه ليو أنه ابتاعه لها كهدية زواجهما، يضعه فوق جسدها وبنازع لاارادى يحاول خنقها، فلا تملك سوى بأن تطعنه طعنة تؤدى إلى موت مؤجل.
هذا التحول غير المتوقع، والمفجع فى شخصية تاتوم، سواء على مستوى الشعور النفسى، أو الأفعال الملموسة. مهد لها السيناريو طوال الفيلم بإشارات خفيفة، لوح بها من على بعد. ليجعل المتفرج مبهوتا، وفى الوقت ذاته قادرا على التصديق.
لمسات المخرج
يمكننا أن نتعثر بلمسات وايلدر المتمكنة والجلية، فى عدد من التفاصيل البسيطة المضفية على إدارة الحدث قيمة وتفردا. فنجد مثلا صوت طرقات العمل على حفرة السقف بداية من منتصف الفيلم تقريبا، صوتا مزعجا، مُلِحا، وموشيا، له دوره فى رفع نسبة التوتر والترقب، وهولة الفعلة التى قام بها تاتوم فى حق المسكين ليو، والتى حكمت عليه هذه الطرقات بأن يرقد فى مكانه إلى الأبد.
الطريقة التى اختارها لتبيان قرار الزوجة بالبقاء بعدما كانت قد قررت هجر المكان، بينما لفت تاتوم نظرها إلى الأهمية التى ستقع فيها المنطقة بعدما سيتم الكتابة عنها فى الصحف، مما سيدر أموالا وفيرة ستغنيها عن الذهاب للمدينة.
يقف تاتوم ليوسوس لها كشيطان، بينما هى تقف فى محطة الحافلة، ويتركها ويمضى إلى الداخل، تاركا إياها فى لامبالاة، وثقة بأنها ستعود، تأتى الحافلة، وتغطى على وجودها الذى كان مواجها للكاميرا، ومن ثم بعد ثوانى تتحرك، لتظهر الزوجة وهى تتحرك عائدة، وقد استدارت فى نقيض آخر كادر لها قبل مجىء الحافلة. صورة وثيقة الإلتصاق بتوكيد حكى السيناريو عن الشخصيتين، شخصية تاتوم الموهوبة فى التأثير على كل من حولها، وشخصية الزوجة الضعيفة أمام تاتوم والنقود.
إصرار وايلدر على بناء ستديو كامل يبدو مبالغا فى صدقه، لمنطقة الكهف الذى ابتلع ليو ولم يخرجه. وقدرة وايلدر على أن ينقل المتفرج لأجواء معايشة حقيقة لهذا المكان، سواء فى حالته الموحشة الأولى، ومن ثم مظاهر الكرنفالية التى تغشاه، ومن ثم عودته إلى حالته القديمة مجددا فى نهاية الفيلم.
حينما قرر تاتوم أن يخبر مسئول الحكومة عن خطته البديلة فى اخراج ليو من محبسه، بعدما عرف عن احتضاره، كان يغتسل وقد أتى لتوه من الكهف الذى يتواجد فيه ليو، وبالرغم من تعدد الزيارات التى مرق فيها تاتوم على ليو هناك، لم يظهر وهو يفعلها أبدا، بينما أراد وايلدر إبرازه وهو على هذه الوضعية حينما اراد بجنون التكفير عن ذنبه فى حق ليو، وكأنه يتطهر منه إلى الأبد.
تفضيل وايلدر لأن يصمت شريط الصوت تماما، فى اللقطة التى ذهب فيها تاتوم وهو مطعونا ليحضر الكاهن لليو فى محبسه، حتى يموت تحت يده. فهذه اللقطة الصامتة التى لم يظهر فيها شكل استدعاء تاتوم للكاهن، فعليا، بينما ظل الكادر على السيارة حتى دلف تاتوم وحده وخرج فيما بعدها بالكاهن، احتدمت بالكثير من المشاعر القاسمة والمكتومة والتى ساهم السكوت فى إنماء أثرها ووقعها.
فى اللقطة الأخيرة التى نظر فيها تاتوم للمكان الذى عاد لموته مجددا، وجد أبو ليو وهو موليا ظهره محاطا بفراغ ووحشة المكان. فوايلدر حرص على أن يكون الرجل فى وضعية يختبىء فيها وجهه، مفسحا مجالا فضفاضا لشكل جسده الكسير، المطأطأ وسط المساحة المصمتة والواسعة أمامه، والتى عادت لتشبه من البؤس ما يحمله فى نفسه بعد وفاة ابنه، على يد أكثر رجل كان ومازال يظن أنه أوفى الرجل التى انبرت للدفاع عن خروج ابنه من رقدته.
كادران أحدهما فى أول الفيلم، والآخر قرب نهايته، بدا كل منهما بنفس الإضاء المتعمة والمقبضة. الأول حينما تبدت أم ليو وهى تدعو لإبنها، والمتفرج لا يعلم لماذا تصلى بهذا الخشوع، ولكن شكل اللقطة يوحى بأن ثمة أمر جلل حدث ويجر فى قدمه أحداث أكثر هولا. والكادر الآخر، الذى ظهر فيه رئيس التحرير الصادق فى اللقطة التى فاجىء فيها تاتوم بوجوده فى الغرفة حينما تواجها، فبدا شكل وقفته وإطلالتها المقدسة كضمير تاتوم الذى داهمه بغلظة ويقظة.
فيلم “الصفحة الأولى”
الفيلم هو “الصفحة الأولى” The front page – 1974وهو هذه المرة يحاكى وايلدر مسرحية الكاتب بن هيخت Be Heshtالتى تعبر عن ازدرائها للصحافة، على كل المستويات، سواء من جانب الخط الدرامى الخاص بالبطل هيلدى جونسون “جاك ليمون” الذى سأم الصحافة، وقرر أن يتخذ خطوة جدية فى اعتزال امتهانها، مستقبِلا حياة أكثر هدوءا مع إمرأة أقدم على الزواج منها. أو على الصعيد الآخر، الذى أظهر فيه حقيقة معدن عينّة بعينها من الصحفيين، قد تمثل للأسف أغلبية يمكن التعويل عليها فى المتاجرة بقضايا الرأى العام، وتزييف الحقائق، والتحالف الفاسد مع السلطة كما سبق وأشار وايلدر فى الفيلم السابق.
والتر ماتاو وجاك ليمون في لقطة من فيلم “الصفحة الأولى”
وجه أشرس للهجوم
هنا عامل النزاهة البديل ضعيف مقارنة بنقيضه القوى الذى كان فى فيلم ace in the hole، فالرمز الواضح للصحفى الشريف (رئيس تحرير الجريدة المتواضعة) الذى يُقدم الحقيقة والمبدأ الإنسانى فوق إعتبار المهنية، يتأرجح وقعه هذه المرة، يبدو مائعا، لا يحسم أمره، فلا تتردد أصداء وقعه. فـ والتر “والتر ماثيو”رئيس الجريدة التى يعمل بها هيلدى، يتباهى أمام هيلدى فى المشهد الأول، أنه توصل إلى طريقة جهنمية تمكنهم من إلتقاط صورة “إيرل ويليامز” الشاب الذى سيتم إعدامه بعدما قتل بغير عمد شرطيا أسود، فتحول إلى كبش فداء استغلته الحكومة، مختلقة كذبة وهمية عن كونه شيوعيا، قام بقتل شرطى أسود بتحريض من نزعة عنصرية داخل نفسه. فى مقابل حصد أصوات كافية فى الإنتخابات الوشيكة.
والتر يُخطط لتصوير ويليامز الساذج وهو معلق على حبل المشنقة، وينتوى وضع صورته على الصفحة الأولى ليضاعف مبيعاته، والمحافظ الأمريكى يدّعى عليه ما ليس فيه ليصبح بطلا فوق عنقه. فما الفارق بينهما. وبالرغم من محاولات والتر فيما بعد توضيح إنحيازه لإبراز الحقيقة، فإن المتفرج لن يقوى على انتزاع نيته المبيتة التى كانت بدم بارد فى التعدى على حرمة المسكين الموعود بتهشم عنقه فوق المشنقة. فـ “والتر” وهيلدى على الرغم من اعتبارهما نسخة محسنة من صورة الصحفى، فإنهما يملكان ذات الجينات الصحفية التى جاءت على لسان هيلدى فى المشاهد الأولى من الفيلم، حيث وصف الصحفيين عموما بأقذع تهم إنتهاك خصوصية الآخرين، والتعامل مع أحداثهم بفوضوية وهمجية، على أقل تقدير. هيلدى فى حوار هذا المشهد، ساوى بين جميع من بالمهنة، بين نسخته المُعدلة هو ووالتر، وبين النماذج الدنسة التى قدمها السيناريو إلى جانبهم.
إنها النماذج التى ظهرت فى غرفة الصحافة. مكان مغلق، يتحوط فيه مجموعة من الرجال المتدليين كترهلات البطن، حول طاولة كبيرة، بدلا من أن يمارسوا عليها مهنتهم بضمير، يحولوها إلى منضدة قمار. ومن حين لآخر، يتصل أحدهم بالخط المباشر لجريدته، ويخبرها وهو لم يبرح مقعده، أن لديه من الأخبار جديدا، يختلقه لتوّه فى انسيابية من يعتاد الأمر. أصر وايلدر، على أن يرسخ فى نفس متفرجه كره متأصل صوب هذه المجموعة من الرجال، فصورهم مسوخ آدمية، لا يعبأون لموت إمرأة أمامهم، بل يهرعون ليستجوبوها طالما تبقت لديها حفنة من الأنفاس التى تفصلها عن الموت. وفى أول مشهد بالفيلم، يقف أحدهم فى النافذة، ليستحث الشرطى المسئول عن تجهيز منصة الإعدام بأن يراعى كونهم يعملون، فيوقف الشرطى كل الجلبة، ليقول فى صوت رخيم “تبا لكم” ومن ثم يعود ليشير بيديه لعماله لكى يستأنفوا ما كفوا عنه، وكأن وايلدر يقولها لهم مبدئيا وقبل أن يبدأ أى حدث بالفيلم، قبل إطلاع متفرجه على مايفعلونه حقا، فى غرفتهم التى تعتلى منصة الإعدام، والتى من المفترض أن ينقلون تطورات الحدث أولا بأول. إنهم حقا يعملون حق العمل.
عن السيناريو
على قدر كل هذه السوداوية، تتأتى أجواء موازية من الهزلية، تتبدى فيها حرفة بناء الإفيه التى إمتاز بها وايلدر، فيما يخص العلاقة بين هيلدى ووالتر، وعمليات الكر والفر الدائرة دوما بينهم نتيجة لسعى والتر صوب منع هيلدى من اتخاذ قراره بإعتزال الصحافة ليتزوج. فنلمس قدرة وايلدر على أن يصيغ هذا التناول الكوميدى الموازى لفاجعة ايرل التى تستحق الرثاء، بصيغة منضبطة تمنح المتفرج أوقات مستقطعة لكى يبتسم بصفاء. كما أن السيناريو حافظ على الملامح المتوارية لعلاقة والتر وهيلدى الإنسانية، والتى بالتأكيد لها نصيب فى دفع والتر للمحاربة لإستعادته، وقد تبدت جلية فى المشاهد التى كان يصوغ فيها هيلدى الخبر أمام عين والتر، فيحفزه الأخير ليجوّد ويأتى بأفضل ما عنده فى الكتابة، بطريقة يعلم أنها وحدها ستفلح معه، فوالتر ليس مجرد رئيس تحرير ينمى مهارة صحفى، وإنما صديق يعلم قدرات صاحبه. فكان التعامل بينهما طوال الفيلم، حتى فى أحلك لحظات اختلافهما، يشبه ما جاء على لسان أحد الصحفيين فى المشاهد الأولى، “هيلدى ستزوج! لقد ظننته متزوجا من والتر بورنس”.
تعالت على مدار السيناريو لذعة السخرية من السياسية الأمريكية، الحكومية، والأمنية، أو حتى على سبيل الخدمات الإجتماعية. فنجد المسئول الحكومى فى غاية من العته الذى يمكنه من أن يعطى مسدسه لمجرم، ليعيد تمثيل جريمته حتى يتمكن الطبيب النفسى من تشخيصه. وبينما يفعلها المجرم ويصيب الطبيب برصاصة طائشة، يزعق الطبيب الأجنبى ويتوسل الجميع بأن يحملوه إلى مستشفيات باريسية، لأنه لا يثق بالطب الأمريكى، وإن كان لابد فلهم أن يأتونه بمرآه وأدوات جراحية ليجرى عمليته بنفسه. فى الوقت الذى تهرع فيه القوات الأمنية خلف ايرل وليامز، بعد هروبه، ويزعمون أنه فى مكان ما ويبدأوا فى اقتحام المكان وتصويب النار بإخفاق بائن، بينما إيرل لم يغادر مبنى الوزارة من الأساس. مجموعة من المعطيات التى تتهكم على إدارة المنظومة الأمريكية بكافة أشكالها، وظفها السيناريو بصيغة كوميدية ملحوظة، ولكنها مباشرة وعالية الصوت رغم هندمة معالجتها.
لمسات بيللى وايلدر
فى الظهور الأول لوالتر ماثيو، لا نسمع مبدئيا سوى نبرته الصادحة وهو يسب ويلعن هيلدى، بعدما يعلم بعدم وصوله إلى غرفة الصحافة وهو يهاتف أحد الصحفيين، ومن ثم يلتقطه الكادر من الخلف، وهو يزاول سبابه، ولا يستدير إلا بعد فترة كافية من حمل المتفرج على الشعور بأن هذا الرجل له شخصية عنيدة عتيدة، لا تتنازل أبدا عن حقها فى الدفاع عن ما ترغب فى تحقيقه، هى طلة بالتأكيد تتناسب مع شخصية هيلدى التى سنعرف عنها الوفير لاحقا.
يمكننا أن أيضا أن نلاحظ حركة الكاميرا، التى تتجه إلى وقفة والتر بهدوء وترقب حينما يقرر أن يلجأ إلى حيله جديدة يعيق بها زواج هيلدى. اللقطات القريبة لوجه الصحفيين قاصدة ابراز دمامتها وهى تدلى بدلوها بالأخبار الملفقة. واللقطة التى أغلق فيها هيلدى على نفسه وعلى الخادمة التى شهدت واقعة هروب ايرل وليامز، حيث اقتصدها وايلدر، فلم يأتى بالقصة على لسان الخامة وهى تنبأ هيلدى، بينما إكتفى بزجاج الباب الغائم، ليتصدر الكادر، فأعطى اللحظة صبغتها الجليلة النافذة الأثر. تماما كالإختيار المتكامل للممثل الذى قدم دور ايرل وليامز، وكأن الدور كتب خصيصا لهذا الجسد النحيل القصير، والوجه الطفولى البرىء الساذج، الأبله لدرجة مثيرة للشفقة. وأخيرا التنفيذ الكاريكاتورى لمشهد ضياع الطبيب من عربة الإسعاف، حيث بدت العربات الأمنية كدمى تتحرك بكرتونية مذهلة، تتبعتها عربة الإسعاف التى من هول سرعتها انحرفت حتى خرج منها الطبيب المصاب، لينجرف بسريره النقال صوب المجهول فى الشارع الأمريكى الذى كان فقط يهاب مشفاه ولا يثق بأطابه. كل ما سبق لزمات بيللى وايلدر، أدواته القليلة والقوية، التى تعبر عنه وتمنحه هوية لا يحيد عنها المشاهد.