“بيت في القدس”.. عندما يتداخل الواقع مع الخيال

Print Friendly, PDF & Email

فيلم فلسطيني لا يشبه سائر الأفلام التي سبقته، فهو يبتعد عن المباشرة، وعن المشاهد المعتادة من قلب الصراع، ليبحر في عالم يزاوج بين الواقع والخيال، من خلال أسلوب خاص، يمتلك القدرة على جذب المتفرج، ويوصل رسالته من تحت جلد الصور، ومن خلال قصة بسيطة تدور في أجواء شبيهة بقصص الأشباح.

الفيلم هو “بيت من القدس” (2024) الذي بدأت عروضه العامة أخيرا في بريطانيا وأيرلندا، وهو من إخراج المخرج الفلسطيني المقدسي، مؤيد عليان، وهذا هو فيلمه الروائي الطويل الثالث بعد “حب وسرقة وورطات أخرى” (2015)، و”التقارير عن سارة وسليم” (2018)، وقد كتب له السيناريو مع شقيقه “رامي عليان”، وهو من الإنتاج الفلسطيني المشترك مع بريطانيا وألمانيا وقطر وهولندا.

“بيت من القدس” مكتوب بحيث يحاكي النوع السينمائي المعروف الذي يروي قصص الأشباح، أي أنه يمكن أن يصنف ضمن أفلام الرعب، لكن سيكون هذا خطا كبيرا، فعلى الرغم من بداياته المثيرة التي توحي بالغرابة والأجواء السحرية، سرعان ما يعيدنا الفيلم إلى الواقع نفسه، ولو من خلال الرمز، والتورية، والمجاز، إلى أن يعلن صراحة عن فكرته قرب النهاية، لنكتشف أننا كنا في الحقيقة، ومن البداية، أمام فيلم يقارب السياسة، متسترا في طيات قالب فني قريب من أفلام الأطفال، أي الأفلام التي تروي قصصا خرافية. إلا أن القصة “الخرافية” تبدو شديدة الارتباط بالواقع، بالتاريخ، بحقيقة المأساة الفلسطينية الممتدة منذ عام 1948.

الشخصية الرئيسية في الفيلم هي لطفلة في العاشرة من عمرها، هي “ربيكا” (ميلي لوك)، وهي يهودية بريطانية، يأخذها والدها “مايكل” (جوني هاريس) من لندن إلى القدس لعل الاثنان يتجاوزان وقع الصدمة التي أصيبا بها عقب وفاة الزوجة/ الأم، قبل سنة، في حادث سيارة أثناء وجود ربيكا معها، وهو حادث سيظل تأثيره قائما باستمرار في ذهن الفتاة، تهاجمها ذكراه وكوابيسه أثناء نومها، دون أن يفارقها الحزن في اليقظة.

يعود مايكل إلى منزل في القدس، من الطراز القديم، يبدو كأحد قصور النبلاء، مكون من طابقين، وله حديقة شاسعة مزهرة، وهو المنزل الذي ورثه عن والده الراحل الإسرائيلي جوزيف شابيرو. وسنعرف من خلال ما يقوله له “شلومي” (مكرم خوري) الذي يستقبله عند وصوله، أن والده اشتراه عندما طرحته الحكومة مع غيره، للبيع في أوائل الستينيات. ومن دون أن يخبرنا الفيلم، يمكن أن نستنتج مباشرة أنه كان أحد المنازل التي استولت عليها السلطات الإسرائيلية بعد طرد أصحابها الأصليين.

الأب مايكل مع ابنته ربيكا الحائرة، القلقة

في حديقة المنزل، غطاء حديدي عتيق، يفضي إلى بئر، يكون أول ما يجذب “ربيكا” التي تشعر بالسأم والغربة عن المكان فتلجأ إلى البحث والاكتشاف خلال الليل، تزيح الغطاء وتعثر في مياه البئر على دمية أو “عروسة” من لعب الأطفال تتميز بتصميمها الخاص وملابسها المطرزة على الطراز القديم، ولكن مايكل يتناولها ويتخلص منها ضمن القمامة.

تلحظ ربيكا بعد ذلك ظواهر غريبة تظهر في المنزل: بعثرة محتويات الخزانة، ظهور رسم على حائط الصالة للدمية التي ترتدي زيا فلسطينيا من تلك الأزياء الشعبية القديمة التي تتميز بالنقوش والرسوم البديعة، ثم يتبدى لها شبح فتاة أخرى في مثل عمرها، شاحبة كالحة، تجوس في أرجاء المنزل. لا يمكن لأحد أن يراها سوى “ربيكا” فقط. ومع ذلك فالفتاة خائفة مذعورة. وعندما تواجهها ربيكا أخيرا، وتتبادل معها الحديث، تعرف أن اسمها هو “رشا” (شهرزاد فاريل)، وأنها كانت تعيش في هذا البيت مع والديها الذين اضطروا للفرار بعد قدوم “الرجال الذين يحملون البنادق” في 1948- حسبما تقول، ولم يرجع والداها قط، وأنها مازالت تنتظر أن يعودا في أي وقت، وأنها تختبئ في البئر.

تأتي الشرطة أكثر من مرة للبحث في المنزل: مرة بعد أن يكتشف مايكل بعثرة الكثير من الأشياء في المنزل مع إنكار ربيكا مسؤوليتها عن ذلك، ومرة أخرى بعد أن تلاحظ الشرطة الإسرائيلية عبر مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي أن ربيكا تبحث عن تاريخ المنزل وتسعى لمعرفة أصحابه الأصليين، أي أن السلطات تنكر هذه المعرفة على القادمين الجدد من الخارج. لكن ربيكا التي لا تعي أي شيء عن تاريخ الصراع وماضي دولة إسرائيل وكيف قامت، ستعرف أن المنزل ينتمي أصلا إلى عائلة مريم وخليل منصور.

فكرة أن تكون ربيكا، قادمة من خارج إسرائيل إلى القدس، أي إلى مجتمع غريب عليها تماما، مقصودة لتبرير سلوكها الإنساني ورغبتها البريئة التي ستكبر أكثر وأكثر، لتظل تسعى إلى معرفة الحقيقة، الماضي، التاريخ، وما سيترتب على ذلك من الشعور بالذنب، على نحو ما، والرغبة في رد الاعتبار، أو “التعويض”، ولو على صعيد رمزي وعلى المستوى الإنساني البسيط، وفي إطار العلاقة بين طفلتين في عمر مماثل، ينتميان إلى عالمين مختلفين. هنا تصبح دمية رشا المفقودة، أو لعبة الأطفال الضائعة التي تسعى ربيكا للعثور على بديل مماثل لها، رمزا للتراث القديم، لما يمثله البيت، والماضي والتاريخ.

ربيكا مع رشا: فتاتان من عالمين مختلفين

تشاهد ربيكا مع زملائها في المعسكر الصيفي، أحد عروض الدمى التي يقدمها رجل فلسطيني غامض في ركن من أركان سوق القدس القديمة، ثم تتجول، وتظل تسأل الباعة عمن يمكنه أن يصنع لها دمية مماثلة لما تقدمه لهم من أوصاف، لكنها تعرف أن هذا النوع من الدمى لم يعد أحد يصنعه الآن، ولكن هناك امرأة واحدة فقط يمكنها ذلك، موجودة في مخيم اللاجئين في بيت لحم. ولابد أن تكون هذه السيدة هي نفسها “مريم منصور” والدة رشا.

تقترح ربيكا على والدها الذهاب إلى بيت لحم لكنه يرفض بدعوى أن الوضع هناك “غير آمن”. لكنها تذهب وحدها، وتصل إلى مكان السيدة الفلسطينية (سعاد فارس) التي تتصور أنها والدة “رشا”، وترى عندها صورة لنفس المنزل القديم في القدس، معلقة على الجدار، وتخبرها أنها تقيم هناك الآن مع والدها وتدعوها للعودة معها لرؤية “رشا” التي تنتظرها.

في كثير من المشاهد يصبح من الصعب التفرقة بين الحقيقة والخيال، خصوصا عندما يعود الفيلم مرات عدة إلى “البئر” الغامض المجهول الذي ينفتح على بحيرة كبيرة، كرمز للماضي الدفين، وسوف تهبط ربيكا ذات مرة بنفسها لتسبح في المياه، بحثا عن “رشا”، لكن صورة أمها التي تموت في حادثة السيارة تهاجمها ثم عندما يتكرر ظهور “رشا” التي تشبه في ملامحها جثة، جامدة الوجه، شاحبة، فهي “الشبح” الذي يتحرك في خفة بين أرجاء المنزل، تختفي في الوقت المناسب داخل البئر، ثم تظهر فجأة، وكلها صور مستمدة من الحكايات الخرافية التي كانت تقصها الجدات علينا في طفولتنا، ومنها تمكن الشقيقان، عليان، من نسج خيوط فيلمهما هذا الذي يدخر في نهايته مفاجأة للمشاهدين، كما يكشف بوضوح عن “المأساة” القديمة.

ربيكا مع السيدة الفلسطينية التي ستخبرها بالحقيقة

ربما يحفل الفيلم بالكثير من الاستطرادات في نصفه الثاني، وهو ما يقلل بعض الشيء من الإثارة، لكنه يظل عملا مشغولا بحرفية عالية، يقدم صورة بانورامية لمدينة القدس، بأسواقها وشوارعها وطرقها الضيقة، وقباب بواباتها الصخرية العتيقة، كما يعقد مقارنة على صعيد غير مباشر، بين حياة الإسرائيليين الحديثة في البيوت “التاريخية” التي استولوا عليها من أصحابها الأصليين، وبين حياة الفلسطينيين في المخيمات، كما يصور الفصل العنصري الذي يمثله الجدار الفاصل.

يضفي التصور بشكل عام، طابعا أسطوريا على الفيلم، من خلال الحركة الناعمة الطويلة للكاميرا في المشاهد الخارجية، مع استخدام الألوان الباهرة الزاهية التي تجعل الصورة عموما “غريبة” عن الواقع، قريبة من أجواء “الحلم”، مع بعض المشاهد “الداكنة” التي تمتليء بالظلال وتكتسي بالغموض، خصوصا مشاهد البئر. ولا شك أن تجربة إخراج فيلم من هذا النوع تعتبر مغامرة، رغم أن تصويره جرى قبل أحداث طوفان الأقصى، وإن كان عرضه في ظل الأجواء الحالية مع تصاعد الهجمات العنيفة من جانب الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، قد يؤدي إلى إساءة فهم مغزاه.

صحيح أن الطفلة اليهودية ربيكا، تتصف هنا بالحساسية والبراءة والرغبة في الاعتراف بأصحاب الحق الأصليين وإن على صعيد اللاوعي أي ليس نتيجة فهم للقضية، إلا أن الفيلم يصور في كثير من مشاهده أيضا، رد الفعل الإسرائيلي “الرسمي” على مغامرة ربيكا، ويرصد ما تراه من عنف واعتقال وإبعاد للسيدة الفلسطينية التي صنعت لها الدمية التي أرادتها، والحظر الشديد على دخول الفلسطينيين إلى القدس الغربية، وكلها صور تعبر عن محدودية ما تمثله “ربيكا” على أرض الواقع، الذي يظل اقوى من الخيال بالطبع.

يظل “بيت في القدس” فيلم عن الذاكرة، عن الماضي الذي لا يغيب، عن الذكريات المريرة القاسية، وظلالها التي لاتزال تلقي بكل ثقلها على المشهد السياسي، عن حكايات الماضي التي تكتسي برؤية “سحرية” لكنها لا تصنع عالما سحريا بقدر ما ترسم صورة كابوسية قاسية. ولا شك أن المخرج مؤيد عليان، ابن القدس، يعبر في فيلمه عن هواجسه وأفكاره ومشاعره الذاتية وذكرياته الشخصية، ويجسد بعض ما انتقل إليه من عائلته من ذكريات.

من علامات التميز في الفيلم قدرة عليان، وتمكنه بمهارة من دفع الممثلة الصغيرة “ميلي لوك” التي أدت دور ربيكا، والسيطرة على أدائها، واستخلاص التعبيرات التي ترتسم على وجهها في المواقف المختلفة، وخصوصا أنها تظهر في الغالبية العظمى من مشاهد ولقطات الفيلم، أي أنها تهيمن تماما على الفيلم وتحمله على كتفيها، بينما تلعب باقي الشخصيات دور المساند والداعم لحضور ربيكا.

يبدو الممثل “جوني هارس” في دور الأب “مايكل”، في المشاهد التي يظهر فيها، من خلال تعبير واحد لا يتغير، على وجهه، ورغم ما نعرفه سريعا عن عمله في مجال التخطيط البيئي إلا أننا لا نراه أبدا في العمل، فهو لا يفعل سوى طهي وإعداد الطعام الذي يتناوله مع ابنته، مع تحذيرها دائما من الاقتراب من البئر، فهو مخزن الأسرار المحظورة. لكنه يبدو أيضا مثل ربيكا، رجلا بائسا حزينا، لا يمكنه التعافي من حادث وفاة زوجته، يحاول أن يبدأ علاقة عاطفية مع فتاة أخرى، ولكن من دون حماس، وهو ما تعارضه ربيكا بكل قوة بالطبع.

يظهر الممثل الفلسطيني المخضرم مكرم خوري في مشهدين من الفيلم، في دور “شلومي” الرجل اليهودي صديق والد مايكل، الذي يحافظ على المنزل ويرعاه أثناء غياب مايكل في بريطانيا. وهو يؤدي الدور بلغة إنجليزية سليمة، وفي الإطار المرسوم له في السيناريو.

وحيدة في الليل.. تبحث عن الحقيقة وعن حل للغز الشبح

وتبرع الممثلة سعاد فارس” في أداء دور السيدة الفلسطينية التي ستلجأ إليها ربيكا في النهاية وستكون مفاجأة الفيلم عندما تكشف لربيكا عن حقيقتها، التي لا أريد في الكشف عنها هنا، حتى لا أحرق الأحداث لمن يريدون مشاهدة الفيلم، وقد أجادت سعاد بوجه خاص، التعبير عن مأساة الجيل القديم من الفلسطينيين، الذين فقدوا كل شيء خلال النكبة، لكنها تؤكد أيضا في المشهد الأخير عندما تطلب منها ربيكا البقاء معهم في المنزل، أنها “ستكون دائما موجودة”.

الفيديو

Visited 5 times, 1 visit(s) today