“بذرة التين المقدسة” الفيلم الإيراني في مسابقة مهرجان كان
أمير العمري
“كل هذه الشخصيات مستلهمة من أناس حقيقيين. كل هذه المشاهد جاءت من مواقف حقيقية. وكل هؤلاء الناس الذين عرفوا الشرطة السرية في إيران سيمكنهم التعرف على هذه الأماكن. هذه الممرات. القصة قريبة من الواقع كثيرا جدا جدا”.
كانت هذه كلمات المخرج الإيراني المعروف محمد رسولوف (52 سنة) عند مناقشة فيلمه الجديد “بذرة التين المقدسة” The Seed of the Sacred Fig في مهرجان كان السينمائي، حيث حصل على جائزة خاصة من لجنة التحكيم.
قصة صراع رسولوف مع السلطات الإيرانية ربما تستحق وحدها فيلما مستقلا، لكن فيلمه الجديد الذي استمده من تجربته في الاعتقال والتحقيق والسجن، ليس بعيدا عن تجربته الشخصية، فهو شعوره بالغضب على النظام الذي يقمعه ويقمع الشعب الإيراني منذ سنوات. إنه يكشف في هذا الفيلم، من خلال منهجية صارمة، كيف يصنع النظام زبانيته، وكيف يتحول الفرد الذي يكرس نفسه لخدمة النظام، إلى أداة طيعة بحيث يمكن توجيهه وتوجيه طاقة العنف التي شحن لها، ضد أقرب الناس إليه.
ولكن قبل الدخول في تفاصيل الفيلم، يجب أن نتوقف أولا أمام التجربة المريرة لمحمد رسولوف مع السلطات الإيرانية. ففي عام 2010 اعتقل بتهمة تصوير فيلمه “المروج البيضاء” من دون تصريح، وحكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات، ثم أطلق سراحه بعد تخفيف الحكم عليه إلى عام واحد.
وفي عام 2017 صادرت السلطات جواز سفره ومنعته من مغادرة البلاد، ثم اعتقل مجددا في 2022 حيث قضى عدة أشهر في المعتقل. وأخيرا، في 2024 بعد أن أكمل تصوير فيلمه الأخير في إيران “بذرة التين المقدسة”، مورست ضغوط شديدة عليه لسحب الفيلم من مهرجان كان، ولكنه كان قد نجح في تهريبه إلى الخارج، وعندما علم بصدور حكم بسجنه لمدة ثماني سنوات مع عقوبة الجلد، والغرامية المالية، قرر مغادرة البلاد سرا،
لم يكن أحد يعرف أين ذهب، إلى أن ظهر فجأة وسط دهشة الجميع في مهرجان كان الأخير، وحضر العرض العالمي الأول لفيلمه ثم المؤتمر الصحفي الذي عقد لمناقشة الفيلم مع الصحفيين، وقال إنه قام بتصوير الفيلم سرا في الفترة بين أواخر ديسمبر الماضي حتى مارس من العام الجاري، وعندما علم بصدور الحكم بسجنه، قرر مغادرة إيران بمساعدة أصدقائه، وتمكن من الذهاب إلى ألمانيا.
ترجع كل متاعب رسولوف مع السلطات الإيرانية إلى جرأة أفلامه التي يوجه خلالها النقد الشديد للنظام الحاكم، منذ فيلم “المروج البيضاء” (2009) ثم “لا تحرق المخطوطات (2013)، “لا وجود للشيطان” (2018)، وأخيرا فيلمه الجديد الذي يعتبر العمل الأكثر وضوحاً وقوة، في تعرية وإدانة النظام، فهو يبتعد عن التورية، ويعتمد على دراسة شخصية الرجل، ابن النظام القمعي، كيف تتطور شخصيته، ويتم إخضاعه لكي يصبح أداة قمع حتى لأقرب الناس إليه.
في فيلمه الجديد ينتقل رسولوف بين ثلاثة أساليب مختلفة ويسهب كثيرا ويدخل في تفاصيل كثيرة تجعل الفيلم يمتد لما يقرب من ثلاث ساعات.
هذه الأساليب الثلاثة هي: أسلوب الدراما الاجتماعية السياسية، عن مأزق قاضي التحقيق الطموح الذي يؤمن بالنظام ويريد أن يترقى في ظله ويصعد اجتماعيا وانعكاس هذا على علاقته بأسرته، ثم أسلوب الفيلم الوثائقي، مع استخدام اللقطات الحقيقية المصورة من الواقع، التي توثق للمظاهرات التي شهدتها طهران في ضوء ما أثاره موت “مهسا أميني” في 16 سبتمبر 2022 بينما كانت بين أيدي الشرطة، ثم ينتقل في الثلث الأخير من الفيلم إلى أسلوب سينما الإثارة والرعب، ليصور تحول الشخصية الرئيسية إلى الجنون التام والشروع في الفتك بضحاياه من أقرب أقربائه، على نحو يذكرنا بفيلم “البريق” The Shining لستانلي كوبريك.
يبدأ الفيلم ببطله “إيمان”، وهو قاض التحقيق في المحاكم الثورية الذي ترقى حديثا إلى ذلك المنصب. إنه يؤدي الصلاة في شقته بالعاصمة طهران، ثم يعرب لزوجته “نجمة” عن شعوره بالاضطراب والقلق بسبب ما يريد رئيسه في العمل أن يفرضه عليه، أي إدانة متهم وإصدار الحكم بإعدامه، من دون حتى أن يفحص ملف القضية. فهو يشعر بأن هذا يتعارض مع قيمه الدينية.
زوجته “نجمة” مؤمنة تماما بالنظام، وهي تسانده وتشجعه وتدعمه وتشد من أزره باستمرار، كما أنها، من ناحية أخرى، سعيدة بما وصل إليه بعد عشرين عاما من العمل الدؤوب في خدمة النظام، وأصبح ينتظر ترقيته إلى منصب القاضي مما يمكن أن يكفل لهم الانتقال إلى منزل كبير، والحصول على دخل أكبر يتيح لهم شراء السلع والأجهزة المنزلية التي لا تتوفر لهم، مع استمرار تعليم الابنتين: الكبرى، “رضوان” التي تدرس في الجامعة، والصغرى “سناء” وهي لاتزال في بداية الدراسة الثانوية.
ينصحه زميله في العمل “غدير” بتنفيذ ما هو مطلوب منه على الفور، ومن دون تردد، والحكم بإعدام المتهم، وألا يتقاعس كما تقاعس سلفه مما أدى إلى فقدانه منصبه.
لبعض الوقت يخوض “إيمان” صراعا نفسيا في داخله بسبب وطأة المهمة المنوط بها وتعارضها مع قيمه الأخلاقية، لكنه سيحسم أمره تحت وطأة إغراء بالصعود الاجتماعي، وعدم رغبته في التضحية بمسيرته الوظيفية التي استمرت 20 عاما. وستتكفل الضغوط الخارجية التي ستنشأ على أرض الواقع، بدفعه نحو التشدد والمغالاة.
تندلع مظاهرات الطلاب في شوارع طهران بعد مقتل مهسا أميني التي اعتقلت بسبب رفضها ارتداء الحجاب. وتتابع الابنتان، رضوان وسناء، الصور واللقطات العديدة التي تبثها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي صورت بكاميرات أجهزة الهواتف المحمولة. ويستخدم رسولوف الكثير منها لتصوير عنف الشرطة في تعاملها مع المتظاهرين.
“إيمان” يدين المظاهرات ويقول إنها مدفوعة من جانب أعداء الدولة. وعندما تستهجن ابنته رضوان كلامه وتسأله عمن يكون هؤلاء “الأعداء” لا يملك إجابة، وهي ترفض أيضا “الهراء” الذي تبثه وسائل الإعلام الرسمية في نشرات الأنباء التليفزيونية التي لا تكف عن إدانة المتظاهرين والإدعاء بوقوف قوى أجنبية وراء المظاهرات.
“رضوان” تريد استضافة زميلتها “صدف”، وهي طالبة جامعية جاءت من الريف إلى طهران، ولو لليلة واحدة فقط إلى حين أن تتدبر أمرها لكن أمها ترفض وتعارض بشدة، فقد أصبح لزاما على القاضي وأسرته الآن التدقيق كثيرا فيمن يتردد عليهم، والبعد عن أي صلة يمكن أن تثير الشبهات حرصا على إطاعة السلطات التي منحت إيمان أيضا مسدسا لحماية نفسه وأسرته، وهو ما يثير فزع زوجته “نجمة”.
توافق نجمة على استضافة رضوان لصديقتها صدف لليلة واحدة على أن تنصرف في الصباح مع إخفاء الأمر على إيمان، لكن بعد انصرافها ستصاب “صدف” بطلق ناري في وجهها وتنزف بغزاة وتصبح عرضة لأن تفقد إحدى عينيها. وهي تلجأ إلى منزل الأسرة مما يفزع نجمة فزعا شديدا، لكنها رغم ذلك، تقوم بنزع الشظايا التي اخترقت وجهها وعينها، وتقدم لها بعض الإسعافات، فليس من الممكن – كما تقول رضوان- إرسالها إلى المستشفى وإلا اعتقلت. وسيتعين عليها أن تمضي لتواجه مصيرها وحدها في الخارج.
نحن الآن في قلب المأزق السياسي العام في علاقته بالمأزق الشخصي أو العائلي لإيمان وزوجته وابنتيه: لقد أخفوا عليه وجود صدف من الأساس، كما أخفى هو عن ابنتيه طبيعة وظيفته الجديدة وما يقوم به، ولكنه سرعان ما يواجه مشكلة أخرى تهز كيانه وتهدد مستقبله الوظيفي، فهو يكتشف فقدان مسدسه. أين ذهب المسدس وهو الذي تركه في مكان ما “داخل الشقة؟
يأتي أحد أكثر مشاهد الفيلم براعة وتأثيرا بعد اكتشاف ضياع المسدس، فرسولوف الذي كتب سيناريو فيلمه، يعرف كيف يصوغ بمهارة كبيرة، التحول الذي يطرأ على شخصية “إيمان”، وكيف ينمو ويتصاعد شعوره بالبارانويا، ويفيض شعوره بالشك في جميع أفراد عائلته.
وبناء على نصيحة “غدير” زميله في العمل، يتفق مع محقق محترف خبير، معروف بطرقه الخاصة في انتزاع الاعترافات، يدعى “عليرضا” أن يقوم هذا الرجل باستجواب أفراد أسرته الثلاثة: نجمة ورضوان وسناء. ولكنه يطمئنهم من أنه لن يكون هناك تصوير، لكن سيتعين عليهم وضع قناع فوق عيونهم. وفي منزل عليرضا يتم الاستجواب في مشهد مبتكر تماما وجديد على السينما. فالرجل يكتب السؤال في ورقة ويناولها للشخصية التي تجلس أمامه ثم ينهض ويبتعد عنها، وهي لا تراه لأنها معصوبة العينين، لكن بوسعها أن تكتب على الورقة التي يناولها إياها إجابتها عن الأسئلة. لكن هذا الاستجواب الغريب الذي استمده رسولوف من تجربته الشخصية، لا ينتهي إلى شيء. أين ذهب المسدس إذن؟ سيظل هذا السؤال محور الجزء الثالث والأخير من الفيلم.
أصابع الاتهام من طرف إيمان، تتجه نحو ابنته الكبرى، رضوان، الثورية التي تبدو شديدة التضامن مع الطلاب المتظاهرين، وتريد أن تخرج وتنضم إليهم لكن الأم “نجمة” تمنعها كما تمنع شقيقتها من مغادرة الشقة، أما نجمة، فقد بدأت تتجه بشكوكها إلى زوجها نفسه، فلابد أنه وضع المسدس في مكان خارج المنزل. ومع ازدياد التوتر والضغوط، يبدأ الجميع في تبادل الاتهامات: رضوان تتساءل لم لا تكون أمها هي التي أخفت المسدس، كما تشير إلى احتمال أن يكون والدها قد اختلق الأمر برمته، وتكرر براءتها خصوصا أنها وشقيقتها سناء، لم تعرفا أصلا عن وجود المسدس في البيت..
سوف تستبد شكوك إيمان، أكثر بعد أن يبلغه زميله في العمل أن عنوانه تسرب إلى المعارضين الذين نشروه على شبكة الانترنت، وأصبح بالتالي عرضة للانتقام مع أفراد أسرته. وهنا يطالبهم إيمان جميعا بحزم بعض الأمتعة ومغادرة طهران معه فورا، والذهاب الى منزل عائلته القديم المغلق، الواقع في منطقة ريفية جبلية.
من هنا يتغير أسلوب الفيلم، ويدخلنا رسولوف في أجواء الإثارة والتشويق والتوتر، بداية من المطاردة التي تقع على الطريق حيث يتعقبه البعض، ويصورونه، ويشعر هو بالرعب فيسعى للتخلص من مطارديه، ويكاد يشتبك مع أحدهم. وكان قد منح أيضا من زميله في العمل مسدسا بديلا بصفة مؤقتة، ليصبح في الفيلم مسدسان، واحد مختفي، سيظهر لكي يختفي، ثم يعاود الظهور، والمسدس البديل الذي يحمله إيمان.
وفي هذا الجزء الطويل المليء بالالتواءات والاستطرادات، سندخل في قلب عمل أقرب في الصياغة والأسلوب إلى الأفلام الأمريكية خصوصا أفلام الرعب، فالهوس الذي يستبد بإيمان يدفعه أولا إلى التحقيق بنفسه مع كل واحدة من أفراد أسرته الثلاثة باستخدام وتصوير كل منهن بكاميرا فيديو، ومع تصاعد الشك في نفس الرجل يقوم بحبس الثلاثة، كل واحدة في غرفة، ويرفض إطلاق صراحهن، ويصادر هواتفهن المحمولة، وهنا تتيقن الزوجة من بلوغ زوجها مستوى من الجنون، فتفقد ثقتها فيما يفعله وتصبح أقرب إلى ابنتيها فتتعاون معهما من أجل كبح جماحه بعد أن تتمكن سناء من الفرار واطلاق سراح شقيقتها وأمها.
وتبدأ مطاردة بين الجميع في الظلام، خارج المنزل، ويظهر المسدس المفقود، ونصبح أمام لعبة المراهنة على من سيتمكن أولا من الإيقاع بمن. والنهاية ستأتي على نحو رمزي بما يشير إلى أن النظام على وشك أن يشهد نهايته.
رسولوف يدين بطل فيلمه ويعري جبنه وخضوعه الذليل لوظيفته وللنظام الذي صنعه، ويكشف كيف أصبح أداة طيعة، يخالف القانون، ويتغاضى عن القيم الدينية والأخلاقية مقابل حماية منصبه ومصالحه والنظام الذي ينتمي إليه، كما يدين سياسة القمع التي يمارسها النظام ضد معارضيه من طلاب الحرية
يتعمد رسولوف، ربما للمرة الأولى في فيلم إيراني، إظهار النساء الثلاث في الفيلم من دون غطاء الرأس، خصوصا عند وجودهن داخل المنزل، وهو ما يحدث في الواقع، ورغم ذلك ليس مسموحا به في السينما الإيرانية حسب قوانين الرقابة.
وفي مشهد آخر نرى إيمان يقود سيارته أثناء عودته إلى منزله. يتوقف عند إشارة مرور، ويلمح إلى جواره سيارة تقودها امرأة جذابة، عارية الرأس، ذات شعر قصير، تستمع إلى أغانٍ راقصة وموسيقى صاخبة، فيتطلع إليها في غضب لكنها تحق في وجهه في سخرية وتحدٍ، وذلك في إشارة إلى حالة التمرد التي بدأت تتبدى بين النساء في إيران.
“بذرة التين المقدس” قد لا يكون أفضل أفلام محمد رسولوف بسبب انحرافه في اتجاه الإثارة ومحاكاة الفيلم الأمريكي من نوع “ثريللر” على نحو يجعله يخرج عن الموضوع الأساسي، والسعي لتحقيق نهاية ميلودرامية مبالغ فيها كثيرا، إلا أنه يظل، رغم ذلك، عملا شديد الجرأة والشجاعة ووضوح الرؤية، في تصويره القوي المؤثر لكيف يصنع النظام الديكتاتوري وحوشا يفقدها مشاعرها الطبيعية وقيمها الأخلاقية، لا تتورع عن الفتك بأقرب الناس إليها.
ومن المؤكد أن من أهم عناصر الفيلم، ذلك الأداء المؤثر الواثق من جانب مجموعة الممثلين جميعا: ميساغ زاره في دور إيمان، وسهيلة غولستاني في دور نجمة، ومهسا روستامي في دور رضوان، وسيتاره مالكي في دور سناء، الذين بدوا جميعا متماثلين تماما مع أدوارهم، يؤدونها عن قناعة وحماسة، لقناعتهم بالفيلم نفسه وبموضوعه، وباعتبارهم أيضا جزءا من حركة المعارضة.
في المؤتمر الصحفي، صرح رسولوف بأن الممثلة سهيلة غولستاني (التي قامت بدور الزوجة نجمة) والمعروفة بمشاركتها في المظاهرات المناهضة للنظام وسبق اعتقالها وسجنها، وزميلها الممثل ميساغ زاره (الذي قام بدور إيمان)، لم يتمكنا من مغادرة إيران وحضور عرض الفيلم في مهرجان كان. وقد رفع هو صورتي الاثنين لتذكير العالم بما يمكن أن يتعرضا له هناك الآن.