“بحب السيما” مبادرة لإحياء السينما المصرية تثير الجدل والتخوفات
يواجه مشروع جديد لإحياء صناعة السينما بمصر مأزق غياب أوراق السيناريو الجيدة، وإملاءات الفنانين الكبار، واشتراطات دور العرض، رغم تماشيه مع توجهات سياسية باستغلال السينما كوسيلة للتغيير في المجتمع، والتركيز على فئات مجتمعية بعينها كالمرأة المعيلة وذوي الاحتياجات الخاصة، وعاد الحديث عن المبادرة أخيرا ليعيد الجدل بين صناع السينما.
تعاني السينما المصرية من تراجع حاد على مستوى الكم والكيف بتقلص ملحوظ لأعداد الأعمال المعروضة سنويا وضعف مستواها من الناحية الفنية وانحصارها في أفكار بعينها، ما دفع البعض من السينمائيين إلى إطلاق مبادرة تهدف إلى إنتاج 12 فيلما سنويا موجهة في الأساس للجمهور خارج العاصمة القاهرة.
واستوحى القائمون على المبادرة شعارها “بحب السيما” (أحب السينما) من فيلم يحمل العنوان ذاته للفنانين محمود حميدة وليلي علوي، أنتج منذ حوالي 15 عاما، عن رجل مسيحي متزمت يعادي الفن، ويعاقب ابنه الصغير على تعلقه بعالم السينما، في رسالة على أن الفن ليس عيبا، وأنه يحمل في أحشائه ما يؤهله لمواجهة التشدد حال ضبط بوصلته.
وفقا لغرفة صناعة السينما في اتحاد الصناعات المصرية، فإن حجم إنتاج الأفلام السنوية يشهد تراجعا على مدار السنوات الأخيرة، فإجمالي ما أنتج العام الماضي لم يتجاوز 37 فيلما، مقابل 42 في العام السابق له، و55 لعامي 2014 و2016 و45 في 2015.
ويسعي القائمون على المبادرة لاستحداث ألفي قاعة عرض وشاشة بالمدن والقرى على مراحل زمنية، وتحدثوا عن مسايرتهم لتوجه سياسي عام للدولة هدفه تطوير المنتج الفني، واستغلاله في دعم النشاط الاقتصادي، بتقديم صور ذهنية إيجابية عن المقاصد السياحية، والبعد عن صور العشوائيات التي سيطرت على السينما طوال السنوات الماضية.
مشروع تجاري
تبدو المبادرة مشروعا تجاريا مرحبا به، فتركيزها على الأماكن المحرومة من دور العرض السينمائي وبأسعار رمزية لن تتجاوز 30 سنتا، قد يشجع شرائح كبيرة على شراء التذاكر، ولو على سبيل خوض تجربة المشاهدة داخل دار عرض، ويعطي القائمون عليها فرصة لإنتاج المزيد من الأعمال بميزانيات أعلى في المستقبل.
وأعلن بعض العاملين في صناعة السينما دعمهم لـ”بحب السيما” فور تدشينها مؤخرا، مثل المخرج عادل الأعصر، والسيناريست الشاب فتحي الجندي، والموسيقار ضياء خيرالله، لكن يغلب على الداعمين ابتعادهم عن الساحة السينمائية منذ سنوات، ما يجعلها بوابة العودة للمطرودين من جنة الإنتاج الخاص.
ويقول المخرج سامح مصطفى، صاحب المبادرة، إنها تعود إلى أربعة سنوات، لكن لم تدخل حيز التفعيل إلاّ أخيرا بهدف إنتاج أفلام سينمائية ذات جودة عالية وتتسم بالمتعة بعيدا عن التنظير والمحاضرات، وتصلح للمشاركة في المهرجانات، ومن بين العديد من سيناريوهات الأفلام التي تلقاها سيتم المفاضلة بينها لاختيار ثلاثة من لتنفيذها.
ويشير الناقد أحمد سعدالدين، إلى أن “بحب السيما” مثيرة للاستغراب في ظل حديثها عن إنتاج 12 عملا سينمائيا سنويا تعادل ثلث إنتاج العام الماضي، وفي وقت لا توجد حالة من الرواج داخل دور العرض على مستوى الأعمال أو مستويات المشاهدة من الجمهور.
ولا تلقى المبادرة ترحيبا كبيرا بين الصف الأول للفنانين الذين يجنون أرباحا أكبر بالتعاون مع القطاع الخاص وتتعدى قائمة أجر الواحد منهم إجمالي إنتاج الأعمال السنوية المستهدفة من المبادرة بالكامل، ما يجعلها مناسبة أكبر للصف الثاني والبعيدين عن الكاميرا منذ سنوات.
ما يثير مخاوف الفنانين الكبار غموض التمويل وانضمام مؤسسات اجتماعية إليها، ورفعها شعارات عريضة عن مشروع سينمائي قومي لبناء الشخصية الوطنية، ما قد يعني اضطرارهم للتخلي عن جزء من أجورهم وهي مغامرة غير مضمونة.
وأوضح سعد الدين، لـ”العرب”، أن المبادرة لم توضح كيفية تمويل العدد الضخم من الأفلام وأسس تحديد ميزانياتها، وربما لن تتعدى أحلام يقظة جميلة للقائمين عليها ولن تجد طريقها إلى أرض الواقع، علاوة على عدم استعانتها بمتخصصين أو قامات سينمائية شهيرة.
وأضاف أن المنضمين إليها حتى الآن معظمهم غابوا عن السينما سنوات طويلة، فالمخرج عادل الأعصر لم ينافس بفيلم سينمائي منذ 15 عاما، وسامح مصطفى صاحب المبادرة ذاته أعماله قليلة ومرتبطة بالدراما وبرامج فنية أكثر، والفارق بين الدراما والسينما كبير على مستوى دورة الإنتاج والصناعة والتسويق والجمهور.
وما يزيد من حالة الاستغراب إزاء المبادرة دخول أعضاء إليها بعيدين تماما عن عالم السينما، مثل اللواء تامر الشهاوي، رئيس مؤسسة لتنمية المجتمع وعضو مجلس النواب، والذي أصدر عدة بيانات أكد فيها أن هدف المبادرة الأساسي الترويج لقيم وأخلاقيات إيجابية بين جميع المستويات والطبقات.
ووجه القائمون على المبادرة انتقادات لتحوّل صورة البطل الشعبي أو “شجيع السيما” خلال السنوات العشر الأخيرة من صورة النبيل الوسيم المدافع عن الحق بالقانون إلى “البلطجي” وتاجر المخدرات الذي يمارس قانونه الخاص، وانتشار أفلام أجنبية رديئة بين الشباب الصغار تشجع على التطرف والتحرش والعلاقات المحرمة.
أزمات قبل التدشين
تواجه المبادرة أزمات قبل تدشينها رسميا بعدما استغل مدير أحد المراكز البحثية فكرتها، وحاول جني مكاسب من ورائها تبتعد عن عالم الفن، بمطالبة جهات محلية بمنحه أراض مجانية لبناء دور عرض عليها، وعرضّها لقصف إعلامي كبير قبل أن يتم إطلاقها مجددا عبر ملاك الفكرة الأصليين وبدعم من نقابة المهن السينمائية.
وتصطدم المبادرة أيضا بتحفظات كبار الممثلين الذين شكّكوا في إمكانية تنفيذها، ما دفع سامح مصطفى للتأكيد على استهدافها الفنانين الوطنيين والشباب من خريجي أكاديميات ومعاهد الفنون الذين لديهم إطلاع واسع على السينما العالمي، وتبني المواهب الشابة في الأقاليم والمحافظات المختلفة واستيعاب أفكارهم وإبداعاتهم وإعادة توجيه طاقاتهم وأفكارهم.
وحاول صناع “بحب السيما” جذب دعم مالي لمؤسسات اقتصادية عملاقة لمنحهم شرعية أكبر بين الوسط الفني، فوقعوا بروتوكول تعاون مع شركة عالمية عملاقة لإنتاج المياه الغازية لدعم وتنشيط صناعة السينما ضمن مشروعات المسؤولية الاجتماعية للشركات التي تخصص مبالغ سنوية لأنشطة خيرية أو لأهداف تتعلق بتنمية الفرد والمجتمعات الفقيرة.
وتقوم “بحب السيما” بدور شبيه بوزارة الإرشاد القومي في الحقبة الناصرية بمصر بسعيها للوصول إلى أعمال ثقافية سينمائية في الوقت ذاته، وتركيزها على السينما كإحدى القوى الناعمة لتغيير سلوكيات بعينها في المجتمع المصري وتقليص عرض النماذج والأفكار والرؤى السلبية داخله.
وتتماشي المبادرة مع توجهات الحكومة بإعلانها عن ثلاثة أهداف أساسية لتحقيقها تتعلق بالتركيز على موضوعات الشباب ومتطلباتهم من أجل حياة كريمة، والمرأة ودورها المجتمعي والاقتصادي، وذوي الاحتياجات الخاصة والعمل على تمكينهم ودمجهم في النشاط الاقتصادي، كما حددت جنوب مصر كمرحلة أولى لنشر الأعمال السينمائية داخلها، لكنها ستواجه عقبات في ظل عدم امتلاك المدن الكبرى هناك دور سينما واختيارات الجمهور التي تتطلب موضوعات بعينها تتماشي مع طابعه.
ويقول البعض من النقاد إن الحكومة ربما تدعم المبادرات المتعلقة باستغلال السينما كأحد عناصر بناء الشخصية المصرية، لكنها وحدها لن تكون كفيلة في إصلاح ما أفسده الدهر، فدورها مكمل للتعليم والنشأة والبيئة الاجتماعية، علاوة على ضرورة جذب المشاهير إلى تلك المبادرات لمنحها الأعمال الصادرة عنها زخما بين الجمهور. ويعد التراجع الكبير في أعداد دور العرض مشكلة كبيرة أمام محاولات إنعاش الإنتاج السينمائي مع هدم عشرات من دور السينما التاريخية التي لا تتجاوز حاليا مائة دار عرض، لكن البعض يراهن على شاشات الأسواق (المولات) التجارية الضخمة التي تصل إلى 280 شاشة، وهي موجهة لطبقة اجتماعية معينة.
وتفضل غالبية دور السينما عرض أفلام للصف الأول من النجوم لضمان جذب الجمهور ولا تقبل رهانات على الأسماء الجديدة، حتى لو كان العمل يتضمن معايير المنافسة العالمية، وآخرها فيلم “يوم الدين” للمخرج أبوبكر شوقي الذي حقق حضورا لافتا في مهرجان كان الفرنسي، ولم تتحمس لعرضه الكثير من دور السينما.
لم تجتذب “بحب السيما” حتى الآن سوى البعض من صناع الدراما، وليس السينما ذاتها، في مفارقة غريبة، في ظل الاختلافات الكبيرة بين الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في توظيف التقنيات الإخراجية ونوعيات الجمهور.