“باولو سورينتينو” الفليسوف الذي غزا السينما بالشعر

Print Friendly, PDF & Email

خالد عبد العزيز

في نابولي وفي بداية السبعينيات ومنتصف فترة “سنوات الرصاص” الموسومة بالإغتيالات وعمليات القتل والأوضاع السياسية المضطربة، ولد المخرج وكاتب السيناريو الإيطالي “باولو سورينتينو” في فترة حرجة ألقت بظلالها بطريقة أو بأخرى، ليس على حياته فقط، بل على أفكاره ومن ثم أفلامه فيما بعد، فلاشك أن التأثير المكاني يُلقي بظلاله على حياة الفنان، فهو ينتمي إليه ويسعى إلي التعبير عنه بأشكال متعددة، بالحب، بالرفض، أو بالحنين، وعلى وزن المقولة الشهيرة “قل لي ماذا قرأت؟ أقل لك من أنت”، يمكن التساؤل: “قل لي من أين أتيت؟ أقل لك من أنت”!

ساهمت الطبيعة المكانية لنابولي المطلة على البحر المتوسط، في تكوين “سورينتينو”، فهي مدينة ساحلية تمتلئ بالمباني الأثرية، والأزقة والشوارع الضيقة، لاتزال تحوي بداخلها رائحة جمال انسكب في الماضي، وعبقه يفوح في الأجواء، ومن ثم غلفت أفلامه بمذاق حسي لا تُخطئه العين، وإن كان لا يخلو من لمسة شجية.

يُمكن القول إن سينما “سورينتينو” ترتكز على عدة محاور، يستند عليها في مشواره السينمائي، وكلما امتد هذا الخيط، كلما برزت أكثر فأكثر سمات ومعالم واضحة، تنتمي إليه وإلي أفكاره، يُقدمها وفق أسلوبه، سواء مُبطنة داخل نسيج الفيلم، أو واضحة وصريحة وتطغى بصوتها الصاخب.

في كل الأحوال تظل قدرة سورينتينو على التعبير عن هذه الأفكار، وفق أسلوبه الجذاب الشاعري، هي السمة الأبرز، والتي تستحق الوقوف أمامها، سعياً للتذوق المتمهل.

 نابولي.. سطوة المكان

يقول الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” “ليس المكان مساحة فحسب، إنه حالة نفسية أيضاً، ولا الشجر شجر، إنه أضلاع الطفولة”، فالتأثير الكامن في الطفولة وأماكنها لدى “سورنتينو” طاغية بدرجة كبيرة، اختيارة لأماكن أو ماضي شخصيات وأحداث أفلامه دائما ما تنبع من المكان نفسه، وهنا تبرز سطوة “نابولي”، والبطل إما أن حياته تقع بين شوارعها، مثل “توني بيسابيا” بطل فيلم “رجل إضافي” أو One Man Up  من عام 2001، أو قضى نشأته في نابولي وإنطلق إلي روما مثل “جاب جامبيرلا” في فيلم “الجمال العظيم” أو The Great Beauty من عام 2013، وهو الفيلم الحائز على أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية.

قضى “سورينتينو” وقتاً ليس بالهينٍ في “نابولي” ولايزال ولاؤه نحوها قائما، وباعثا على الدهشة، فالرؤية للمدينة ذاتها تختلف من فيلم لأخر، تبعاً لإختلاف الشخصيات أو الطرح الفكري الممزوج في نسيج الفيلم، فهو يراها مدينة الأضداد بامتياز، قديسة وعاهرة في الوقت نفسه، تحوي صخب الحياة الليلية وهدوء الصباحات المشرقة، هكذا تلتقط الكامير نابولي، ومع كل التقاطة، نراها بزاوية مغايرة عن الأخرى.

أقصى اليسار قليلاً

تُمثل الإنتماءات السياسية ملمحاً هاماً لدى “باولو سورينتينو”، وإن كان لا يفصح عنها كثيراً في أفلامه، إلا على لسان الشخصيات المتناثرة في بعض هذه الأفلام، الصراع السياسي بين اليمين واليسار في إيطاليا تغذى على سنوات من عمر الجمهورية الإيطالية، بالتأكيد صراع مثل هذا لا يعبر بهدوء عند “سورينتينو”، وحينها يُمكن النفاذ إلي هويته وإنتمائه السياسي.

تأثير النشأة على رؤيته السياسة كبير بلا شك، الجنوب الإيطالي وإنحيازه لليسار واضح جلي، وقد ورث “باولو” هذا الإنحياز، ومن ثم تولدت لديه نزعة سياسية واضحة، ففي فيلم “الديفو” IL Divo إنتاج عام 2008، يُسلط الضوء على الصراع بين اليسار واليمين من خلال شخصية رئيس الوزراء الإيطالي الشهير “أندريوتي”، ويكشف الفيلم عن مناورات اليمين من اجل الاحتفاظ بالسلطة لأكبر وقت ممكن، في مقابل تمرد القوى والأحزاب اليسارية من أجل تحقيق مصالح الشعب، حسب رؤيتهم السياسية.

وتتبلور هذه الرؤية وتتحول إلي هجاء وسخرية واضحة في فيلم “لورو”Loro  (2018)، حيث يتناول شخصية رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق “سيلفيو بيرلسكوني”، وكيف يراه “سورينتينو” من واقع فضائحة الشخصية والسياسية.

غابات النفس المتشابكة

تُقدم أفلام “سورينتينو” تشريحاً هائلاً لما يدور في أعماق النفس الإنسانية، من صراعات داخلية وموائمات، قد تدفع الإنسان أحياناً إلى فعل ما لا يحلو له، أو السقوط في بئرٍ سحيق من الأخطاء، تلك الرؤية ليست نابعة من محل إدانة، بل تعاطف شديد مع هذه الشخصيات، التي وإن كانت في أوج قوتها، فإن سقوطها نتيجة ضعفها هذا، يجعلها في موضع رثاء.

في أول أفلامه “رجل إضافي” يُقدم “سورينتينو” قصة مغني ولاعب كرة، كل منهما نال من الشهرة ما يستحق وأكثر، وفي لحظة ما يسقط كل منهما، ويتزحزح عن مكانه، وحينها تُصبح شخصياتهما الواقعية أمام أنفسهما، وكأنهما يشاهدان وجوههما في المرآة للمرة الأولى.

وفي فيلم “صديق العائلة” The Family Friend (2006)، تأخذ حياة “جيرميا” المرابي المُسن، منحى مغايراً عن المألوف، حينما يفقد أمواله، ويكتشف نفسه الموسومة بقلة الحيلة والضعف الإنساني، فأغلب شخصيات “سورينتينو” تُبرز رؤيته للإنسان في أحلك اللحظات الموسومة بالضعف الإنساني.

وبالتالي لا يسعنا سوى التعاطف مع هذه الشخصيات، وتلك تيمة مقصودة تماماً في رؤية سورينتينو، يجعلك تتماس مع البطل في تحوله المضاد من بطل إلى نقيض البطل Anti-Hero، أو الإنسان في ضعفه، فالتحول من الناحية الأقوى نحو الأضعف، وتبدل الحال، يشكل عصباً أساسياً في رسم “سورينتينو” لأبطاله وشخصياته، بما يخلق نسيجاً درامياً متماسكاً، يحوي من نقاط الحبكة ما يساهم في دفع عجلة السرد نحو الذروات المنتظرة والمحتملة.

العيش على الحافة

يقول “باولو سورينتينو” “الوحدة والحزن هما صفتان خاصتان بي، أميل لوضعهما في شخصياتي”، ومن هذا المنطلق يُمكن الكشف بسهولة عن سر هذه الشخصيات الفردانية الموعودة بالوحدة، وكأنه قدر مصيري لا فكاك منه، فأغلب الشخصيات، رغم إحاطتها بقدر كبير من الصحبة، إلا أنها تُعاني من وحدة داخلية، لا تُبددها تلك الأعداد المزيفة من الأصدقاء، فكل منهم صاحب أو رفيق، لكنه لا يرقى لدرجة صداقة الروح او الإقتراب من المنطقة الخاصة، وإن اقترب، يكون اقتراب محفوف بضيق الوقت، فالمؤقت هو الغالب على الدائم.

“تيتا دي جيرالمو” المستشار المالي للمافيا الإيطالية، في فيلم “عواقب الحب” أو The Consequence Of Love (2004)، يُقيم في فندق لا يٌغادره أبداً منذ سنوات، ويبتعد عن أي وسيلة تواصل، كذلك “جيرميا” في فيلم “صديق العائلة”، كل منهما يُملك أسبابه للوحدة، فالإحساس بالوحدة يُصاحبه إحساساً موازياً بالغربة، سواء كانت تلك الغربة وثيقة الصلة برفض هذا العالم، أو عدم التوائم والإنسجام مع معطياته، وبالتالي بدت أماكن الشخصيات هي الأخرى مُعبرة عن هذا الإغتراب الوجودي، العيش على الحافة، وكأن هذه الشخصيات تقيم على حدود العالم، بما يسمح لها بمجال رؤية أوسع وأشمل، بعد أن تركت الدائرة وابتعدت عن المركز.

أزمنة متضادة

SET DEL FILM “IL DIVO” DI PAOLO SORRENTINO. NELLA FOTO TONI SERVILLO. FOTO DI GIANNI FIORITO

تبدو تيمة الإنشغال بالزمن وتعاقبه، أساسية في أفلام “سورينتينو”، يكاد لا يمر فيلم بدون التطرق إليها، ليس فقط مرور الزمن وتأمل أثره بعد الإيغال في العمر، بل البحث في حالة التضاد بين الماضي والحاضر، بين الكبر والصغر، تلك الحالة تشغل حيزاً لا بأس به من فكر مخرجنا، وبالتالي تتكرر كثيراً في أفلامه، يُعبر عنها بحيل درامية مُتعددة، لكنها لا تخرج عن وقوع رجل على أعتاب الكبر في فتنة امرأة جذابة وفي مقتبل العمر، وكأنه يعقد مقارنة تأملية بين الذهاب في العمر، والإياب بعد الوصول إلي نقطة اللا عودة، ومن ثم تقع الشخصيات في حيرة من أمرها، تدفعها إلى ارتكاب حماقات، بحثاً عن عمر ضائع.

تلك المعادلة تتضح بجلاء في فيلم “صديق العائلة”. الفتاة الشابة تجعل المرابي المُسن يفقد عقله أمامها، كما تبرز أيضاً في فيلم “شباب” Youth، فطوال الفيلم نرى حالة التضاد بين الأزمنة، الزمن وصل بمرتادي المشفى الصحي نحو الذروة، في مقابل إنطلاق وحيوية النساء.

إشارات ودلالات

لكل مخرج عالمه الأثير الذي لا يخرج عن إطاره، والذي يحوي بداخله سمات لا تُخطؤها عين المتفرج، قد تتكرر تلك الإشارات بصور مختلفة ومن فيلم لأخر، لكن آثارها تظل ملموسة وواضحة.

فحينما بدأ “سورينتينو” التعرف على عالم السينما الواسع، كان “فيلليني” لايزال على قيد الحياة، ومن ثم أثر بشكل أو بأخر على تكوين سورينتينو الطفل، ويمتد هذا التأثير على نحو أكثر وضوحاً في أفلام “سورينتينو” التي تبدو وكأنها معارضة فنية لأفلام “فيلليني” مثل فيلم “الجمال العظيم” الذي يتشابه بدرجة كبيرة مع فيلم “الحياة اللذيذة” لفيلليني، ومثلما أنجز فيلليني فيلمه “ثمانية ونصف” كنوع من السيرة الذاتية، قدم “سورينتينو” فيلمه “يد الله” الذي يحوي قبسات من الذاكرة.

يقول سورينتينو عن الإخراج “عادة ما أتبني أسلوباً معيناً، أحرك الكاميرا لأنني أبحث عن الحقيقة”، وتلك المقولة تُعبر بجلاء عن سينما “سورينتينو” البحث عن الحقيقة في هذه الحياة، والباحث عن الجمال والسعي لتذوقه وإدراك مغزاه، وهذا ما يولد التناغم الشعري في البناء والرؤية، التي تنتقل تلقائياً للمتلقي بأسلوب وبصمة مخرج يدرك جيداً، كيف يُحرك الكامن في ذواتنا.

رابط فيديو” الجمال العظيم

Visited 1 times, 1 visit(s) today