الوحدة والجنس.. قراءة جديدة لفيلم “حياة أديل”
الحُب السحري المُتجرد بالكاد يمكن الوثوق في وجوده الآن، مع تطور الأفكار الفلسفية التي لم تعد تؤمن بوجود إله، وتسيُّد المادية على كل التفاصيل، ثمة اعتراف برغبة الجسد، وحاجاته النفسيّة، لكن الحُب… الحُب ربما يكون كما يقول آلان باديو الفيسلوف الفرنسي، فكرة يحتاجها الفرد، كي يستكمل المُضي في حياته التي ستسير مع الحُب إلى معنى ما، بينما يمكن أن تسير في غيابه إلى عدم كُلي.
فيلم “حياة أديل” La vie d’Adele أو “الأزرق أكثر الألوان دفئًا” للمخرج التونسي الفرنسي عبد اللطيف كشيش- حصل على السعفة الذهبية في الدورة 66 من مهرجان كان السينمائي ، يتأمل كثيرًا هذا المعنى. صحيح أن دعاية الفيلم ربما تضمنت عبارات لنُقاد يرون في الفيلم “أعظم قصة حب سينمائية في القرن الحادي والعشرين”، إلا أن الحُب الذي يتم الإخبار عنه هُنا، يُشير إلى التناغم الجسدي أصلًا بين البطلتين أديل وإيما، التُناغم الذي يُسرَد من جانب أديل، كبديل عن الوحدة التي انغمرت فيها منذ البداية وهي في المدرسة، وتخففت مع حضور إيما في حياتها، ثم تعود أشباح الوحدة هذه مجددًا مع الضجر الذي سيُصيب إيما في العلاقة، لتعود الوحدة كاملة مرّة أخرى مع انسحاب إيما التامّ بعد خيانة أديل العابرة والمُرتبِكة.
إن الوحدة التي تعيشها أديل منذ بداية الفيلم (الأداء الحارّ للممثلتين أديل شوبولوس في دور أديل، وليا سيدو في دور إيما سيجعلنا نصدقهما تمامًا)، هي وحدة ليس لها علاقة بغياب أسرة تحبها. إننا يمكن أن نشاهد أديل مع أمها وأبيها يأكلان ويشاهدان التلفاز، في مشاهد طويلة نسبيًا- كما هو حال الفيلم كله. أديل أيضًا لديها صديقات عديدات وصديق مُقرّب كانت حتى النصف الأول من الفيلم، تحكي له عن أزماتها مع الشُبان الذين تُجرِّب الجنس معهم ولا يُرضيها، كانت تُخبر هذا الصديق كُل شيء، وهو يُنصت لها، ويواسيها.
وحدة وجودية
إنها الوحدة الوجودية التي ليست لها أسباب مُباشرة، وحدة لا يداويها إلا الجنس، الجنس كأعمق وسيلة للتواصل بالجسد مع شريك آخر، دون السقوط في تسطيح الكلام ولا فخاخ سوء التعبير، هُنا لا يُصبح كلام الحب حاضرًا- كلمة أحبك لم تُذكر في الفيلم سوى مرة أو مرتين- إيما لم تكن وحيدة على هذا النحو الذي عاشته أديل، على الأقل كما يُخبرنا السرد الذي يُركز على جانب أديل، هي لها حبيبة من قبل أديل، ثم أخرى من بعد هجران أديل ولو أنها تُخبر أديل أن تناغمها الجنسي مع الحبيبة الجديدة ليس كما كان مع بطلتنا.
وإيما فنانة تشكيلية تجد معنى ما في الرسم، وفي اختياراتها الجماليّة المُغايرة عن الآخرين كلون شعّرها الأزرق الذي سيكون عابرًا أيضًا، كما ينبغي لفنانة تشعرُ بالضجر من كُل شيء ومن أي شيء.
أديل فنانة بمعنى ما، كانت تُحب الأدب وقد درسته، لكنها حين كان ينبغي أن تختار وظيفة حياتها، اختارت أن تُصبح مُعلمة أطفال، وظيفة مُستقرة بدوامات ثابتة، كما لفتاة تقليدية، رغم أن أديل تكتب، تمارس تدوين يوميّاتها، لكنها لا تُفكر أبدًا، كما ستُخبر حين ستُسأل، أن تُظهِر هذه الكتابات للعلن.
ربما تصبح الفنانة إيما هي الانحياز الجماليّ للمخرج عبد اللطيف كشيش، هي فنانة أولًا وهو يُريد أن يُحيّي الفن الذي ينتمي إليه شخصيًا بالسينما، ويشعر إنه معنى مستقل، وإنه وسيلة مُعتبَرة للاستمرار في الحياة، كما أن إيما أيضًا تُمثل لا الفن فحسب، إنما الفن المُغاير/ المُختلف أو الشاذ أحيانًا، هذا الذي لن يحصل على إقبال جماهيري يُشبه نجاح الفنانين الآخرين، وسيُثير التساؤلات حول حياة الفنان نفسه، لكنه يمتلك عُمق، يمتلك الشغف والحُرقة الذي سيجعله مميزًا جدًا (لوحات إيما ترسم حبيباتها عاريات في أوضاع مُتعددة بينما أعينهن تتحدث بكلام يحتاج إلى كثير من التفسير).
مدلول مختلف للأزرق
كشيش من خلال اختياراته اللونية على شريط الفيلم؛ لونه الأزرق الذي يُسيطر على الشاشة ومن خلال ألوان أظافر الفتيات في المدرسة وثيابهن، يسعى لتحويل الأزرق من مدلوله البارد، إلى مدلول شهواني ملتهب لا يُبقي على شيء “إما الكُل أو لا شيء” كما تقول إيما، المدلول الذي سيصل عبر الإغراق الكامل وغير المُتردد ولا المُستحي في المشاهد الطويلة والمُفصلّة للعلاقة المثليّة بين الفتاتين، بحيث يُصبح الجنس هُنا هو امتداد لخيار كشيش الجماليّ المُختلف والمُعبِر بقوة عن ذلك.
الشمس ستخرج من بين شفتيّ أديل وإيما في قُبلاتهما النهمِة في بداية العلاقة من خلال كادر ساطع، وفي مشاهد الجنس بينهما، ستُعيد اكشتاف أديل، لن أقول ميولها الجنسيّة – أديل اشتهتْ إيما منذ اللحظة الأولى– لكن أيضًا الأشياء التي كانت دائمًا ناقصة في علاقتها الجسدية مع الرجل مثلما حدث مع علي، ربما يكون لجوء أديل للفتيات ابنًا للوحدة في كادر ما، لم تجد لُغة مُشتركة مع علي، لم تكن تفهم جده من هزله، ولم تُحقق من بعد إيما علاقة كاملة مع رجل… أليست هذه هي الوحدة أيضًا؟
كشيش الذي يُدخِل بعض أسماء ونغمات عربيّة إلى شريطه السينمائي، لا يبدو لي مدفوعًا للدفاع عن قضية المثليين، ولا لحشد مشاهد بورنو في فيلمه، إنه يُعبِر عن الوحدة وترادفاتها العديدة في حياة إيما، وهي وحدة مُقبِضة تجعل الانطباع العام بعد مشاهدة الفيلم إنه مُثير للكآبة أكثر من كونه يُعبِر عن قصة حُب لن تستمر بين الحبيبتين، في النهاية ستجد أديل نفسها تسير طريقها عائدةً إلى بيتها القريب من معرض إيما، والأخيرة صارت الآن مع حبيبتها ليز، لا أحد يسألْ عن إيما، والوحيد الذي يتفقدْ غيابها لن يهرول خلفها، إن أديل وحيدة تمامًا.
* كاتبة وأديبة من مصر