الواقعية الجديدة في السينما العراقية
من سعيد أفندي والمحلة البغدادية الى الجابي وعالم الباص الزاخر
علي الياسري
تبدو أنسنة اللحظة الدرامية وشخوصها سمة غالبة على مقاربات الواقعية الجديدة في السينما العراقية. فهي ضرورة بحكم الكثير من المتغيرات السوسيولوجية المتسارعة والتي تحكمت بمسار حياة الشعب طيلة القرن العشرين وما بعده لتنعكس على الشاشة الكبيرة وفق نمط يقدم نفسه كصورة فنية مُبسطة من ناحية الشكل والمضمون لممارسات إثنوغرافية تُطرح من خلالها العلاقة بين الانساق الحضارية السلوكية والظواهر الثقافية – سواء بالممارسة او التفاعلات- لطبقات الشكل المجتمعي لأجلاء طبيعة العيش والوعي ومدى نمو سمات المدنية.
جاءت الواقعية الجديدة في السينما الايطالية بواسطة الحراك الثقافي لمجموعة ممن كتبوا في ثقافة الصورة قبل التحول الى الإخراج، وذلك مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بعد البواكير التي تولدت أثناءها بسمات مثلت نبراسًا يُسهل على الأمم الناشئة في بقية انحاء العالم صناعة سينما تعبر عن واقعها الاجتماعي والحياتي بمختلف تجلياته السياسية والاقتصادية والثقافية.
بهذا المعنى، امتلك المبدعون في تلك الأمم الأخرى الحس التسجيلي بالخروج الى الشارع والتقاط المظاهر التكوينية للأمكنة ورصد تفاصيل وجود البشر العاديين من الطبقات الفقيرة وسعيهم لتحصيل قوت عيشهم في ظروف صعبة يتداخل فيها المظهر المادي بالمنحى الاخلاقي.
ولا يحتاج السرد في هذه الأفلام بالضرورة الى حبكة ودوافع للشخوص، الأمر الذي يتلاءم مع ضعف امكانات السينمات الناشئة للدول النامية بكتابة سيناريوهات متماسكة وتحظى بغايات درامية بينة.
هكذا تولد منها أفلام هدفها الأساسي تصوير تدفق الحياة لبشر عاديين يعيشون قرب الحلم، ويقاتلون حظوظهم من أجل الوصول اليه. فالواقعية هي تصور سينمائي فني لعالم يبدو أكثر أهمية على الشاشة مما هو فعلي ومعتاد، يجمعها روح الفكاهة النقية والحس بالكوميديا المرتبط بالموقف والمنبثق من دراما العيش اليومية وصراع الحياة الروتينية.
اظهرت الواقعية الايطالية الجديدة نبرة جاذبة خففت من تراجيديا ثقيلة اتسمت بها البدايات ليختلف ذلك بأفلام مثل “رائعة الجمال” للمخرج لوكينو فيسكونتي، وفيلم “أومبرتو دي” للمخرج فيتوريو دي سيكا، اللذان كانا يبحثان فيها عن الابتسامة الدافئة رغم التعاسة مع تسليط الضوء على مسارات العاطفة النقية بمظاهر مختلفة منها على سبيل الاشارة للعلاقة بين الام وبنتها، أو بين الحيوان والانسان ليبرز أمامنا انعكاسها الرمزي كمساند روحي يكسر العزلة القاسية في لحظة الانحطاط بسبب تبدل الظروف.
الواقعية ملاذ الحلم السينمائي العراقي
مثل الحراك الحضاري في عقد الخمسينيات نقلة مهمة في تاريخ السينما العراقية التي وجدت في طموحات وحماس عدد من الشباب العاملين بالوسط الفني متنفسا جديدا لتنمو بشيء مختلف من التوجه والأسلوب السينمائي.
كان “كاميران حسني” العائد من دراسة السينما في أمريكا، تواقًا لإحداث تغيير حقيقي، فبدأ بإصدار مجلة السينما التي كتب فيها أبرز الشخصيات الفنية العراقية بذلك الوقت، ثم ليتوجه لاحقًا نحو الانتاج والاخراج السينمائي مُقدمًا فيلم “سعيد أفندي” (1957) الذي مثل نهجا جديدا ينهل من الواقعية الجديدة الايطالية. اختيار كان له ظروفه الانتاجية والاجتماعية المُعززة لفرص نجاحه بتقديم افلام تمتلك رؤية سينمائية تتمعن بالواقع المعاصر لحياة العراقيين وتتناول القضايا والتحديات التي يواجهونها من خلال الغوص بحيثيات العيش اليومية.
كان النسق الدرامي الجديد يعتمد على استظهار الصراع مع تقاطع وتنوع القصص لتجذب الانظار بسرد تناقضاتها الحياتية وتداخل مسارات الحياة لطبقات المجتمع المختلفة مع منح الطبقات الفقيرة والمتوسطة مساحة أوسع لتكامل صورتها على الشاشة.
هذا الشكل الجديد يولي أهمية أكبر للتمثيل الواقعي والطبيعي كضرورة لتحقيق المصداقية والألفة مع المتلقي وأيضا يسهل مهمة المخرج الذي قد لا تتوفر له قدرات تمثيلية محترفة متخصصة، فيلجأ الى العفوية والتلقائية للشخص العادي وبالتالي تحقيق أقصى اقتراب من ملامسة الواقع في خضم صراع العيش.
كان اختيار نهج الواقعية الجديدة حلًا انتاجيًا مثاليًا يتخلص فيه الصانع العراقي من تحديات الميزانية وضعف التمويل وأجور الاستوديوهات المكلفة بالذهاب الى التصوير الخارجي، كما أنه يقدم حلولًا درامية ناجعة بترابط الوحدة الموضوعية للزمان والمكان، وفاعلية ذلك بالأسلوب البصري الذي يعتمد الانفتاح على زاوية النظر الطبيعية للإنسان لإنجاز المصداقية المطلوبة وتفعيل انسجام اكبر للمشاهد مع الشخصيات ومشاكلها وتعقيدات واقعها المروي.
جاء “سعيد افندي” في العام 1957 ليحقق نجاحًا باهرًا في صالات العرض بعد ان استحضر على الشاشة البيضاء الكبيرة تفاصيل الحياة في المحلة الشعبية للمجتمع البغدادي العراقي اواسط الخمسينيات من القرن الماضي طارحًا طبيعة العلاقات الانسانية وتكويناتها في تلك المنازل المتلاصقة، ومُعبرًا بشكل مميز عن خصوصيات النسيج الانساني وتجاذباته الطبقية من حيث تشابك رؤاه الفردية رغم اختلاف التوجهات والتركيبة الشخصية طبقًا لوعيها ومستوى ثقافتها ووضعها الاقتصادي وادراكها وفهمها للغة خطاب الاخر.
على ذات النهج الاسلوبي لمميزات الواقعية الجديدة يقترب فيلم “قطار الساعة 7” للمخرج حكمت لبيب أواديس الذي أنتج في العام 1962 من فكرة السباق مع الزمن لتحقيق الغاية وتجاوز المعوقات والصعاب من مبدأ المسؤولية المهنية والالتزام الانساني حيث يطرح في محاولة سينمائية بسيطة تقترب وفق امكاناتها البدائية والمحدودة من المعيار الفكري الفلسفي لسؤال الفرد والحياة والاخلاق.
الجابي.. الباص ونظرة جمعية لملامح الشخصية العراقية
قبل تأسيسه للمفهوم الاكاديمي للسينما كدرس منهجي جامعي يترتب عليه تخرج اجيال من صانعي الافلام والمشتغلين في عالمها لمشروع سينما عراقية تمتلك خصائصها الثقافية وشخصيتها المعنوية سعى الاستاذ الرائد “جعفر علي” الى صناعة فيلم يحظى بجميع المميزات الحقيقية للمدرسة الواقعية الجديدة غير انه يمثل ايضًا نموذج تأسيسي في عديد تفصيلاته، فمن ناحية الانتاج كان اول فيلم يُنتجه القطاع العام مُمَثلًا بمصلحة السينما والمسرح وكذلك بالمقدمة المنفذة بطريقة كاريكاتيرية وباستخدام فن تحريك الرسوم، أو بالموسيقى التصويرية التي وضعها الموسيقار سلمان شُكر وحملت انغاما عراقية خالصة حققت الكثير من الدعم لمسار الشخصيات واحداثها في الباص، أو (الأمانة) كما اعتاد البغداديون تسميته، أو النهج البصري الممتاز الذي أداره الاستاذ “نهاد علي” بفطنة للحيز المحدود المتحركة به الكاميرا مستدرجًا المُشاهد الى دنيا الجابي –قاطع التذاكر- وانتهاء بالترويج للفيلم كتوزيع كتيب اعلاني جاذب.
يكتب “جعفر علي” في ملخص فيلم الجابي (1968) “عالم الباص.. عالم زاخر مثير.. عالم ممتلئ بالمتناقضات.. أذواق وشخصيات متباينة تلتقي بين جدران الباص فترة من الزمن لتثير فينا المرح والضحك والرثاء والشفقة والحب والكراهية، ثم ما تلبث هذه الشخصيات أن تختفي في مجرى حياتها الاعتيادي، ويبقى الباص، ويبقى بطل عالم الباص الجابي..”.
بقصته التي كتبها أيضا يضع جعفر علي “الجابي” كمحور أساسي تتحرك من حوله باقي عناصر العمل غير أنه يؤسس كذلك بتمهيد بصري رائع للباصات التي تمثل منطلقات الحياة اليومية للفرد العراقي باعتبارها وسيلة النقل العام الاساسية ليطرح من خلال الحكاية جملة مواضيع منها أزمة النقل والنظام والمدنية في الركوب او في الانتظار مستعرضًا بذكاء التباين المعرفي والثقافي وكيفية انعكاس ذلك على جملة العلاقات الانسانية زمن استقلالهم للباص.
غير أن الأهم هو إظهار تلك الروح العراقية الخالصة سواء باللهجة البغدادية، أو أسلوب التعامل وما يصاحبه من مماحكات تعكس الاندفاع الشعوري ورديفه الطيبة النقية التي تطبع سمات الفرد العراقي، ليبقى الباص مخزنا للذكريات، وللأمكنة الأثيرة التي يتجول فيها ووثقتها كاميرا الفيلم، وللبشر الذين تركوا شيئًا من ذواتهم على تلك المقاعد.