كارثة “تشيرنوبيل”: النظام أهم من الإنسان
أثار مسلسل “تشيرنوبيل” الذي يقع في خمسة أجزاء، اهتماما كبيرا عند عرضه مؤخرا بسبب قوة موضوعه وصدقه في نقل حقيقة ما وقع في مفاعل تشرنوبيل النووي قبل 33 عاما من منظور الإخلاص للتاريخ والوقائع المدونة.
هذا أول عمل درامي مصور لكارثة الانفجار الذي وقع في المفاعل الرابع في محطة تشيرنوبيل النووية في أوكرانيا السوفيتية في 26 أبريل 1986 واعتبر أول كارثة نووية كبرى نتجت عن أخطاء بشرية. وقد نُظر إلى الانفجار الذي كانت له نتائج هائلة على سكان المنطقة والبلدان المجاورة ومازالت تأثيراته قائمة حتى يومنا هذا، باعتباره فشلا للتكنولوجيا النووية السوفيتية، ويرى كثيرون أنه كان سببا رئيسيا في سقوط الاتحاد السوفيتي بعد خمس سنوات فقط من وقوع الحادث.
يمكن التعامل مع هذا المسلسل كفيلم واحد يمتد لخمس ساعات وهي مساحة زمنية جيدة يمكن احتمالها ولا تسمح بالتلاعب بالمشاهد وابتزازه بالإطالة والإسهاب والاستطرادات الخارجة عن السياق شأن معظم المسلسلات الطويلة، خاصة وأن هذا العمل تحديدا يعتمد على وقائع حقيقية.
يبدأ المسلسل في الحلقة الأولى بصوت عالم الطبيعة النووية فاسيلي ليغاسوف (الممثل الاسكتلندي جاريد هاريس) يتساءل: “ما هو الثمن الذي ندفعه للأكاذيب؟ ثم يظهر عنوان “موسكو 26 أبريل 1988” أي بعد عامين بالضبط من انفجار المفاعل الرابع في تشيرنوبيل.
تقترب الكاميرا تدريجيا من مطبخ في شقة متواضعة فنرى الرجل جالسا يسجل بصوته.. ويستمر الصوت: المشكلة ليست أننا يمكن أن نكذب ونعتبر ما نقوله حقائق، بل المشكلة الحقيقية أن نستمع الى الكثير من الأكاذيب بحيث لا يمكننا التفرقة بينها وبين الحقائق. في هذه القصة لا يهم من الأبطال فكل ما نريد معرفته هو على من يقع اللوم”.
يذكر مباشرة اسم أناتولي دياتلوف كبير مهندسي العمليات في تشيرنوبيل، الرجل المغرور الذي أصدر الأوامر التي أدت إلى الكارثة والذي سيقضي عشر سنوات في معسكر للأشغال الشاقة كما يقول. يقوم فاسيلي بتسجيل شهادته على جهاز تسجيل عتيق. وما يقوله في البداية هو ما سنسمعه مجددا في نهاية الحلقة الخامسة والمسلسل. وسنعرف بالطبع أن فاسيلي ليغاسوف قد انتحر في تلك الليلة بعد معاناة طويلة مع “الحقيقة” في ظل نظام سياسي محكوم بالأكاذيب.
دراما تسجيلية
ما بين البداية والنهاية يصور المسلسل من خلال أسلوب أقرب إلى الدراما التسجيلية، الوقائع والأحداث التي أحاطت بالانفجار ثم ما أعقبه من عمليات تنظيف المنطقة المحيطة من التلوث النووي، وعمليات إجلاء السكان وقطع الأشجار وقتل الحيوانات، مع قصص متعددة لتلك المأساة وكيف انعكست على حياة الأفراد، وهو ما يضفي على العمل حيوية وجاذبية وسحرا رغم ما يكتنفه من رعب وما يصوره من مشاهد قاتمة تقشعر لها الأبدان، فلو اتبع كاتبه الأميركي كريج مازن ومخرجه السويدي يوهان رينك، الأسلوب التسجيلي في البناء والتسلسل، لجاء العمل، رتيبا مباشرا باردا، لكنه أضاف الكثير من الأبعاد الدرامية الإنسانية وتعمق فيها دون مبالغة، بل تمسكا من البداية بالواقعية التي تمتزج بمسحة شعرية حزينة.
يعتمد السيناريو في تفاصيل كثيرة منه على ما جاء من شهادات في كتاب “أصوات من تشيرنوبيل: التاريخ الشفوي لكارثة نووية” للكاتبة سفيتلانا ألسكفيتش (بيلاروسيا) التي حصلت عنه على جائزة نوبل. وهو كتاب مؤثر يفيض بالحزن والألم يمكنك أن تلتهمه في جلسة واحدة.
وكما يخفي المسلسل خلال حلقاته الأربع الأولى، ما وقع في المفاعل النووي ليلة الانفجار مبقيا التفاصيل إلى الحلقة الخامسة، يخفي أيضا حتى النهاية حقيقة انتحار الشخصية الرئيسية التي نتعاطف معها من البداية، ونرى الكثير من الأحداث من منظورها.
في الحلقة الخامسة يكشف السيناريو الممتاز للمرة الأولى في مشاهد المحاكمة، تفاصيل الحادث، من خلال العودة إلى تصوير ما وقع داخل غرفة التحكم المركزي في المحطة النووية السوفيتية، في ضوء ما يرويه الشهود خاصة الشاهد الأساسي بطل المسلسل أي فاسيلي ليغاسوف الذي يلفت أنظار المسؤولين أيضا إلى وجود 16 مفاعل في البلاد قابلين للانفجار ويجب عمل صيانة حقيقة لها تفاديا لتكرار الكارثة. ويضطر فاسيلي كما سيكشف لنا المسلسل، لعمل صفقة مع فيكتور شيركوف نائب رئيس “الكي جي بي” (يقوم بالدور الممثل الإنكليزي آلان وليامز) بحيث يدلي ليغاسوف بالشهادة السوفيتية الرسمية التي ترجع الحادث الى أخطاء بشرية (وليس الى عيوب في التصميم والصناعة أيضا) مقابل الموافقة على صيانة باقي المفاعلات. إلا أن شيركوف يقول في الحلقة الخامسة، أن الأولوية الآن لمحاكمة المقصرين وتحديد الأشرار والأبطال قبل صيانة المفاعلات أي أن العامل الإنساني ليس له وزن عند القائمين على إدارة البلاد!
دقة الوقائع
تكمن براعة المسلسل أولا في الدقة التاريخية التي ترتبط بالأماكن والوقائع والشخصيات، ثم في اختيار عدد من الشخصيات الرئيسية والفرعية التي يروي من تفاصيل الكارثة ثم محاولة السلطة السوفيتية التغطية على الحقيقة ثم محاولات ليغاسوف المضنية لمنع تفاقم الكارثة، بالتعاون مع رئيس لجنة التحقيق بوريس شيربينا نائب رئيس الوزراء السوفيتي كممثل للدولة والحزب. ويصور كيف يبدو شيربينا افي البداية متشككا في دوافع ليغاسوف مؤمنا بما يقال له على المستوى الرسمي، ثم يبدأ تدريجيا في إدراك الحقائق وكيف أن النظام الذي يعمل في خدمته ويؤمن به ويصدقه، كاذب لا يقيم وزنا للحقيقة مهما كانت النتائج ومهما كان الثمن الذي يدفعه الأبرياء من دمائهم وحياتهم. سيتغير موقف شيربينا، وتزول الصبغة الرسمية في تعامله مع ليغاسوف، ويتعاون الاثنان للكشف عن حجم الكارثة أمام أعلى مستويات الحزب، بمافي ذلك ميخائيل غورباتشوف نفسه الذي لم يكن قد مضى على انتخابه سوى 13 شهرا.
من الشخصيات الكاريزمية البطولية في الفيلم أيضا “أندريه غلوكوف” رئيس عمال المناجم الذين يتم استدعاؤهم ونقلهم للقيام بحفر نفق تحت الأرض بغرض التخلص من المياه الملوثة وهو يعلم مخاطر العمل في زروف غير إنسانية ستؤدي الى عواقب خطيرة بالنسبة لعماله لكنه يدرك أيضا أنه بقيادة هذا العمل الشجاع سينقذ عشرات الآلاف من الأرواح.
وهناك الشاب اليافع “بافل” الذي يتم الحاقه مع مجموعة من المتطوعين الشباب الذين لا يمتلكون أي خبرة بفرقة يرأسها الضابط الجورجي “باتشو”(يقوم بالدور اللبناني فارس فارس الي رأيناه في “حادث هيلتون النيل”)، تجوب المناطق المحيطة ببلدة بريبيات القريبة من تشيرنوبيل، لقتل جميع الحيوانات الموجودة بالمنطقة التي انتقل إليها الإشعاع النووي وأصبحت تشكل خطرا على البيئة والانسان.
صورة المرأة
وهناك الشخصية الرئيسية الثالثة في العمل، العالمة النووية السوفيتية أولانا خوميوك (تقوم بالدور إميلي واطسون) التي يختصر صناع العمل في شخصيتها، عددا من العلماء السوفيت الذين ساندوا ليغاسوف ووقفوا بجواره وقاموا بالأبحاث وتقصوا الكثير من الحقائق بعد الاستماع الى شهادات عشرات الأشخاص من شهود الحادث وضحاياه. ولاشك أن المسلسل يحتفي كثيرا بدور المرأة ويعلي من شأنها، فهناك شخصية لودميلا إيغناتنكو زوجة رجل الإطفاء الذي تعرض للإشعاعات المدمرة بعد ان دفع به مع رفاقه لاطفاء الحريق الذي اشتعل في المفاعل دون أي ملابس وقاية خاصة ضد الإشعاعات. وسوف ينقل الى مستشفى في موسكو وتقوم زوجته الحامل بزيارته، وتصرعلى الوقوف الى جواره إلى أن يودع الحياة. وبينما كانت أولانا خوميوك إحدى الشخصيات القليلة المتخيلة التي أدخلت في المسلسل، إلا أن لودميلا هي شخصية حقيقية تحتل شهادتها المؤثرة الفصل الأول من كتاب “أصوات من تشيرنوبيل” الذي اعتمد عليه كاتب السيناريو بشكل حرفي تقريبا.
في أحد المشاهد أثناء عمليات الإخلاء في القرى المحيطة بموقع الكارثة، يحاول جندي دفع روية عجوز لمغادرة بيتها، لكنها ترفض وتتشبث بالبقاء وتسرد على الجندي كيف أنها ظلت باقية في أرضها وبيتها طوال التاريخ المليء بالرعب الذي عاشته منذ الثورة البلشفية ثم الحرب الأهلية ثم المجاعات التي تعرضت أوكرانيا بسبب سياسة ستالين ثم الحرب العالمية الثانية والفظائع التي ارتكبها الألمان، وصولا الى المحنة الحالية. ومع رفضها النزوح يطلق الجندي الرصاص عليها ويقتلها نزولا على للتعليمات.
يقوم المسلسل على فكرة أن الكذب واخفاء الحقائق والتواطؤ المخزي في أعلى مستوى من مستويات السلطة كان السبب في فساد النظام السوفيتي ثم انهياره، فقد كان الطموح الشخصي والرغبة في الصعود والترقي عند كبار المسؤولين، أهم من الحقيقة، وكان قرار انشاء مفاعلات تشيرنوبيل باستخدام الماء العذب الخفيف، قرارا صدر عن القيادة العليا في الدولة، وفرض فرضا على العلماء لأن النظام الضعيف الذي استخدم في بناء المفاعلات كان قليل التكاليف، وكان هناك من العلماء من يعرفون الحقيقة لكنهم صمتوا عن العيوب الكثيرة في تصميم المفاعل مما أدى في نهاية الأمر الى وقوع الكارثة، كما كانت سيطرة الدولة البوليسية سببا مضاعفا في سقوط النظام.
ويطرح المسلسل سؤالا فلسفيا وأخلاقيا هو: هل من الواجب التمسك بالحقيقة رغم كل ما يمكن أن تؤدي إليه من مخاطر على حياة الفرد ومستقبل أسرته، وألا يعتبر هذا موقفا أنانيا مهما كانت البطولة الكامنة فيه، طالما أنه سيؤدي إلى تعريض سلامة العائلة والأبناء للخطر؟ وما هو واجب العلماء: الخضوع للبيروقراطية الحزبية والإدارية أم الإخلاص لمقتضيات العلم حتى لو تعارضت مع الأيديولوجيا؟
صورة صادقة
المخرج السويدي يوهان رينك ينتقل بهذا المسلسل من مخرج تخصص في إخراج الإعلانات التجارية و”الفيديو ميوزيك” الى مخرج دراما عملاق. إنه يبرع في التصوير الدقيق الواقعي الذي يستغل الأماكن المماثلة للمواقع الحقيقية في تشيرنوبيل (صورت المشاهد الخارجية في منطقة مفاعل نووي مهجور في ليتوانيا مماثل لمفاعل تشيرنوبيل)، مع إعادة تصميم الكثير من الأماكن الداخلية التي تنقل لنا صورة صادقة عن الحياة في الاتحاد السوفيتي، داخل أروقة الإدارة البيروقراطية السوفيتية في تلك الفترة. ويتحكم فريق المساعدين تحكما جديرا بالإعجاب في تحريك المجاميع الكبيرة من الممثلين الثانويين، عمال الحفر والاطفاء ومن يقومون برش الشوارع بالمواد المطهرة ويجوبون المزارع مع تحريك مئات المركبات لنقل السكان، ثم الصورة الواقعية الدقيقة للمستشفى في موسكو، حيث وقفت الشرطة تمنع دخول أقارب الضحايا الذين انتابهم الفزع، ثم كيف تم تخزين الملابس المليئة بالإشعاع، التي كان يرتديها رجال الإطفاء الذين نقلوا الى المستشفى، في غرفة تحت الأرض. وتقول لنا المعلومات التي تظهر على الشاشة في نهاية المسلسل، أن هذه الملابس مازالت موجودة في مكانها حتى يومنا هذا.
يرجع نجاح المسلسل أيضا إلى الاختيار المثالي لطاقم الممثلين جميعا، الذين يتحدث كل منهم بلهجته دون محاكاة طريقة النطق الروسية، وهو الاختيار الأكثر مناسبة للجمهور العمل، مع استخدام اللغة الروسية في المقاطع الأصلية من نشرات الأخبار والتقارير التليفزيونية والنداءات العامة التي كانت توجه عبر مكبرات الصوت إلى السكان.
ورغم احتواء المسلسل على الكثير من المعلومات العلمية التي تتعلق بطبيعة تركيب المفاعلات النووية وكيفية تشغيلها، إلا أننا نستمتع ونحن نستمع إليها خاصة عندما يقوم ليغاسوف أمام المحكمة في الحلقة الخامسة، بالشرح التفصيلي باستخدام لوحات ملونة بالأزرق والأحمر موضحا كيف كان ممكنا أن تتحول تجربة روتينية لإجراءات الأمان في المفاعل إلى كارثة كان من الممكن أن تقضي على حياة ستين مليونا من البشر لولا الجهود والتضحيات الهائلة التي قدمها أكثر من 600 ألف شخص دفع الكثيرون منهم الثمن غاليا من حياتهم وصحتهم. والفيلم في نهايته مهدى إلى هؤلاء.