“المنارة” الإنسان في مواجهة الإنسان
قد يبدو لك إذا نظرت لتصنيف الفيلم وألفيتَه تحت تصنيف “غموض” و”رعب” أنَّه فيلم عاديّ، بل قد تتخيل أنَّه فيلم نمطيّ. لكنَّ الحقيقة أنَّه مُخالف لكل ما قد يخدعنا به مظهره. فالفيلم فيلم معانٍ بامتياز.
فيلم يعتمد على عرض وجهة نظر فلسفيَّة عن الحياة وعن الإنسان، مُتدثِّرًا بالفنّ، وعدد من مذاهبه -التي اعتمد عليها الفيلم- من رمزيَّة، سرياليَّة، وتعبيريَّة. إنَّ هذا الفيلم وأمثاله هي التي يطلق عليها حقًّا اسم “أعمال فنيَّة”. بل إنَّه من اقترابه الشديد بمفهوم الفنّ المحض ينسحب من “السينمائيَّة” إلى “الروائيَّة” و”الشعريَّة” و”التشكيليَّة”.
قد ترى كلامي مُعقدًا بعض الشيء؛ لكنَّ التعقيد يفرضه العمل الفنيّ نفسه، وعملنا معقّد ومتراكب. إنَّه من الأعمال التي تصير علامة في حياة صانعيه، والتي تشعر بها أنَّك تشاهد ما يستحقّ، وتكتب عمَّا يستحق.
يقابلك منذ البداية حقيقة أن الفيلم اختار “الأبيض والأسود” لا “الألوان”، كما أنَّه اختار تصوير العمل بأبعاد قديمة للشاشة، لا الأبعاد الحالية. وتجد نفسك أمام ممثِّليْن وحسب طوال الفيلم. الفيلم من بطولة الممثل الكبير “ويليام دافو”، والممثل الشاب “روبرت باتنسون”. ومن إخراج وتأليف “روبرت إيجرز”. شاركه التأليف أخوه “ماكس إيجرز”. وهو من تصنيف “غموض” “رعب”.
يتحدث فيلمنا “The Lighthouse” عن موظَّفَيْنِ يتوليَّان مناوبة عمل على جزيرة نائية في وسط البحر. مهمتهما القيام بالأعمال التي تلزم المنارة. أحدهما شيخ كبير عليه كل سمات الكبر الماديّ -شكل وهيئة-، والنفسيّ -إحساسه السلطويّ ونظراته الحادة الآمرة وهيمنته على الأمور من حوله-، قضى كل حياته في البحر وفي خدمة هذه المنارة. والآخر شاب قوي الجسد والبنيان، يبدو عاديًّا يبحث عن عمل مربح فقبل العمل في المنارة ليكسب المزيد من الربح. وهما -وحدهما- سيقضيان هذه المناوبة التي تمتد لأيام طويلة بعض الشيء إلى أن تنتهي مناوبتهما. هذا هو المظهر العام الذي يقابلك به الفيلم.
ثمّ تمتد الأحداث لنرى قسوة الحياة في الوظيفة، والسلوك الوحشيّ للشيخ، ونُدرة الطعام، وسوء المياه المخزَّنة، وهذا الشاب الذي يكتشف تمثالاً لعروس بحر في حشايا فراشه. ونرى مدى سلطويَّة هذا الشيخ أمام هذا الشاب، وأنه يصرّ على إبعاده عن العمل في المنارة نفسها (أيْ قمة المنارة التي بها طاقة النور المُتَّقدة التي تنير للسفن)، ويؤكد على أنَّه حارس هذه المنارة وأنها ملكه وأنه لن يسمح للشاب أن يقترب منها. ويأمر الشاب بأداء كل الأعمال القاسية الشاقّة، ويقسو عليه كل القسوة بلا تقدير ولا إظهار للاحترام. بل هو دائم الشكوى من الشاب، دائم الاتهام بالتقصير والركون إلى الراحة والدعة، وأنَّه ليس أهلا لتحمُّل المسئوليَّة. والشابّ يبدأ في ملاحظة أمور غريبة يفعلها هذا الشيخ من تعلقه الغريب بالمنارة، وأشياء أخرى. حتى تأتي الطامَّة الكبرى ويكتشفان أن السفينة التي ستنقلهما لم تأتِ، وأنهما محتبسان معًا على هذه الجزيرة. فما الذي سيقع للشاب والشيخ بعدها؟
ولعلَّ ميزة الأفلام شديدة الفنيَّة أنَّها لا “تُحرق” أيْ لا يفسد الكشفُ عن بعض أحداثها متعةَ مشاهدتها. وذلك لأنَّها ليست أفلام أحداث أصلاً؛ أيْ لا تعتمد على الأحداث الاعتماد الرئيس -كما غيرها من الأفلام-. بل تعتمد على الفنّ وأسسه. وهذا الفيلم من الممكن قراءته حسب وجهات عدّة؛ لأنَّه قدَّم ثراءً فنيًّا يؤدي إلى عديد الرُّؤى، بل يُنشئها. ولا أريد أن أطرح رؤية معينة على المشاهد الكريم، بل أريد أن أعود خطوةً إلى الخلف مُنيرًا بعض القبَسَات من الضوء أمام منارتنا السامقة.
في فيلمنا نرى اثنين من البشر على طرفَيْ نقيض -تقريبًا- شيخ وشاب؛ رجل مُحنَّك في مهمنة ومبتدئ لا يعرف إلا القليل، رجل ذو ملذات روحيَّة -الخمر والجلوس أمام المنارة- وآخر له حيويَّة وقدرة وجنوح للملذات الدنيويَّة، رجل يتعلَّق بكل مفردات حياته وآخر يمارس الحياة وحسب، رجل يؤمن بأشياء فرضتها عليه ظروف عمله، وأملتها عليه خبراته وتجاربه وآخر يرى فيها غرابة وخرافة وخيالات، رجل لديه الكثير من الحكايا وآخر يسمعها بتأثر من نبرات الرجل وتأثيره التعبيريّ، وأخيرًا رجل عشق المنارة واعتنقها وآخر لا يرى فيها إلا واقعًا عمليًّا.
ثم نمضي شيئًا فشيئًا لنجد أن للرجل آثامًا، والآخر بريء. ونمضي قدمًا لنكتشف أن للشاب آثامًا هو الآخر، وأن للشاب حكايا، وأن للشاب ماضيًا. ثم نرى الشاب الذي رفض أن يسكر يفعل، ونراه يثمل من الإسكار. ويبدأ الأمر يتضح لنا وكأنَّ الإنسانين اللذين بَدَوَا أمامنا اثنين إنسانًا واحدًا في صورتين، إنسانًا واحدًا في عُمرين. كأنَّ الشيخ مستقبل الشاب، وكأنَّ الشاب ماضي الشيخ. وفي مشهد معيِّن نراهما مخمورين يتناطحان في قول كلمة “لماذا” وكأنَّما صورة طبق الأصل أو شخصًا يرى نفسه في مرآة.
وفي فيلمنا جزيرة نائية عليها “منارة” الشاب والشيخ كلاهما يعمل في خدمة المنارة رغبةً أو أمرًا. ولكنْ ما “المنارة”؟ إنها طاقة من النور تكشف لنا حتى نرى، تساعدنا على “الإبصار” في الظلام، وهي بهذا ملهمة للقبس ورمز للرشاد إلى الصواب. تبدو من بنيانها الداخليّ -الذي ظهر في مشاهد عدَّة- قَبَسٌ وهَّاج لامع من نور يقف في نهاية طريق طويل مُلتفّ من السلالم الحلزونيَّة التي لا نهاية لها.
وقد قصد الفيلم قصدًا إبراز هذه الإيحاءات في الفيلم. كما قدَّمها الفيلم برمزيَّة أو رمزيَّات؛ رمزيَّة “التابُو” -أو المُحرَّم- أو المُقدَّس أو الشيء الذي لا يمسّ لتشريفه. رمزيَّة المُحافظة أو التقليد التي يحافظ عليها الشيخ -الإنسان كبيرًا- ويعرف لها قدرها، ويعرف أنَّها ليست خرافة، بل مصدر الحقيقة، ويعتبر نفسه “الحارس الأمين” عليها -قيل هذا نصًّا في الفيلم كثيرًا-، وغيرها من الرمزيات -إنْ أردت-.
وفي فيلمنا “طيور النَّورس” التي استخدمها الفيلم رمزيَّة للأفكار الخرافيَّة في عقل الإنسان. وهذا ما صرَّح به تصريحًا؛ حيث نهر الشيخُ الشابَّ حينما رآه يضايق الطيور، قائلاً: إن إغضاب هذه الطيور فأل نحس وشؤم عليهما. وعندما سأله الشابّ عن السبب قال: إنَّها أرواح البحَّارة الذين ماتوا متجسِّدة في أجساد طيور نورس!
وفي فيلمنا وهي أعمق ما فيه ما يمكن أن نسميه بـ”الدائرة المغلقة”. حيث الشاب يكتشف بعد حين -ومن خلال محادثات أخرى مع الشيخ- أن حكايا الشيخ غير حقيقيَّة ومتضاربة وبها الكثير من اللبس، ويستنتج أن الشيخ يكذب وأنَّ ما يقوله له محض خرافة. ولكنْ على صعيد آخر يرى الشاب نفسه أن كلام الشيخ ليس خرافةً تمامًا فقتله طير النورس جلب عليه السوء حقًّا.
كما أنَّه في النهاية عندما قرَّر الشاب أن يقضي على الشيخ (وعلى الموروث القديم كلّه) قال له الشيخ: إنّ ما تراه في الدنيا متغيِّر، لكنَّه لا يتغير. أيْ أنَّه قد يظنُّ أن الأشياء تتغير في بعض الصور لكنَّها على وجه الحقيقة لا تتغير في إطارها الكُليّ. ويخبره أنَّه سيرى بنفسه. ثمَّ نرى الشابّ وقد افتتن بالمنارة وذهل كل الذهول، حينما حاول اكتشاف سرّها وهوي في القاع؛ ليكون طعامًا لطيور النورس نفسها.
وبعد فهذا الفيلم صُنع ليمارس المشاهد كل فنون “التأويل” التي يستطيعها. فمثلاً قد تكون في رؤية بديلة علاقة الأجيال بعضها ببعض وتناولاً للسلطويَّة الأبويَّة التي تتغذى على الموروث ثمّ تلقِّنه للشباب، وتجبرهم على اعتناقه. أو هي جدليَّة السلطويَّة في الحُكم والسلطة الحقيقيَّة والشعب وما تُمنِّيْهِ به، وما تستند عليه في دفعه للانقياد، وغيرها من الرؤى. وهذه ميزة أفلام قليلة مثل هذه .. إنَّها الأفلام الأشد فنيَّة.
ولا يمكن ألا نعلق على الأداء التمثيليّ الرفيع الذي أداه كلٌّ من الممثلين؛ حيث جاء الفيلم وصلات من التمثيل الممتاز. وكذلك الحوارات المتميزة والتي امتازتْ بالكثير من الثراء والشاعريَّة؛ فضلاً عن شاعريَّة المواقف والسياق الكُليّ. والإخراج المذهل والرؤية الفنيَّة المتميزة. التي جعلتنا ننوِّه عليها -دون استفاضة- لأنَّها حشدت الفيلم بالمعاني التي استنفدت مجال الحديث. والفيلم يعدُّ -بحقّ- أحد أفلام الفنّ الرفيع.