“المقاطعون”.. عن إرث آل كابوني الخالد

Print Friendly, PDF & Email

لطالما كانت النفس البشرية بكل ثرائها وتعقيدها هي المحور الذي يقوم عليه أعمال المخرج ستيف جيمس. فعلى مدار رحلته السينمائية الممتدة على مدار 37 عامًا، وجد جيمس نفسه مفتونًا بالشخصيات المركبة التي تأخذ حياتها منعطفات مهمة ومفاجئة، سواء كان ذلك سعيًا وراء حلم كرة السلة، أو مواجهة السجن، أو حتى التوسط لوقف سلاسل القتل في شوارع شيكاغو. يقول ستيف جيمس: “لقد كنت دائمًا مخرج أفلام وثائقية تحركه الشخصية. أنا مهتم بالأشخاص والقصص التي تمتلك أشياء أكبر لتقولها، لكن نقطة دخولي دائمًا هي الأشخاص. كل هذه الأفلام التي قدمتها هي دراسات شخصية رائعة عن الناس”.

يرى جيمس أن أحد أهم الأشياء التي تدفع المرء لتوثيق قصص الأخريين هي الانصات بصدق إلى عمق كلماتهم وخلاصة تجربتهم الأليمة في الحياة، وهذا ما نختبره في مرثيته الحزينة عن العنف الدائر في شوارع شيكاغو (المقاطعون –  The Interrupters)، حيث تصبح الكلمة إما بوابة للنجاة أو رصاصة طائشة تنهي حياتك على أحد الأرصفة.

عُرض فيلم “المقاطعون” عام 2011، ضمن الموسم الثلاثين من السلسلة التلفزيونية المختصة في الصحافة الاستقصائية “Frontline”، والتي تنتج عدد كبير من الأفلام الوثائقية – تجاوز عددها 800 فيلم حتى الآن – بشكل منتظم سنويًا حول مجموعة متنوعة من القصص الاجتماعية والقضايا السياسية. وقد عاود ستيف جيمس المشاركة مجددًا في الموسم السادس والثلاثين بفيلم

(أباكوس: يُسجن لأنه قليل الشأن – Abacus: Small Enough to Jail) الذي ركز خلاله على أزمة الرهن العقاري في أمريكا عام 2008، ونال عنه ترشيحه الثاني لجائزة الأوسكار بعد فيلم (أحلام السلة -Hoop Dreams).

إن القصص التي يستعرضها وثائقي جيمس لا تنظر إلى جوهر العنف باعتباره انحراف أخلاقي وحسب، بل تعمل على أساس فرضية مفادها أن العنف هو مشكلة تتعلق بالصحة العامة، حاله كحال الأوبئة التي تستوطن المجتمعات الأكثر فقرًا وجهلاً إلى أن تصبح المسمار الأخير في نعش وجودها. من هنا، تنبع أهمية هذا الشريط الوثائقي في تسليطه للضوء على ذلك الجزء من العالم الذي ألقي فيه “آل كابوني” أولى بذور العنف، والذي يدعى شيكاغو؛ ليضعنا جيمس ورفاقه من زعماء الجريمة السابقين أمام وباء مستعر ومأساة أمريكية لا تغتفر.

اكتسب (المقاطعون – The Interrupters) اسمه من مجموعة صغيرة من المنظمين – المدانين السابقين بالجرائم – الذين يقومون بالوساطة بين أفراد العصابات لكبح جماح العنف في مدينة شيكاغو، ويعملون تحت مظلة منظمة تسمى (أوقفوا إطلاق النار Ceasefire) والتي أسسها عالم الأوبئة جاري سلوتكين في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كجزء من مشروع أطلقته جامعة إلينوي، لوضع حد للانفلات المجتمعي الذي تعانيه المدينة.

ظهرت مقاطعات وقف العنف لأول مرة في مقال نشر عام 2008، في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “منع انتقال العنف” للكاتب أليكس كوتلويتز، الذي شارك في كتابة وإنتاج الفيلم أيضًا مع ستيف جيمس، وركز خلاله على الأفكار التي اكتشفها الطبيب سلوتكين عن العنف باعتباره إشكالية تتعلق بالصحة العامة، إضافة إلى الدور الحيوي الذي يلعبه المقاطعون في الخطوط الأمامية للقتال داخل المدينة.

في الفيلم، لا يحاول جيمس استغلال معاناة الآخرين وتحويل آلامهم إلى مشاهد قابلة للاستهلاك، لذلك يتجنب هذا الفخ لأنه لا يحاول بيع قصة سعيدة وسهلة الهضم، بل يتعمق في الأمر بصورة فريدة وصادمة. لذا بدلاً من أن يقوم الفيلم بمراقبة وتقييم هذا البرنامج الاجتماعي أو حتى الانخراط في إشكالية التمييز العرقي، يركز وثائقي جيمس على جهود ثلاثة من المقاطعين وجدوا أسلوبًا أمريكيًا للغاية في الخلاص من حياتهم السابقة من خلال عملهم في “Ceasefire”، هم: إيدي بوكانيجرا، الرسام الموهوب الذي قضى 14 عامًا في السجن بتهمة القتل، وريكاردو ويليامز “كوبي”، الذي حُكم عليه ثلاث مرات بتهم تتعلق بالمخدرات ومحاولة القتل، وأمينة ماثيوز، ابنة جيف فورت أحد أمراء الجريمة في مدينة شيكاغو. لذا رافقتهم كاميرا جيمس بحميمية وشجاعة على مدار عام كامل، وراقبتهم وهم يواجهون النكسات ويستمتعون بالنجاحات الصغيرة لوقف إراقة الدماء في الشوارع.

إن محور عمل المقاطعون يتبلور بصورة أوضح من خلال القيام بدوريات في شوارع شيكاغو للتحدث مباشرة مع أفراد العصابات وتجار المخدرات وعائلات الضحايا الذين هم على وشك مهاجمة شخص ما بدافع الانتقام. حيث تتطلب أساليبهم الاستماع والتعاطف مع الطريقة التي يفكر بها أفراد العصابة، والمواجهة أيضًا عند الضرورة لوقف إطلاق نار محتمل. وهنا يجب التوقف للإشارة إلى تساؤل “هل الدور الذي يلعبه مقاطعو العنف يأتي بديلاً للشرطة؟”. بالطبع “لا”.. فجهود هؤلاء المقاطعون لا تتعارض مع عمل المؤسسات الرسمية للمدينة، ولكن ما يوثقه الفيلم أنه متى ما ظهرت الشرطة في الصورة تزداد حدة العنف؛ ولهذا السبب جاء دور المقاطعون لسد هذه الثغرة المتسعة ما بين معتنقي العنف وتلك المؤسسات. لذلك الحديث عن موقف الشرطة لم يشغل حيزًا من سيناريو الفيلم، رغم السؤال الدائم عن دورهم الذي فرض وجوده خلال أحاديث أعضاء المنظمة، إلا أن موقف الشرطة من هذه المنظمة يمكن تلخيصه في السؤال الذي يطرحوه كلما ذُكر اسم “المقاطعون”: “هل يمكن أن يُصلح مجرم مجرمًا آخر”.

كما سبق وأشرنا في المقدمة إلى أن الكلمة يمكن أن تصبح بوابة للخلاص أو الهلاك داخل شيكاغو، لذلك يخرج وثائقي جيمس باستنتاج آخر هام وهو أن أغلب جرائم القتل داخل المدينة كانت ترتكب كرد فعل على لفظ خارج أو كلام بذيء، لذا تسلك أمينة ماثيوز طريقًا لتجنب هذه الإشكالية تتمثل في اكتشاف النقاط اللينة وليس الضعيفة داخل معتنقي العنف ومحاولة اختراقها عن طريق الكلمة، وهو ما أثبت فعاليته في العديد من المشاحنات التي وثقها الفيلم. إن الدافع الأخلاقي وراء عمل المنظمة هو أن القتل لا ينبغي أن يكون نتيجة حتمية للنزاعات في الشوارع. وعلى مستوى أوسع، يحاول المشروع أيضًا تغيير الصورة الراسخة حول العنف، من خلال التواصل مع الأطفال الصغار سواء في الشوارع أو المدارس وقيادة المسيرات الاحتجاجية في مجتمعات ما بعد الصراع.

على مستوى آخر، يخصص جيمس جزءًا من فيلمه لإلقاء نظرة على حياة هؤلاء المقاطعين ودوافعهم الشخصية للقيام بهذا العمل المحفوف بالمخاطر. لقد نشأوا في بيئة كان فيها العنف هو القاعدة، وكان الأمر أشبه بتناول وجبة الإفطار كل صباح. وهذا الملمح يتجلى في قصة أمينة ماثيوز الأليمة، التي انضمت إلى عصابة والدها في عمر السادسة عشر – دون علمها – وشاركت في كل أعمالهم من سرقة وقتل ودعارة. لذا رأت أن الانخراط في العمل المجتمعي هو آليتها الوحيدة لمحاولة نسيان ما فعلته في السابق، كنوع من أنواع التطهير الذاتي. لكن إيدي بوكانيجرا لم يستطع أن يتجاوز أو ينسى ماضيه، رغم جهوده في مجال العلاج بالفن مع طلاب المدارس، وكأن ذاكرته تنهش في جسده مثل الورم. ويتجلى هذا الشعور في المشهد الأثير الذي يتوجه فيه بوكانيجرا لعائلة الشخص الذي ارداه قتيلاً في السابق طلبًا للغفران.

في مجال الصحة العامة، كانت هناك مدرستان حول عرقلة العنف. تركز الأولى على العوامل البيئية، وتحاول على وجه التحديد الحد من عمليات شراء الأسلحة وجعل الأسلحة أكثر أمانًا. أما الآخرى، فتحاول التأثير على السلوك من خلال التوعية عن طريق المناهج المدرسية. بينما يتابع سلوتكين ذلك بطريقة ثالثة كما لو كان يحاول احتواء مرض معدي. فهو على المدى القصير، يحاول فقط وقف انتشار العنف. أما على المدى الطويل، يأمل في تغيير السلوك ليصبح مقبولاً اجتماعيًا.

في مقال ” كوتلويتز “، والذي تأسس عليه فكرة الفيلم، يقتبس الكاتب موقف سلوتكين الوبائي المقتضب بشأن العنف، قائلاً: “يتنبأ النشاط العنيف بالنشاط العنيف التالي مثلما يتنبأ فيروس نقص المناعة البشرية بنظيره التالي.. وهكذا”، لذلك يحاول المقاطعون منع نقل هذا النشاط بالكلمات والتنبؤ بما قد يحدث بعد ذلك.

نشأت نظرية سلوتكين من تجربته الخاصة كطبيب للأمراض المعدية، بما في ذلك جهوده في البرنامج العالمي لمكافحة الإيدز في أفريقيا. بعد عودته إلى مدينة شيكاغو وسماعه قصصًا مروعة عن قتل الأطفال في نزاعات العصابات تلك، بدأ يدرك مقدار الاعتماد على تجاربه في محاربة الأوبئة من خلال التدخل المبكر وتقليل انتقاله من عنصر لآخر عن طريق الاحتواء، وهو الدور الذي يلعبه المقاطعون في حالة منع انتقال العنف؛ فهم الرُسل الأكثر إقناعًا كونهم مدانين سابقين ويتمتعون ببعض المكانة والسمعة في شوارع المدينة.

ونتيجة لذلك، يعمل المقاطعون بين دعم القانون ودعم منطق الشوارع. فهم لن يكونوا بديلاً للشرطة، وإنما وضعهم يسمح بالتفاوض في بعض الأحيان على النزاعات التي تنطوي على حوادث غير مشروعة، إنهم يسيرون على خط رفيع بين التوسط والتغاضي عن النشاط الإجرامي في نفس الوقت. وهذا الملمح في الفيلم نلحظه مع “كوبي” الذي يظهر تعاطفًا طبيعيًا مع الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في مواقف مدمرة، ولا سيما في تعاملاته مع أحد المجرمين ويدعى فلامو، الذي تنتابه حالة انتقام جنونية بعد إلقاء القبض على أخيه، ليحاول “كوبي” إقناعه بالتخلي عن فكرة الانتقام، فيرد الشاب المندفع الذي أمضى نصف حياته في السجن، قائلاً: “كيف يمكنك مساعدتي؟”.

هنا، تأتي المرحلة الثانية من نظرية سلوتكين وهي تدابير مكافحة الفقر. فمن البديهي الاعتقاد بأن العنف ينشأ نتيجة الحرمان الاقتصادي، لذلك فإن الأشخاص الذين يمتلكون توقعات متدنية للمستقبل هم الأكثر ميلاً نحو العيش بتهور وعدم القدرة على الهروب من دورة العنف. حيث يدفع انتشار الأسلحة أصحاب الأعمال والطبقات الأكثر استقرارًا إلى المغادرة وترك أولئك الذين لا يستطيعون الرحيل يتيهون في فخ الصراع.. وهم بالطبع الطبقات الأكثر فقرًا.

هذا الملمح يتضح خلال أحد الاجتماعات التي يوثقها الفيلم، حيث نرى أحد الأشخاص يصيح في عمدة مدينة شيكاغو، قائلاً: “طوال الوقت تتحدثون عن العصابات والأسحلة والمخدرات، ولكنكم تغفلون الحديث عن الوظائف وفرص العمل”. وهو ما يؤكده بوكانيجرا في مشهد لاحق، حيث يروي معاناة سكان المدينة مع صعوبة الحصول على عمل واحساسهم الدائم بالضغط والتشرد وكيف يقودهم هذا كله نحو العنف مجددًا.

أصبح ستيف جيمس مرتبطًا بشكل وثيق بمدينة شيكاغو، منذ أن وطأت قدماه المدينة رفقة زوجته لدراسة السينما هناك، حيث وقع جيمس في حب المكان والأشخاص ولم يغادره حتى الآن.

هذا الولع بمدينة شيكاغو نراه متغلغلاً في فيلموجرافيا جيمس، فالأمر لا يقتصر على فيلمه “المقاطعون” وحسب، بل دشن عشقه لهذه المدينة منذ فيلمه الوثائقي القصير الأول (شيكاغو الشعبية – Grassroots Chicago) عام 1991، ورصد خلاله قصص مجموعة من سكان أحد الأحياء الذين يصنعون التغيير داخل مجتمعهم. إلى أن تغلغل بشكل أعمق في قصص الأشخاص الأكثر فقرًا من خلال فيلمه الوثائقي الطويل الأول (أحلام السلة -Hoop Dreams) عام 1994، ووثق خلاله رحلة شاقة يخوضها طفلين أمريكيين من أصول أفريقية (ويليام وآرثر) لتحقيق حلمهما للوصول إلى دوري المحترفين.

إن ما يجعل فيلم “أحلام هوب” شديد الصلة بفيلمه اللاحق “المقاطعون”، هو أن جيمس يتعرض في فيلمه الأول لموضوعات شديدة الارتباط بأولئك الذين يعيشون على هامش الحياة وعادة ما يكونوا غير مرئيين، حالهم كحال عائلتي الطفلين اللذين يعانيان من فقر مدقع ومشاكل تتعلق بإدمان المخدرات وصعوبة الحصول على عمل، ليمد المخرج خطًا على استقامته بين وباء العنف الذي أنهك مدينة شيكاغو في “المقاطعون”، والأسباب التي أدت إليه في “أحلام هوب”؛ مع الفارق بأن الطفلين لم يسقطان ضحيتين لهذه الظروف، بينما يحاول في فيلمه الآخر أن يجنب مدينته الأثيرة هلاكها المحتوم.

Visited 3 times, 1 visit(s) today