“المغرب من أعلى” رهافة البلاد الجميلة
اعتدنا في أدبيات التحليل الفيلمي على أن اللقطة السينمائية المُصَوَّرَة من أعلى، أي تلك التي يقع الموضوع أسفلها، هي لقطة تهدف لتصغيره أو تبيانه بطريقة مشوهة، وقد تسعى لإبراز الهشاشة أو لحظة الضعف التي يكون عليها الشخص المُصَوَّر، ولكن هشاشة الشخص ليست هي رهافة الموضوع، فحينما يتعلق الأمر بتصوير بعض المناظر الطبيعية من أعلى، فإن للرهافة معنى مضاعفا، سيما إن كان مُسَجَّلاً بواسطة الطائرة التي تمزج بين تقنيتي التصوير من أعلى فتتحول معها التراڤلينغات (اللقطات السَّيَّارَة) إلى متعة متفردة.
سيرا على عادته في تصوير فيلمه الوثائقي الشهير حول كوكبنا – الأرض – الأزرق أو الأخضر، والذي سَمَّاهُ “البيت” (2009)، درج المصور الفنان والمخرج الفرنسي “يان أرتيس برتران” على تصوير جل أفلامه من الأعلى، وقد رسخ هذا التوجه في ذلك الفيلم بمعية زميله “ميكيل بيتيو” للدلالة على أن الأرض ملجؤنا ووطننا وبيتنا وهدفنا الذي عليه يتحقق فيه مصيرنا، وذلك بغية التحسيس بجماله الخارق، وكذا بالتهديد الذي يمكن أن يلحق به جراء تهورنا في الاستعمال المفرط لخيراته أو تدمير توازنه الإيكولوجي جراء ما ننتجه من مواد من شأنها أن تدمر كل شيء بما فيه نحن أيضا.
وسيرا على نفس النهج البصري أنجز المخرجان، مؤخرا، فيلما وثائقيا حول المغرب وسماه بـ”المغرب مرئيا من السماء” (2017)، والذي كان تتمة للمنجزات الفوتوغرافية والتلفزيونية والسينمائية التي راكمها الأول حول حضارات وثقافات البحر الأبيض المتوسط التي لا ينفصل المغرب عنها.
وقد جاءت تقاطعات تلك المكونات واضحة، ولو من السماء، وكأنها صفات عُلْوِيَّة يتطلب تأملها الصعود إلى الأعالي خاصة وأنها متعددة الجغرافيات، وغنية الثقافات، ومتضاربة الروافد. فلا يمكن اختصارها في السهول والمنخفضات، ولا في الجبال والمرتفعات، ولا في المجاري والوديان والبحور، ولا في الصحاري والغابات، بل قد تفاجئك الطبيعة باختلاط كل هذا في بوتقة اسمها المغرب: بلد يطل على أوروربا، وتضرب جذوره في العمق الإفريقي. بلدٌ ظلت جغرافيته تفاجئنا حَدَّ التناقض الخلاق والكابح على السواء.
لم يستطع التحليق فوق أراضي المغرب الشاسعة الفسيحة، الخالية والعامرة، من شماله إلى جنوبه، من شرقه إلى غربه، من الحسيمة إلى طنجة، من فاس ومكناس إلى سلا والرباط والصويرة، من مراكش والعيون وطرفاية فالداخلة كمدن واقعة في عمق الصحراء المغربية، وغيرها من الحواضر والبوادي أن يحقق مسحا شاملا لجل الجغرافيات والثقافات المغربية، ولكنه قدَّم الأهم، واختصر الأجمل الذي تمكنت الكاميرا المتحركة، المتعالية، في رصده بطرق خاصة. إن الرؤية الفوقية لا تسحق الموضوعات دائما، بل تكون ناثرة لها فيما يشبه العصف الذهني الذي يفضي بالشخص إلى جمع الأفكار قصد صياغتها في مفهوم تصوري قد يشمل تطور المكان في الزمان.
التقطت كاميرا المخرجين بعض تفاصيل الحياة في المغرب، والتي وإن كان بعضها مشحونا وممتلئا بالكليشيهات المتداولة والمعروفة إلا أنها شكلت في عمومها لوحات فنية جميلة كمنظر السوق الأسبوعي للمواشي (الأغنام) وسوق الخضر والفواكه ذي الألوان العاكسة لما هو موجود في الطبيعة، ووفقا لما يستعمل الناس منه وما يتفاعلون معه؛ إذ لا يمكن فهم استعمالات الألوان خارج المنظومة الثقافية السائدة في بلد من البلدان، وكذا ضمن تفاعلها مع الثقافات الأخرى، وهي مسألة تضع ما هو محلي ضمن دينامية متجاوبة مع ما هو كوني، وتدفع الأنا نحو الدخول في علاقات التبادل مع الغير، وللثقافة والحضارة المغربيتين ما يلخص هذا المسار التفاعلي مع روافدهما الثقافية الأمازيغية والإفريقية والعربية والإسلامية واليهودية والأوروبية وغيرها.
يتقاطع أسلوب التصوير مع منجزات المخرج الأول البصرية السابقة من حيث ضبط إيقاع المَشَاهِد واللقطات، والتحكم في التأطير، والتركيز على بعض التفاصيل رغم تنوع المناظر، وشساعة الامتدادات، وتغيير مسافات التصوير التي تمنح للمُشَاهِد فرصةَ الاقتراب أو الابتعاد من الموضوع، وفي ذلك تحفيز له على مد الجسور التواصلية الممكنة معه، واتخاذ الحكم أو القرار المناسب تجاهه. غالبا ما يشجع التصوير العلوي للأشياء والموضوعات على وضع المتلقي في حالةٍ تَتَّسِمُ بتجاوز طابع الثبات خصوصا وأن زوايا الالتقاط من أعلى متحركة في مجملها، الأمر الذي يضفي نوعا من الحركة الدائمة على ما هو مُصَوَّر، وأعتقد أن هذه الرؤية تلائم التغييرات والمخاضات التي يعرفها المغرب كدولة وكمجتمع سواء في شقها البشري أم الطبيعي.
اختار المخرجان رؤية شمولية للمغرب أساسها وحدته الجغرافية، وهي المسألة التي ركز عليها التعليق الذي أنجزه الصحافي الفرنسي المغربي علي بادو دونما خلوه من الذاتية التي تشير إلى الانتماء الفاسي (نسبة لمدينة فاس) بكل حساسياته وحمولاته وقيمه سيما وأن المدينة تراءت فيها بناية “القرويين” كقلب نابض ودال على القيم الكبرى التي ضَخَّهَا المغرب في المنظومة الإنسانية، فلم تكن المدينة، ولا ذاك البناء، على مَرِّ العصور، مجردَ مسجد أو جامعة للتعليم التقليدي العتيق، وإنما أسستها امرأة اسمها “فاطمة الفهرية” سنة 859 ميلادية، كما أنها لم تكن تُدَرِّسُ الدين بمعناه المتزمت، بل ظلت منارة روحانية غَدَّت المغاربة وغيرهم من الشعوب الإفريقية والعربية والأوروبية برؤى اجتهادية متجددة حول الحياة والمصير.
لم يضاه تلك الحاضرة في شأوها سوى مدينة مراكش باعتبارها مهدا لجل الإمبراطوريات التي حكمت المغرب والمغرب الكبير وجزءا ممتدا من أوروبا وإفريقيا، والتي اهتمت الكاميرا بحديقتها الشهيرة “المنارة” التي يَحُفُّ الزيتون حَوْضَهَا المائي الذي يلخص، بدوره، قصة عشق المغاربة للطبيعة والتنزه في الماء والخضرة ولقاء الوجوه الحسنة. وفي نفس السياق، حلقت الكاميرا فوق حديقة “ماجوريل” التي ارتبطت باسم الفنان التشكيلي الفرنسي الذي كان مرسمه بها، وآلت فيما بعد لمصمم الأزياء “إيڤ سان لوغان”؛ ومن ثَمَّةَ قَصَدَت الكاميرا ساحة “جامع الفناء” لتغوص بمنظارها المفتوح وسط دخانها وأهازيجها وزُوَّارِها الباحثين عن كافة أشكال المتعة، ففي هذا الفضاء يجتمع العالم ليتحدث لغة أخرى تختصر كل اللغات لأن عوالمها تقترح التحليق فيما وراء الكلام والمادة.
أشار الفيلم إلى بعض المنجزات الضخمة والرائدة كمحطة “نور” بمدينة ورزازات باعتبارها أكبر منجز عالمي لتوليد الطاقة الشمسية البديلة عن الطاقات الناتجة عن المحركات الهادرة لمنتجات البترول والفحم الحجري، والمسهمة في تقليص غاز الأوكسجين وطرح ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات التي ترفع من حرارة الأرض، فتذيب الثلوج، وتقضي على التنوع البيولوجي على الأرض. ويقدم الفيلم، أيضا، جسر “أبي رقراق” أو “سلا” المعلق، الحامل لمدار الطريق السيار المحاذي لمدينة الرباط، وغيرهما من النماذج الحضارية التي ستظل علامات مميزة لخصوصيات الإبداع المغربي.
أنجز المصور الفوتوغرافي المخرج “يان أرتيس برتران” عشرات الكتب الجميلة المكرسة لتصوير الطبيعة الحية (الإنسان، الحيوان) والجامدة (المناظر الطبيعة) كما أخرج عدة أفلام تسير في نفس الاتجاه، ولعل النقطة الجامعة بين أعماله تتمثل في اختياره التصوير من فوق، والذي نجح فيه بشكل مختلف لأن هدفه الكوني يتجلى في إظهار الغنى البيئي لكوكب الأرض، والتحسيس برهافته مما يستدعي انخراط الأفراد والدول في المحافظة عليه، والمغرب من ضمن هاته الدول التي تتوفر على بيئة متنوعة، وهو منخرط – بما استطاع – ضمن تلك الاستراتيجية العالمية بشكل فعال سيما بعد احتضان مدينة مراكش لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ، ما أسفرت عنه من توصيات متفاوتة ومتضاربة حول مناخ هذا الكوكب الفريد الذي نسكنه ويسكنا.