المسافة صفر”.. الماضي في قفص الإتهام
خالد عبد العزيز
“أحب مشاهدة الأشياء من الزوايا المختلفة التي تُثير الكثير من الفضول للوصول إلى إجابات، وبعضها تنتهي بلا إجابة”..
هذا ما يقوله المخرج السعودي “عبد العزيز الشلاحي” في معرض حديثه عن رؤيته للسينما. وبالنظر لهذه الجُملة ومع تأملها، نجدها مُعبرة عن عالمه السينمائي القصير نسبياً، فقد أخرج فيلمين روائيين طويلين، أخرهما هو “حد الطار” الذي أنتج عام 2020، وكان الفيلم الأول هو “المسافة صفر”، من إنتاج عام 2019، وكلاهما يُقدم المجتمع السعودي من واقع رؤية تشق الواقع دون مواربة، مُقدمة إياه عبر زاوية أكثر إتساعاً، تحمل بين طياتها إنعكاساً لما يدور ليس في الخارج المجتمعي، لكنها تنطلق لرؤية أكثر رحابة للنفس البشرية.
من هذا الإطار تنطلق تيمة فيلم “المسافة صفر”، عبر طرحه المتوازي لفكرتي الإنتقام والماضي، وكيف يُصبح هذا الزمن السابق عبئاً لا يُقَدر على حمله، فالفيلم يعني بالعلاقة المُترابطة بين الماضي من جهة والإنتقام من جهة أخرى، وكيف يُصبح كل منهما وجهين لعملة واحدة، أو بالأحرى، كيف يقترن كل منهما بالأخر في جدلية، لا ينبعث من ورائها سوى المتاعب.
تدور أحداث الفيلم الذي كتب له السيناريو الكاتب “مفرج المجفل”، حول “ماجد” (خالد صقر) الذي يملك ستوديو للتصوير الفوتغرافي في أحد أحياء العاصمة الرياض، تتبدل حياته فجأة، بعد إكتشافه تناثر ذكرياته وإصابته بالنسيان المؤقت، حينها تتحول حياته لسلسلة مُتعاقبة من الأزمات، وتحديداً بعد عثوره على ما يُثبت تورطه في جريمة قتل لا يدري عنها شيئاً.
سرد دائري
عبر لقطة تأسيسية نرى خلالها جثة مُغلفة بدمائها وبجوارها مسدس، تأتي بداية الفيلم من خلال زاوية مُقربة تتسع تدريجياً حتى تكتمل الرؤية، ثم تواصل الكاميرا صعودها لأعلى في بطئ مقصود تماماً يتناسب مع الأجواء المُطعمة بالإثارة، ليطالعنا وجه “ماجد”، الذي يقف مصدوماً، لا يدري من أمره رشداً.
هكذا يبدأ الفيلم بهذا المشهد، الذي ستعود إليه الكاميرا بعد ما يقرب من سبعين دقيقة، أي مع اقتراب الفيلم من غلق قوسه الافتتاحي، في سرد دائري، يتخذ من هذه الحادثة ركناً أصيلاً لدفع الأحداث للأمام، فقد نسج السيناريو أحداثه في إطار من الغموض الكثيف، في بناء يقترب في حذر وحياء من تقنيات ما يعرف بـ “الفيلم- نوار”، فنحن أمام جريمة قتل، لا ندري من فاعلها؟ ولا ما هي دوافعه؟
ومن واقع هذه الأسئلة الباحثة عن إجابة، نتوغل تدريجياً في السرد، الذي يتعمق كذلك في حياة البطل، كاشفاً بقدر محسوب، ما تيسر من المعلومات الكافية لمواصلة الحبكة، كل هذا وفق إيقاع متمهل يتناسب مع أسلوب الفيلم من ناحية، ويتماشى مع البيئة العامة للأحداث المنسوجة بحرفية من ناحية أخرى.
فقد اختار السيناريو أن يعود بالزمن للوراء قليلاً، وتحديداً إلى عام 2004، في ظل وضع اجتماعي مغاير عن اللحظة الآنية، يملك معطيات مغايرة عن الواقع الحالي، فالشخصية الرئيسية “ماجد” تُعاني من أسر ماضٍ يسعى دوماً للهرب من زمامه، حيث الإنتماء للجماعات الأصولية، وفي لحظة فارقة يقرر أن يشترك مع زملائه في إشعال النيران في أحد ستوديوهات التصوير الفوتوغرافي، فهم يعتقدون أن التصوير حرام، وفق فهم مغلوط للمفاهيم الدينية، هكذا الحال في تلك الفترة، التي يقول عنها “عبد العزيز الشلاحي”: “إن مشكلتنا أن هناك أناسا يخجلون من الماضي، وبعضهم يبدأ بإنتقاد أي عمل يتخلله مرور على تلك المرحلة الزمنية”، فهل يطرح الفيلم في جانب منه، قضية التصالح مع الماضي؟
انتقام الماضي
يقتحم السيناريو تلك المنطقة الرمادية المتعلقة بالماضي، وتحوله من ذكرى، لها لها وعليها ما عليها، إلى قوة مُعادية تُطارد صاحبها، “ماجد” الذي يجد نفسه أمام ملابسات غريبة، لا يدرى على وجه الدقة، إن كان هو فاعلها أم غيره، تتماس كلها مع ماضيه السابق وعلاقته بصديقه “مروان” (أسامة صالح) الخارج لتوه من عقوبة السجن، بعد إلقاء القبض عليه أثناء فراره بعد إحراق ستوديو التصوير الفوتغرافي، وكان يقبع بين الجدران حبيساً، بينما يتمتع “ماجد” بحياته حراً، هنا تنشأ نقطة صراع تُفضي إلى انتقام له ما يُبرره، هكذا يخلق السيناريو الأحداث وفق هذا المنوال.
تتوالى المواقف التي تجعل “ماجد” يتحول من إنسان تقليدي يتمتع بقواه الذهنية بصورة طبيعية، إلى حطام إنسان، فقد أصبح يتشكك فيما حوله، تعاجله ذاكرته بالنسيان، في دوامة لا نهائية، مثلما نراه في أحد المشاهد الرئيسية أثناء عثوره على مسدس بداخل سيارته، وكذلك بعد إمساكه بعبوة دواء العلاج النفسي التي يجدها مدسوسة عمداً بين أغراضه، عندئذ يسعى للإمساك بتلابيت ذاكرته المُهترئة، لكنه لا يصل إلى شيء في دائرة مُحكمة الغلق، لا يملك مفاتيح شفراتها سوى صديقيه “لامي” (يعقوب الفرحان) و”مروان”، فالصراع هنا يدور بين شقين لا ثالث لهما، أولهما صراع خارجي ضد الذاكرة المهترئة بفعل الانتقام، والشق الأخر داخلي، أي يتفاعل في الداخل الإنساني، وهو الجبهة الأقوى، حيث مواجهة الماضي بكل تفاصيله التي تنساب شيئاً فشيئاً، مع استمرار السرد في التقدم للأمام نحو الذروة المنتظرة.
من ثم يبدو الماضي هنا في وضع اتهام صريح، يسعى “ماجد” للهرب منه، خاصة إذا اقترن هذا الزمن السابق بغريزة الانتقام، حينها يصبح الهرب هو الحل والمفر الوحيد، في سيزيفية لا تكاد تنتهي، وهذا ما يرغب الفيلم في قوله والتعبير عنه، ألا وهو كيف يتحول الماضي إلى عدو ينهش صاحبه على مهل؟
الجاني والضحية
تتشابك الأحداث وتتلاحق في تدفق وإحكام، وكلها تدور في فُلك “ماجد”، فقد نسج السيناريو الأحداث وجعلها تدور حوله، باعتباره المركز والمحور، نرى العالم والمحيط الخارجي من واقع نظرته الذاتية لما حوله، فالرؤية مُشوشة، تِبعاً لما يحدث له، وبالتالي تنعكس هذه النظرة على الفيلم، فما نراه على الشاشة يُصاب هو الأخر بالتشوش والإرتباك المقصود، فنحن أمام إنسان يُعاني من النسيان والإضطراب النفسي، فقد بدت الشخصية مفعولا به، فهو لا يحرك الأحداث ويدفعها للأمام، بقدر ما تُحركه قوى أكبر، تُدير الدفة في الخفاء.
ولأن الفيلم السينمائي يعتمد على النواحي البصرية في المقام الأول، فقد جاءت حركات الكاميرا وزوايا التصوير المتوسطة الوصفية، متوافقة مع منطق الدراما، بدون استعراض عضلات فنية، لا حاجة إليها، فالرغبة هنا في بث الموضوع والحث على التأمل، من ثم فالتعبير السلس سواء على المستوى السردي أو البصري، هو ما يُميز هذا الفيلم، لذا بدت باقي العناصر الفنية من إكسسوارات تنتمي للفترة الزمنية، وغيرها من النواحي الفنية، متوافقة ومُندمجة سوياً في وحدة عضوية واحدة، لا يُمكن إنكارها.
إلا أنه رغم جودة الفيلم الفنية ومستوى طرحه الفكري المُثير للتأمل، تتواجد بعض الهنات والهفوات على مستوى السيناريو، وتحديداً في فصله الثالث الذي غَلب عليه الإستسهال في الكتابة، حيث يتم فيه كشف أضلاع الجريمة، والفخ المنصوب للبطل الرئيسي.
ومع ذلك، يبقى “المسافة صفر” فيلماً ذكياً، لا يستهين بعقل متفرجه، ويملك القدرة على طرح الأسئلة لا عن الماضي فحسب، بل تمتد هذه المناوشات للذاكرة الإنسانية، ومدى قدرتها على التمسك بأهداب ما مر وعبر عليها، وترك ولَفظ ما لا يستحق البقاء في حضرة الزمن المُنجرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ