المخرج المغربي سعد الشرايبي: سينما المرأة في أبهى صورها
منذ بداية سنوات السبعينات من القرن الماضي، عرفت الحركة السينمائية المغربية، خاصة في شقها الثقافي، المبني على العطاء والنضال ونكران الذات، حضور أسماء فنية ثقافية خالدة، أسماء وسمت المشهد الإبداعي المغربي بميسمها الخاص، وساهمت في عملياتالتشييد والبناء، بعض هذه الأسماء معروفة ومعلومة عند الجميع، منها من حاول منذ البدايات ولغاية الوقت الحاضر، احتلال الواجهة والاستيلاء على الإرث النضالي ومسح الذاكرة الجمعوية الجماعية، والبعض الآخر، فضل التواري والتراجع للوراء تاركا الجمل بما حمل، متوجها نحوعوالم حياتية وثقافية أخرى مختلفة، وطرف ثالث ظل مؤمنا وحاضرا ومساهما دون ضجيج أو لغط أو ادعاء أو ارتماء في الهواء، الهواء الذي سممه بعض الكتبة ومؤرخي اللحظات الثقافية الفارغة المشبوهة، والسينمائيون النازلون من فوق بالمظلات البلاستيكية المثقوبة.
سعد الشرايبي واحد من هؤلاء المناضلين الحقيقيين المنتمين للطرف الثالث، الذين لم يخونوا يوما المبدأ والعهد، ولم يسعوا لاحتلال الواجهات دون وجه حق، لقد ظل دائما في مقدمة المكافحين ” المقاتلين”، من أجل ترسيخ مبادئ العمل الجمعوي السينمائي الجاد، وتكريس بكل فخر واعتزاز أخلاقيات الاشتغال، ومد يد العون دون من أوتبجح أوتظاهر، بل والهروب من دائرة التصفيق المقيت المسبب للصمم، والتنميق والقول المرصوص المبني على السجع الفارغ الواهي.
لقد كان ولا يزال على رأس قائمة الأسماء الخالدة في كتاب الإبداع المغربي، بالنظر لحجم الحضور والمساهمات في تقديم خدمات جليلة وتقديم الذات والإمكانيات الخاصة كقربان على مذبح دعم كل المبادرات والمحاولات التي كانت تروم تعميق الفعل السينمائي الوطني، وتجذير مفاهيم البذل والعطاء والتضحيات الوازنة في جعل الثقافة والفكر، السند الأساس لانطلاق تجاربنا الفنية، وفتح طريق العمل والأمل أمام الطاقات الشابة الطموحة، ورفع راية المملكة في المحافل القارية والدولية.
سعد الشرايبي، كتلة حقيقية من المشاعر الإنسانية، وقلب فياض/ نابض بالصفاء والمحبة المسيجة لعشق البلاد والعباد، بل رجل/ فنان، تجمع فيه ما تفرق في غيره، من معاني الود والاجتهاد وصفاء السريرة البعيدة عن الحسابات الضيقة والأرباح الذاوية الخاسرة .
حركة الأندية السينمائية المغربية تعرف وتشهد له بقيمة ما قدمه من تضحيات، سواء في إطار ” نادي العزائم” ، الحامل سنوات السبعينات والثمانينات، نار الرغبة والحرقة في تحويل الأماكن البيضاوية إلى فضاءات سينمائية، أوفي سراديب الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، التي كان له فضل تأسيسها رفقة إطارات سينمائية ونقدية سنة 1973، (إطارات وشخصيات، حاول/ يحاول بعض سماسرة تاريخنا الثقافي الجمعوي، مسحها بكل قلة حياء، وجعل فعل التأسيس مبتور وواقع في أسر اسم واحد، اسم لا ننكر قيمة ما قدمه وساهم به في عملية التأسيس، لكنه اسم لم يكن يتيما وحيدا)، تأسيس لم يأتي هكذا عبثا دون تضحيات، لقد جاء مغموسا بلون المعاناة الناتجة عن قمع السلطةوضغط المجتمع الواقع تحت ثقل سنوات الرصاص، ونفور العائلات خوفا على فلذات أكبادهن من الاعتقال.
العائلة
عائلة الشرايبي ” ابتليت ” بسعد، هي العائلة الفاسية المحافظة، المنتمية قلبا وقالبا لدائرة الأسر الغنية المنعوتة بكونها محظوظة، الأسر البعيدة عن هم الوقت و”أساطير” الإقدام والشجاعة ومواجهة غضب المخزن الذي لا يرحم، لكن هذا الابتلاء سيتحول ضمن سيرورة الأيام والشهور والأعوام، إلى مصدر عز وفخر، بل عنوان للشغف والشغب الجميل، مع تألق الابن بانجازاته الفيلمية وقبلها بكتاباته النقدية وآرائه السياسية وإضافاته الجمعوية الملتزمة، أراء بناءة لم تراهن يوما على المغامرات العدمية الفجة، القائمة على المواقف المتبجحة، رغم انتمائه بشكل ظاهر لليسار وشعاراته الواضحة في ضرورة المجابهة والمواجهة من أجل الهدم لبناء غد أفضل.
الرفقة الطيبة المؤمنة بعمق مبادئ الخلق والأخلاق، كانت السند الأقوى لسعد في تسطير مساره المستقبلي المتوحد مع مفهوم صنع سينما مختلفة ومنتصرة لقضايا الوطن والمواطنين، رفقة ضمت ألمع شباب مغرب خلال تلك المرحلة (مرحلة الستينات والسبعينات)، شباب حالم، عمل على تشييد أسس سينما وطنية، سينما تنهل من المدارس الحداثية الثورية للمرحلة، سينما أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، دون التفريط في الاستفادة من السينمات التجريبية بالقارة الأوروبية الغربية ومدارسها المختلفة، حيث تم إنتاج أفلام بشكل متكاثف جماعي.
لقد ساهم سعد الشرايبي، إلى جانب، مصطفى وعبد الكريم الدرقاوي وعبد القادر لقطع ومحمد الركاب ومصطفى الدزيري، بشكل فاعل وفعال، في خروج الأفلام الأولى للمجموعة (أغلب هذه الأفلام من توقيع المخرج الظاهرة مصطفى الدرقاوي)، لقد كان واحدا من أنشط أفراد هذه الرفقة الطيبة المبدعة، وأكثرهم مبادرة وارتماءا في أحضان التجارب المتتالية للسينما المغربية، تجارب أهلته للاعتماد على النفس واكتساب الدربة لاختيار طريق مخالف ومتميز، طريق تتقاطع مع تجارب زملائه في الوفاء للمبدأ الإبداعي، لكن تختلف بشكل كبير في رؤيتها المنتصرة للسينما المجتمعية القحة المدافعة عن حق الإنسان في الوجود والعيش الكريم.
البدايات
بداياته الإنتاجية والإخراجية، وقبل ذلك كتاباته السيناريستيكية، كانت من خلال مجموعة أفلام وثائقية، نذكر منها: “بوعادل” ( 1978 ) و”كلمات وتعابير” (1980)، قبل المرور نحو انجاز أول أفلامه الروائية الطويلة، الذي جاء قويا ودالا، بعنوان ” غياب” (1980)، فيلم أو تجربة أولى، كانت ضرورية للانطلاق وكسر مشاعر الرهبة والوقوف وحيدا دون سند أومعين، وراء الكاميرا في تجربة روائية مختلفة، وإنجاز عمل بإمكانيات ذاتية جد محدودة، في زمن لم يكن إلا القلة القليلة من السينمائيين المغاربة من ركبوا هذه المغامرة الوخيمة ماديا ونفسيا، فيلم عالج مفاهيم أصيلة بضرورة التمسك بالأرض ورفض الخيانة والدفاع عن الشرف، عمل جاء متأثرا بفيلم “الأرض” ليوسف شاهين ونبرته الثورية، بل متأثر بباقي الأفلام الواقعية العربية والدولية خاصة منها الايطالية.
بعد هذه التجربة الأولى، انتظر سعد طويلا قبل الارتماء في أحضان تجربة إنتاجية وإخراجية لفيلم روائي طويل ثان بعنوان ” أيام من حياة عادية ” (1990)، فيلم استعاد فيه اللحظات الأكثر تباينا وثقلا من تاريخنا المعاصر،حيث يتداخل الماضي القريب بالحاضر القائم، الحاضر القائم بإكراهاته ومرارة ثماره، من النضال ضد الخونة والاستعمار للنضال ومواجهة أعوام الضنك والقمع والمعاناة.
لقطة من فيلم “نساء في مرايا”
عمل جاء أكثر نضجا فنيا وتقنيا، ومستوعبا لدقة وصعوبة المرحلة، بل قراءة واعية لمغرب معاصر يحاول أن يواجه اكراهات سياسية واقتصادية ضاغطة، وتطورات مجتمعية غارقة في آتون رجات و قلاقل وانتفاضات قوية مؤثرة.
الاستيعاب التحليلي لواقع المجتمع المغربي بمختلف تناقضاته وخلفياته الثقافية والرمزية، دفعت سعد في أفلامه التالية، معالجة قضايا اجتماعية، خاصة منها قضية المرأة، برؤية سينمائية متنورة ومجددة أسلوبيا، بل وثورية من حيث الطرح والمقاربة، فالفيلم الثالث ضمن مساره السينمائي، المعنون ب “نساء ونساء” (1997)، لم يكن حكاية سينمائية بسيطة، لأربع نساء مغربيات، تجمعهن عرى الصداقة ومواجهة قمع رغباتهن، من طرف المجتمع الذكوري الذي لا يرحم، بل جاء ضربة معلم تقنيا وفنيا وتوهجا حقيقيا للخطابات المتنورة المنتصرة، دون لف أودوران، للأحلام النسائية المجهضة، والرغبات الإنسانية الأكثر رقة ومعقولية، رغبات نسائية ساعية لصنع مستقبلهن ورسم ملامح مسارهن دون تدخل من الرجل/ الذكر، الرجل الذي يمثله الأب أو الحبيب أوالزوج أوالسلطة الظالمة المتكئة على فكر خرافي متخلف.
نجاح هذه التجربة وشهرتها الجماهيرية، دفعت بنصير المرأة (لقب أطلقته عليه الصحافة المغربية)، أن يطرق بابا آخر من الأبواب التي كانت مغلقة أمام السينما المغربية، باب توظيف التاريخ المغربي وتوثيق مراحل النضال الوطني ضد المستعمر، نضال تحقق بسواعد رجال ونساء على حد سواء، سواعد آمنت بعزة الوطن وكرامته، فكان الذي كان، مواقف مغربية بطولية وأسماء نضالية محفورة على جبين السؤدد والمجد، أسماء سيتم الاحتفاء بها بشكل ملحمي في “عطش” (2000))، فيلم جاء بمثابة وثيقة تاريخية تضاف للوثائق المرئية القليلة التي أرخت لمسارات مغربنا الكفاحي، لكن ما ميزه عن غيره من الوثائق، أنها جاءت بلغة سينمائية شاعرة وأداء وازن باذخ لعشرات الممثلين والنجوم المغاربة والأجانب، خاصة منهم عبد الله ديدان ومنى فتووفريد الركراكي ومحمد خيي ومحمد الرزين وثريا جبران وعبد القادر لطفي وراوية.
سنوات الرصاص
سنوات الرصاص والقمع المسلط ضد الطاقات المتنورة الرافضة لقبح الوقت ، ستشكل هي الأخرى محورا أساس من محاور تفكيره وإبداعه المنغرس في تربة المشاركة والمساهمة للكشف عن الحقيقة المغيبة، وقراءة واعية لصفحة أليمة من تاريخ التعذيب بالمغرب، تعذيب النفوس الطاهرة، خاصة منها النفوس النسائية الثائرة / الساعية لبناء مغرب القرن العشرين.
ففيلم ” جوهرة بنت الحبس” (2003)، لم يأتي كفيلم وكفى، بل إعادة حقيقية لكتابة مرحلة أليمة من تاريخنا السياسي المعاصر، وكشف عن آلامنا التي لن ننساها، آلام لم يرد البعض آنذاك، من أصحاب السلطة والجاه، أن يتم الكشف عنها أوخروج تفاصيلها للجمهور الواسع، من هنا كان التعتيم بشكل ذكي على هذا الفيلم، فلم يتم الاحتفاء به (على غرار أفلامه الأخرى) أوخروجه للقاعات السينمائية التجارية بالشكل المطلوب، ولم يتم تقديمه في حلة ملائمة إعلاميا ونقديا، وكأن الإعلاميون والنقاد يأتمرون بأوامر عليا، أوامر تمعن في ذر الرماد على العيون والتمويه على الجاد والأصيل.
الهوية وتنازعاتها العصية على الضبط والربط والمعالجة، كانت محور الفيلم التالي الذي أخرجه سنة 2007، فيلم جاء عميق الدلالة والإشارة، وبعنوان له أكثر من معنى: “إسلام يا سلام”، فيلم طرح بشكل جدي، مشكلة نظرة الآخر (الغربي) لثقافتنا العربية الإسلامية، من خلال بوتقة الهجرة والزواج المزدوج الذي تخبط ويتخبط فيه الكثير من مهاجرينا، زواج يكون دائما عرضة لكل المشاكل الاجتماعية والصراعات النفسية، وقبل ذلك للتقلبات السياسية (كأحداث 11 سبتمبر2001)، التي قد تحكم بالسلب على مفاهيم التعايش والتفاهم وتقبل ثقافة الشريك.
رغم هذه الانعطافات الفنية والهجرة الموضوعاتية نحوقضايا أخرى، ظل سعد الشرايبي وفيا للمرأة، نعم المرأة المغربية وطموحاتها اللامتناهية، طموحات لا تتمثل في المطالبة بحقوقها فقط، وهي حقوق ضمنتها إلى حد ما مدونة الأسرة المغربية لسنة 20004، بل طموحات بتصورات أكبر، تصورات تهدف إلى الاعتراف بكينونتها ووجودها الشخصي المبني على أسس الحرية في عملية تحصين الذات من تدخلات الآخرين وتوجيهاتهم المشمعة المريضة بتاريخ مكبوت وسلسلة طويلة من المعتقدات والمفاهيم الذاوية المتجاوزة.
نساء في مرايا
فيلم “نساء في مرايا” ( 2011 )، أراده سعد أن يكون مرافعة سينمائية ثورية، في تمجيد أحلام المرأة وحرية اختياراتها وتطلعاتها نحوغد أفضل، عن هذه التجربة، قال (ذات تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء): “نساء في مرايا”، إطلالة على موقع المرأة في مجتمع اليوم، وعلى علاقتها مع الرجل من جهة ومع نساء أخريات من جهة ثانية، وإن كانت هذه العلاقة علاقة تآزر أم تنافس، فبعد كانت النساء يطالبن سنة 1998 بحقوقهن، فهن يطالبن اليوم بالاعتراف بكينونتهن وقدراتهن داخل البيت وخارجه..”.
بعد كل هذا العطاء الثقافي والإبداعي، لازالت الهمة الإبداعية لهذا المبدع متوقدة، وثقافته الجمعوية نابضة، وتجربته النضالية متنورة مكافحة، بل همة واقفة، في وجه المتغيرات الطارئة المهددة للحريات، والمؤامرات الرجعية الموبوءة، والمقالب السياسية المشبوهة الساعية للنيل من عزيمة المغاربة في بناء مغرب ديموقراطي حر.
ولعل ترأس سعد الشرايبي “إتحاد المخرجين والمؤلفين” منذ أربع سنوات، ودفاعه من خلال هذا الإطار الجمعوي السينمائي، عن حقوق الفن والفنانين المغاربة بشكل مستميت، وجه من الوجوه الناصعة البياض، لفنان أحب الوطن والسينما، فأحبته الجموع السينمائية المغاربية ، وقبلها الجمهور الواسع العاشق لسينماه الوطنية.
أكرر في النهاية، سعد الشرايبي مخرج أعطى الشيء الكثير من روحه وذاته، لعزة السينما المغربية ورفعة قضاياها المجتمعية، فأحبه لذلك، الجمهور المغربي الواسع والمبدعون السينمائيون المغاربة، نعم السينمائيون المغاربة الحقيقيون، وليس “السوليمائيون” المنزوون والمنتصرون في نفس الآن، لعوالم اليباب والخراب والحلكة الدامسة المظلمة.