“القضية 23” جراح لا تندمل باعتذار أو سماحة ولا حتى الدم

أحدث فيلم “القضية 23” أو “الإهانة” للمخرج اللبناني زياد دويري ضجة في الأوساط السينمائية العالمية والعربية، فهو الفيلم اللبناني الأول الذي يترشح للأوسكار، وواحد من أهم الأفلام التي عرضت في مهرجان فينسيا الـ 74 ونافس في المسابقة الرسمية، وحصل بطله كامل الباشا على جائزة أفضل ممثل في هذا المهرجان، وحاز على اهتمام النقاد بأوربا والولايات المتحدة، وعلى الصعيد العربي عُرض في البداية بمهرجان الجونة ليحصل على انتباه الكثير من النقاد، قبل عرضه بصورة تجارية بمصر لتندلع حرب على وسائل التواصل الاجتماعي لاتهام مخرجه بالتطبيع ومحاولات الكثيرين منع الفيلم من العرض.

لكن في الحقيقة للحصول على المتعة السينمائية الحقة يجب إنحاء كل ما قلته في الفقرة السابقة جانبًا، ومشاهدة هذا الفيلم بمنتهى الانتباه للتمتع بتجربة فنية ممتعة وبالفعل رائدة في العالم العربي.

قصة شائكة مؤلمة مكتوبة بغاية الحرفية:

تدور أحداث الفيلم في وقتنا الحالي، ولكن في الحقيقة ترجع جذورها إلى عشرات السنوات، ربما إلى عام 1948 وبدايات النكبة الفلسطينية.

تعامل زياد دويري وجويل توما مع القضية التي يتناولها فيلمهما بذكاء ورقي تامان، فابتعدا عن المباشرة والخطابية والرسائل الموجهة، واعتمادا على ذكاء المشاهد فقاداه بسهولة إلى أسباب الصراع الذي يبدو ظاهريًا عراك بين رجلين حادي المزاج حول مزراب يتدلى من شرفة أحدهما.

وتم التأسيس لتاريخ الشخصيات خطوة بخطوة، منذ مشهد البداية الذي بدأت في اجتماع سياسي يحضره البطل طوني للحزب الذي يؤمن بمبادئه وتلك هي المعلومة الأولى التي يخبرنا بها كاتبا السيناريو عن البطل، ثم يعود لمنزله وزوجته الحامل ويتحدثا عن رفضه لترك المدينة والعودة للقرية دامور مرة أخرى رغم تعميرها، لنحصل على نقطة أخرى محورية في رسم شخصية طوني.

وهكذا تم الأمر مع البطل الثاني للفيلم ياسر سلامة، فلم نعرف جنسيته ولا ديانته ولا حالته الاجتماعية إلا من ردود أفعال من حوله وأولهم طوني، وحتى منتصف الفيلم لم نعرف كيف اشتعل الغضب في قلب طوني إلا عندما سألته كيف عرفت جنسية السيد ياسر فرد عبر اللهجة.

لم يقع دويري في فخ المباشرة في القاء المعلومات على المشاهد هذا الفخ العربي الشهير، الذي وقع فيها مخرجين كبار على مر السنوات ظنوا أن المشاهد العربي يحتاج إلى محاضرة توضيحية مع كل فيلم حتى يستطيعوا فهمه.

النقطة الثانية التي أظهرت وعي دويري وتوما هي في رسم الشخصيات، فعلى الرغم من التأصيل الواضح لهوية كل من البطلين طوني وياسر، وإظهار الاختلافات بينهما، إلا أنهما في الحقيقة متشابهان كثيرًا، وتم إظهار هذا التشابه بصورة ابتعدت أيضًا عن الفجاجة، فنحن نعلم منذ البداية أن كلا الرجلين يعيش غضبًا مكبوتًا، وذو شخصية عصبية سريعة الإشتعال، ولكن كلاهما رجلًا شهمًا يساعد حتى عدوه، والأهم أن كلاهما لاجئ عاش نفس المأساة بشكل أو بآخر، وكلاهما يستحق التعاطف رغم عيوبه الكثيرة.

استطاع السيناريو جعل المشاهد يضع نفسه في حذاء كل من البطلين، يرى الآخر من وجهة نظره، والتي تحتمل بعض المعقولية في النهاية، وقد ظهر هذا جليًا في فكرة المحاكمة، والتي على الرغم من كونها تعتمد على الخطابات إلا إنها لم تكن فجة موجهة لمشاعر المشاهد قدر ما كانت موضحة مبينة نقاط قد غابت عن عيون أحد البطلين عندما ينظر لغريمه.

عن الأداء والإخراج

كثيرة هي السيناريوهات العظيمة التي بهتت على الشاشة بسبب أداء ممثلين متواضعي الموهبة، خاصة مع سيناريو مثل ذلك الخاص بالقضية 23 الذي تحكي فيه القصة بالنظرات أكثر من الكلمات، ولكن لحسن الحظ قدم الأدوار الرئيسية في الفيلم ممثلين على قدر عالي من الموهبة والحرفية وأضفيا الكثير من الحرفية على كل لقطة ومشهد، بداية من عادل كرم الممثل اللبناني والكوميديان الشهير في دور طوني حنا، الميكانيكي الشاب الذي يمتلئ غضبًا على قرية طفولته المدمرة، ثم كامل الباشا الذي حصل على جائزة أفضل تمثيل في مهرجان فينسيا الدولي عن دور ياسر سلامة، كل منهما كان وترًا مشدودًا بالموهبة، استطاع أن يقدم كل ملامح شخصيته بأبسط طريقة ممكنة، وهناك مشاهد معينة لا يستطيع المتفرج سوى التركيز على أداء كل من البطلين فقط دون الاهتمام بأي شخص آخر حولهما.

بالإضافة لريتا حايك كشيرين زوجة طوني المحبة وقوية الشخصية التي تمثل مرآه لخطاياه طول الوقت، وكميل سلامة ودياموند بو عبود بدور محاميا كل من الطرفين، اللذان تألقا في مشاهد المحاكمة بصورة مبهرة.

تمتع فيلم “القضية 23” بإيقاع متسارع يجعل المشاهد مشدودًا أمام الشاشة طوال الساعتين وهما عمر الفيلم تقريبًا، وذلك يرجع لحسن استخدام المونتاج في تقطيع مشاهد الفيلم لنجد كل مشهد ينتهي دومًا بسؤال ننتظر جوابه بالمشهد التالي، وكانت النقطة الإيجابية الثانية في إخراج الفيلم هي اختيار أنواع اللقطات من مقربة إلى كبيرة بالترتيب الذي يجعل المشاهد يتماهى مع الممثل وأفكاره عندما يحتاج إلى ذلك، ثم ينظر إلى الصورة الكبرى فيستطيع استيعاب زخم المشاعر والأفكار التي يقدمها الفيلم.

Visited 33 times, 1 visit(s) today