الفيلم القصير “قطن”: قطرات التواصل بين الحياة والموت
الصمت لغة لا يفهمها الكثيرون، أعتبربها بخبرتي القليلة في الحياة لغة الحكماء ولغة الوجود، هي لغة القدر، فكل الأقدار التي تحدث في حياتنا تأتي بلا مقدمات تأتي بصمت لتضع بين أيدينا أحداث حياتنا، وكل ما في باطنه الحكمة والجوهر الحقيقي لا يأتي إلا بالتأمل والصمت، ونحن علي مدار ما يقرب من 14 دقيقة، نعيش أحداث فيلم “قطن” للمخرج العراقي لؤى فاضل عباس، الذي يرسل إلينا من خلال تقنية السينما الصامتة، دائرة الحياة بين الأحياء والأموات من خلال أمر سمائي يصل بين الحي والميت.
الفيلم يعرض لفتاة تعيش حياة بدوية في قرية النجف الأشرف بالعراق، تقوم برعي الغنم، ولنا أن نقول ما نشاء عن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية البسيطة لهذه لفتاة، التي تمثل “س” من الفتيات الكثيرات اللاتي يعيشن علي هامش المجتمعات لا يعلم حالهم وحجم معاناتهم في تلك البيئة إلا الله.
تخرج الفتاة لتبدأ يومها برعي الغنم، ولكن يداهمها إعصارها الأنثوي علي الأغلب للمرة الأولي، مما يؤدي إلي تلطخ الحمار بالدماء، وبفطرية شديدة تجلس لتنظف الحمار في استسلام تام، كأنها لا تخاف إلا عليه، وعلي الرغم من ظهور بعض علامات الألم على وجهها، وقليل من الاضطراب، لكن ربما كان الأفضل أن يفتش المخرج في هذه اللحظة، لكي يظهر لنا فيم كانت تفكر الفتاة، وبم كانت تشعر؟ هي جلست علي الحشيش تعبث بفروع الشجر المتهالكة، تنظر إلي الأرض بثبات، غير مكترثة بشئ، وكأن شيئًا لم يحدث، علي الأرجح أنها تعلم من داخلها أن أي شئ بخصوص كيانها ليست له أهمية، حتي وإن كان هذا الأمر متعلق ببلوغها، أعلم أن الجهل يجعل الإنسان يستسلم لما يمر عليه، لكن المشاعر منفصلة عن عقولنا وتفكيرنا، هل الفتاة حقا لم تشعر بشئ داخلها سوى بعض الاضطراب والألم فقط، ألم تشعر أنها تريد إخبار أحد؟ ألم تشعر بسعادة أو خوف ورهبه، لم يظهر علي لغة جسدها إلا الرخضوخ، هل الضوء في تلك اللحظة كان مسلطا علي طبيعة استسلام الفتيات في تلك البيئات، أم علي أغوار نفس هذه الفتاة؟
في خط متواز لهذا الحدث تخرج حافلة تنقل ميتًا، و بسبب شدة الهواء يتزحزح غطاء التابوت المبطن بالقطن، وتمر الحافلة علي منطقة الفتاة ليتقابل الحدثان، ليقع ترتيب القدرعندما يتطاير القطن من تابوت الميت، ليصل إلي المكان الذي تجلس فيه الفتاة، وهنا الله خبير بعباده وإن كان الصمت هو لغتهم الوحيدة.
يذهبللفتاة القطن الذي تحتاجه في الوقت المناسب حتي تهدأ روحها وتعود إلي بيتها في سلام، واستكمل الميت طريقه بعد أن أدي آخر مهمة له علي طريق الحياة، فنحن نعيش في هذه الحياة ولا نعرف كثيرا من خباياها مهما بلغ علمنا ومهما مر علينا، فالكثير من الأمور البسيطة الفطرية تبين لنا مدي جهلنا في تريب أمور هذا الكون.ونلاحظ في المشهد النهائي أن كلا من الميت والفتاة اتجها عكس الآخر وقد خيم علي المشهد الإحساس بالطمأنية والسكون، وسطع النور في السماء في اتجاه الفتاة التي تبدأ مرحلة جديدة في حياتها، وغرب الاتجاه الذي يسير فيه الميت.
الصمت كان أبلغ لغة ليصل الفيلم إلي مبتغاه، ولا داع لأن نسقط عليه تأويلات أخرى أو أن نسقطه في رمزية ثقيلة، يكفينا أنه عبرعن معاناة الفتيات في تلك البيئة التي لم تصل إلي مرايا الضوء حتي الآن، وإن كانت تعيش في عالم التأملات حيث الفطرة والبعد عن تكدسات التكنولوجيا وصراعات العولمة.
الطبيعة في الفيلم أضافت إليه الكثير من الحيوية والوجود كأصوات الأغنام، الريح، سير الحافلة علي الطريق، كل تحركات الفتاة، الناس علي الطريق، وأهل الميت في الحافلة، بدا كل شئ وكأنه شئ طبيعي يحدث خارج النطاق التمثيلي، وهناك تحكم كبير في زوايا التصوير، وخطة الإخراج لم تعرف مشاهد ارتجالية، فكل شئ محدد ومحسوب في هذا الفيلم كأننا نسير علي طريق مرصوف بتميز، فالمخرج والفريق بأكمله علي وعي تام بالهدف المصاب.. وأشير إلي عدسة المخرج المتلصصة لما يحدث في الثواني، حيث يستتبع التفاصيل في كل لقطة، ويركز علي أشياء هامشية في اللقطات، وكأنه يمعن الوصف والتدقيق في كل ما يحدث حول تلك اللحظة من حياة الفتاة أو الميت، ليثبت المخرج لؤي فاضل ما قاله مارسيل بروست ” إن ساعة من الزمن ليست مجرد ساعة، إنها إناء مملوء بالعطر والأصوات والمشروعات والأجواء” ، فعلي الرغم من تجسيد الفيلم للقطة وجيزة من الحياة إلا أنها نقلت إلينا مجموعة كبيرة من الأحاسيس المتتالية.
مدة الفيلم: 14 دقيقة
سيناريو وإخراج وإنتاج: لؤي فاضل عباس
قصة للكاتب العراقي: إبراهيم أحمد
مونتاج: ميدو علي
تمثيل: آية