الفيلم الجزائري “بابيشا” في بلاد الحراقات
كانت لي فرصة الالتقاء بالسيدة –صالي شافتو- من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت تشتغل أستاذة الدرس السينمائي في الكلية المتعددة التخصصات بورزازات بالمملكة المغربية، وكان ذلك خلال حضوري لقاء سينمائي بسنة 2012، وتبادلنا أطراف الحديث بلغتها الفرنسية التي تغلب عليها اللكنة الإنجليزية.
حدثتني حينها عن اشتغالها على المقال العلمي حول السينما الجزائرية، وبذلك شدت مسامعي وجعلتني أبادلها النقاش عن السينما في الجزائر، لأحلل نظرتها للجزائر خاصة والمنطقة المغاربية والعربية على وجه العموم، فوجدتها تترقب المستقبل حين نلتفت نحن للماضي.
وهناك ذكرت اسم مونية مدور، صارحتها أنني لم أكن أعلم إطلاقا بأن للمخرج الجزائري المتوفى عز الدين مدور صاحب رائعة فيلم “جبل باية” ابنة تمارس السينما، فاختطفتني تلك الأستاذة الأمريكية إلى بيتها الذي تستأجره بالجوار كي تريني فيلما وثائقيا لتلك المخرجة الواعدة بالنسبة إليها، حيث سبق أن التقت بها وأعجبت بأفكارها ورؤيتها للوجود النسوي في مخالب فحولة الرجل الشرقي، لكن انقطع اتصالي بالدكتورة – شافتو – ولم أتمكن من الحصول على وساطة تواصل مع تلك المخرجة الشابة، بحكم اشتغالي في البحث الأكاديمي حول السينما بالجزائر بين الأمس واليوم.
استنساخ التجارب السينمائية الجزائرية حول ظاهرة الإرهاب:
جاءت سنة 2019 لتضعني في مجابهة ما ارتقبته الأكاديمية الأمريكية منذ سنين، وها هي مونية مدور تقتحم ميدان الفيلم الروائي الطويل، وبمشاهدة التجربة الفيلمية بطرحها النسوي الذي يرجع بالزمن لسنوات التسعينيات بالجزائر، استوعبت أنني أمام تكرار تجارب سبق وأن قدمتها – يمينة بشير شويخ – في فيلم – رشيدة-، وفيلم – العالم الآخر- للمخرج مرزاق علواش، وسلسلة من الأفلام الأخرى التي استطاعت إغراء الممول الأوروبي لإنتاجها، كل تلك الأفلام وليدة قراءات متقاربة عن العشرية الدموية والهمجية التي عرفتها الجزائر آنذاك.
وهنا أقول لمخرجتنا الفنانة مونية: تكبرينني بسنة واحدة فقط، فأنت من مواليد سنة 1978، لذلك يمكنني أن أعايش كل لقطة من لقطات الفيلم، مسترجعا ذاكرة العشرية السوداء، وما عانيناه سوية خلال تلك العبثية التي لا تزال تلاحقنا، رغم محاولات المصالحة بيننا نحن الجزائريين.
لكن أصارحك يا مونية، لقد عشنا الأزمة بمستويين مختلفين تماما، فكثير من الذين حاولوا ولا يزالون تصوير التسعينيات من القرن الماضي سينمائيا، وكلهم تقريبا غادروا البلد عشية اندلاع الأزمة التي يتقاسم مسؤوليتها الجميع، واتجه أغلبهم إلى فرنسا عدوة الأمس الاستعماري صديقة اليوم النكوصي، بدؤوا يتحدثون من بعيد عن الآلام والدماء التي لم يشاهدوها أو يشتموا رائحتها فعلا، لكن مونية تقول أنها لامست الأزمة عن قرب، وتجرعت ويلاتها.
لا أظن أن من عانى الأزمة من الداخل يمكنه اختزالها سينمائيا في استعراض الأزياء، وينسى الفتيات اللواتي اغتصبهن الإرهاب مرارا وتكرارا، ولا يمكنه نسيان الأختين اللتين تم عرض جثثهن على شاشة التلفزيون الرسمي، بعد أن تم العثور على رأسيهما، واختاطتهما على الجسدين النحيلين، إنهن فتيات القرى والمداشر اللواتي عانين الأمرين، هن اللواتي ذبحن أمام أعين أهاليهن، وأنا بعمرك يا مونية أرى أن الآلام تتجاوز الخطاب النسوي التقليدي، الذي يسعى لإرضاء المنتج الفرنسي والأوروبي، ويدير ظهره للمعاناة الفعلية للنسوة إبان العشرية، لا تلك الفتيات اللواتي في المدن الكبرى من البرجوازيات المرفهات، إن القاسم المشترك بين اللواتي عانين فعلا وبين غيرهن، هو الفقر والعوز الذي فرضته عليهن الطبقية، وابتعادهن عن المدن الكبرى المحصنة، مع أنهن يحببن الحياة والعيش في سلام، وأمان، وحب، وتواضع.
إغراء دوائر التمويل الأوروبي على حساب معاناة الهوامش:
أردت من خلال هذا المقال قول ما كان يجب قوله فقط، لمخرجتنا المبدعة لو تمكنت من لقاءها والمناقشة معها قبل أن تنجز فيلمها الطويل الذي لا أستغرب وصوله لإحدى مسابقات مهرجان كان الفرنسي الدولي، خصوصا أنها مؤهلة لتلك الشهرة كونها تنحدر من عائلة سينمائية من جهة، وتزوجت من مخرج سينمائي متمرس ومكرّس من جهة ثانية، إضافة إلى ارتباطها بالوزارة المركزية للدعم وتمويل الإنتاج من أموال الخزينة العمومية، وكذا قربها من الأوساط النسوية والثقافية بفرنسا وما حولها من دوائر الدعم الأوروبية.
يمثل كل ذلك الوعاء المناسب لصناعة مخرجة سينمائية جزائرية تكرر النماذج الفيلمية التي تنال إعجاب المهرجانات الدولية وخصوصا الفرنسية منها، هنيئا لمخرجتنا الواعدة على هذا العمل الأول الذي جاء مستنسخا في تيمته، وسطحيا في مقاربته، إلا أن للمخرجة مصدر الهام لم تتنبه إليه، وهو أبوها الذي أعتبره فذا وعميقا في اشتغاله على الهوية والمعنى، وأتأسف للحتمية البيولوجية التي اختطفته قبل أن يرسخ مقاربته الفنية والفكرية في السينما الجزائرية، هذا أجدر بالتمعن الاشتغال بغرض إتمام المسيرة من طرف البنت التي تواصل تزيين ارث والدها، بدل إعطاء ظهرها للمعاناة الفعلية لضحايا المأساة الوطنية بالأمس، واللواتي تحولن إلى مصارعات لأمواج البحر العاتية، بأمل النجاح في الهجرة غير الشرعية المسماة عندنا بالحرقة، فمن الصمود أمام الاستبداد، والظلم، والاغتصاب، والذبح، إلى – حراقات- تحاولن الهجرة غير الشرعية من أجل مستقبل أفضل.
ربما كان بحوزة المخرجة سيناريو قديم آمنت به لفترة ما، عندما كانت بيننا في الجزائر، لكن المستجدات كثيرة، فتقليب المواجع بعد محاولات المصالحة الوطنية ليس بالأمر الهين، فسؤال فيلم – ببيشة- لم يحصل بعد على المسافة الزمنية والشعورية الكافية للحكم على العشرية السوداء عندنا، أما الآن فقد تحولت – البابيشات- أي الفتيات الفاتنات الجميلات إلى – حراقات- تتقاذفهن أمواج الجحود الذكوري، ويغرقن بسبب هشاشة قوارب الموت، فالمهمش الحقيقي ليس ظاهرة هرمونية جنسية، وليس نرجسية لجسد ممتلئ مليح، بل هوامش الطبقة مكسورة الجناح من ضحايا الأزمات والحروب في المنطقة العربية، اللواتي أصبح همهن هو البقاء على قيد الحياة، وهذه ضرورة وجودية تطغى على كل شيء، فلا يبقى للترفيه وعرض الأزياء مكان أمام هذه الفاجعة، لكن تأتي الأفلام شبه الجزائرية لتهمش المهمش أكثر فأكثر، وتركز على شريحة لا تمثل سوى قلة قليلة من ساكنة المدن الكبرى المنضوية تحت رفاهية الحداثة ووفرت المال والظروف.
- * ناقد من الجزائر