الفيلم الألمانى “فيكتوريا”.. مهمّشون فى مدينة لا مبالية!

نظلم الفيلم الألمانى “Victoria” الذى فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان برلين 2015، إذا اعتبرناه مجرد تجربة بصرية وتقنية مدهشة، حيث تحول الفيلم على مدى 138 دقيقة الى لقطة واحدة متصلة. إنه، بالإضافة الى براعة تنفيذه، وجرأة مخرجه سباستيان شيبر، ومغامرته  التقنية، يقدم نظرة عميقة لعالم المهمشين فى مدينة أوربية لا مبالية. أبطال الفيلم، وعلى رأسهم فيكتوريا الفتاة الإسبانية القادمة من مدريد، لكى تعمل فى برلين، هذه النماذج التى تبدو مثل نباتات بلا جذور، تمثل قطاعات مختلفة، ولها مثيل تقريبا فى معظم الدول الأوروبية. الفيلم عموما بأجوائه، وباختياره الفنى، وبنهايته، يذكرنا على نحو ما، بأفلام فرنسية وبريطانية، عبرت عن جيل يعانى من التهميش، ويعيش لحظات تمرد، لا تنتهى نهاية سعيدة، وذلك فى  سينما نهاية الخمسينيات، وبداية الستينيات من القرن العشرين.

نقول إن الفيلم مغامرة تقنية، لأنه من الصعوبة أن تصور فيلما  بأكمله كلقطة واحدة متصلة، وهو اختيار موفق، لأن العمل فى جوهره، محاولة لنقل تفاصيل حياة خمسة أشخاص مهمشين من الشباب، فى مدينة كبيرة، استمرار تدفق الصورة، وتحويل زمن التصوير الى زمن العرض، واستخدام الكاميرا المحمولة فى أجزاء كثيرة، جعل المتفرج تقريبا جزءا من مغامرة هؤلاء الخمسة، وجعلنا ننتقل معهم لحظة بلحظة فى حالات مختلفة، صاعدة وهابطة، كما أنه جعل شعورنا بثقل الزمن مجسما وقويا ومسيطرا بل ومؤلما، وخصوصا أن بعض الشخصيات ستطارد حتى الموت. تدفق السرد فى لقطة واحدة، منح الفيلم طابع البث المباشر الحالى من موقع الحدث، وهو أنسب اختيار فنى فى رأيى لمعنى الفيلم، ونظرته المزعجة لهذه الفئة من الشباب، وكأن صناع الفيلم تسللوا بكاميرتهم لينقلوا الحياة فى نبضها العادى، وليسجلوا مغامرة بدأت بنكتة وسعادة، وانتهت الى مأساة.

فى سبيل نجاح تجربة اللقطة الواحدة المتواصلة، تقول المعلومات المتوافرة عن كواليس صناعة “فيكتوريا”، إن المخرج سباستيان شيبر قام بالتصوير بشكل متواصل  مع ممثليه من الرابعة والنصف  صباحا، الى السابعة صباحا، متنقلا بين الشوارع والأماكن المغلقة، وإن سيناريو الفيلم المكتوب لا يزيد عن 12 صفحة، بينما ترك معظم الحوار لارتجال الممثلين. وبعد ثلاث محاولات للتصوير، اكتمل الفيلم، وكان سباستيان قد تعهد للمنتجين بأن يقدم نسخة، يستخدم فيها “القطع القافز”، لحذف بعض اللقطات، إذا حدثت أشياء مفاجئة، تفسد سلاسة التصوير المتواصل.

فى العمق

ولكن بعيدا عن هذا الإطار الشكلى المناسب تماما لموضوع العمل، فإن موضوع “فيكتوريا”  هو مجموعة ممن يستحقون بجدارة أن نطلق عليهم وصف “الأبطال الضد”، ليس من الخارج، ولكن من خلال تجربتهم العميقة. نتعرف أولا  على فيكتوريا (لولا كوستا)، تبدو لأول وهلة كفتاة عادية، ترقص فى إحدى الحانات، وتتناول مشروبا، قبل أن تذهب لفتح مقهى تعمل فيه، انتظارا لزبائن الصباح، سنعرف فيما بعد أنها إسبانية، حضرت للعمل منذ 3 أشهر، من الواضح أنها على الهامش، وبلا أصدقاء، وإلا كانوا قد ظهروا معها فى الحانة، ببساطة، نحن أمام فتاة وحيدة فى مدينة كبيرة غريبة عنها.

يبدو أن هذه الوحدة هى التى ستقرب بين فيكتوريا وأربعة من الشباب الألمانى، سترحب أولا بدعوة سونى (فريدريك لاو) الذى كان معها فى الحانة، وسيعرفها بدوره على أصدقائه : فوسى الذى يحتفل بعيد ميلاده بطريقة صاخبة، وبلينكر المرح، وبوكسر الذى يتمتع بقوة بدنية واضحة. تقبل فيكتوريا دعوة الأصدقاء، تسير معهم بدراجتها الهوائية، تضحك من خيال وأكاذيب سونى الذى يزعم أنه صاحب سيارة  وجدوها فى الشارع، لكى يقودها وهو وزملائه، والذى يقتحم محلا ليأخذ منه ما شاء من المشروبات الروحية، بدعوى أن صاحب المحل صديقه، وأنه سيحاسبه فيما بعد.

الطريقة التى قدمت بها الشخصيات الأربع، شديدة الحيوية، حيث يتمتعون بخفة الظل، كما أن المشروبات الروحية جعلتهم أكثر حرية وانطلاقا وخيالا، يستهدف الفيلم أن ننحاز إليهم تماما كما فعلت فيكتوريا، حتى نتورط معهم  فى تجربتهم حتى النهاية. تذهب فيكتوريا مع الأصدقاء الى سطح بناية يجتمعون دوما فى داخلها، تنبهر بحكايتهم العفوية، يعترف بلينكر مثلا بأنه سرق عربة للبيتزا، لأن إخوته أرادوا أن يتذوقوا أنواعها المختلفة، نعرف أن بوكسر كان مسجونا، لأنه ضرب أحد الأشخاص، يناديها الجميع بلقب “أختى”، تشعر فيكتوريا الغريبة اللامنتمية، بأنها تمتلك أصدقاء لامنتمين مثلها، يقولون عن أنفسهم أنهم أهل برلين الأصليين.

ولكنها لم تنس أن عليها أن تغادر، لتفتح المقهى مبكرا، وقبل ذلك عليها أن تنام قليلا بعد الإحتفال بعيد ميلاد فوس. يرافقها سونى الى المقهى، يواصل أكاذيبه مدعيا أنه عازف بارع على البيانو، وأن موتسارت هو أحد أعمامه! تكتشف فيكتوريا رداءة عزفه، ولكنها ستحكى لأول مرة عن حلمها الذى لم يتحقق بأن تكون عازفة بيانو محترفة. تبكى وهى تتذكر معاناتها من المنافسات فى المعهد، وتتحدث بمرارة عن تركها دراسة البيانو، تعزف بمهارة، فيزيد إعجاب سونى بها.

فيكتوريا التى تحمل اسما يوحى بالإنتصار، شخصية مهزومة، تماما مثل أصدقاء الهامش الألمان. هم مجرد لصوص  صغار يختلسون وينتزعون لحظات قليلة من البهجة، ولكنهم سيضطرون الى التورط فيما هو أكبر: سرقة أحد فروع البنوك فى الساعات الأولى من الصباح، رجل عصابات قام بحماية بوكسر فى السجن، ومنحه أموالا، والآن يطلب منه رد الجميل بالسرقة، ولأن الجميع بمثابة “الأخوة”، ولأن وقوفهم معا ضرورة من ضرورات العيش على هامش المدينة، فإن التورط سيصبح محتما، بل إن فيكتوريا ستوافق على أن تقود سيارتهم، بعد أن اعتذر فوس عن مشاركتهم، إثر إصابته بالإعياء، بسبب الإفراط فى الشراب.

 السرقة والهروب

المبلغ المسروق سيحصل زعيم العصابة منه على 10 الآف يورو، بينما سيترك أربعة ألاف يورو لفيكتوريا ورفاق السرقة الثلاثة: سونى وبوكسر وبلينكر. تتابع الكاميرا المغامرة بالتفصيل، ولحظة بلحظة، وكأننا فى بث مباشر يحدث الآن، بعد أن ينجحوا فى السرقة، يعودون معا الى الحانة للرقص والإحتفال، يخلع بلينكر ملابسه منتشيا، ويتبادل سونى وفيكتوريا القبلات، يخرجهم حراس الحانة، بسب الضجة التى أحدثوها، يصرخ سونى مؤكدا أنه وعد ذات يوم بأن يشترى الحانة بأكملها.

فى الخارج يظهر البوليس، يطاردهم، يهربون، الكاميرا هى مندوبنا نحن داخل الشاشة،  وفى قلب الحدث. يصيب الرصاص بلينكر وبوكسر، تهرب فيكتوريا وسونى الى بناية، يدخلان شقة بها امرأة شابة مذعوره، معها طفل صغير فى عربته، يحاصر البوليس البنايات، ويحذر من الخروج، يلجأ سونى ورفيقته الى الإستعانة بعربة الطفل، يغيران ملابسهما، يخرجان فى حراسة البوليس، باعتبارهما من سكان البناية.

تذهب فيكتوريا مع سونى الى أحد الفنادق، تكتشف لأول مرة أنه أيضا مصاب بالرصاص، وأنه ينزف. فى حجرة الفندق، يعرف سونى من التليفزيون أن أحد أصدقائه قد قتله البوليس، والثانى نقل الى المستشفى. ترفض فيكتوريا عرض سونى بأن تأخذ كيس النقود، وتتركه لمصيره. تطلب سيارة إسعاف، ولكنه يموت قبل أن تصل سيارة الإسعاف، تبكى بحرقة، ولكنها تغادر الحجرة. نراها فى المشهد الأخير، وهى تحمل كيس النقود، وتثير فى ثبات وهدوء، فى شوارع المدينة الكبيرة.

صنع الفيلم تأثيره تدريجيا، ونقلنا السيناريو من لحظات المرح، الى تجربة قاسية، تورطنا  فعليا مع تلك الشخصيات المهمشة. هم ليسوا لصوص بنوك، ولكنهم يسرقون من أجل العيش، وهم يدافعون طوال الوقت عن أنفسهم. نراهم فى البداية أقرب الى الفنانين البوهميين، الذى يعيشون حياتهم بخيال وبسعادة، إنهم يهمسون على سطح البناية، حتى لا تسمعهم المدينة، فتفسد سعادتهم، ولكن مغامرتهم فى سرقة البنك، تتحول الى كابوس، رغم أنهم وافقوا على السرقة، لمساندة زميلهم بوكسر.

تبدو فيكتوريا كأنها قد حققت أخيرا نصرا اعتباريا بالحصول على النقود، ولكن علينا ألا ننسى زعيم العصابة الذى سيطالب بحقه، بل وقد يورطها فى عمليات أخرى، وعلينا ألا  ننسى البوليس (ممثل المدينة المتوحشة) الذى سيواصل مطاردتها، وعلينا قبل كل ذلك ألا  ننسى خسارتها الأفدح ، التى لا تعوضها أموال العالم، ذلك أنها خسرت أربعة “أخوة” مرة واحدة فى مدينة عاشت فيها غريبة ووحيدة، ترقص وحدها، فى حانة منعزلة.

لم ينجح المهمشون لا فى غزو المدينة، ولا فى أن يظلوا بعيدا عن عيونها وآذانها، هذه فقط 138 دقيقة فى حياة بعضهم، فماذا عن الآخرين الذين لم يتم تصويرهم؟ إنه فيما أظن سؤال الفيلم الأعمق، وأحسب أنه عندما يوضع الإنجاز التقنى تصويرا ( كاميرا مان الفيلم هو بطله الحقيقى)، وأداء تمثيليا، وارتجالا، فى خدمة فكرة عميقة، فإن هكذا فيلم سيبقى راسخا فى الأذهان، بانحيازه للإنسان العادى، وبقدرته على تقديم دراما قوية ومؤثرة ، تنقل متفرجها من خانة المشاهد العابر، الى خانة المشارك والمتورط فى تجارب الآخرين، مما يجعل التأثير أقوى وأعمق.

Visited 91 times, 1 visit(s) today