الفيلم الأردني “غرق” في مهرجان لندن السينمائي
أمير العمري- لندن
من أفلام المسابقة الرئيسية للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان لندن السينمائي (6- 19 أكتوبر) شاهدنا فيلم “غرق” للمخرجة الأردنية زين دريعي، وهو أول أفلامها الروائية الطويلة، بعد فيلمين قصيرين متميزين لها.
الفيلم يعكس طموحا لا شك فيه، لتقديم رؤية جديدة مختلفة عن المسارات التقليدية للفيلم الذي يتناول دراما نفسيا تدور في إطار العائلة. ولكن المخرجة ربما لم تتمكن من القبض على الموضوع كما ينبغي، رغم كل محاولات السيطرة بالأسلوب.
أولا عنوان الفيلم عنوان ملتبس، أو على الأقل، غير موفق، طبقا لفهمي الخاص بالطبع، وقد أكون مخطئا، فكلمة Sink ليس معناها “غرق” بل تعني “إغرق”، وأما “غرق” فهي بالإنجليزية Drowning. ولا يمكن لأي مشاهد للفيلم أن يتوصل- مهما بذل من جهد- إلى معنى العنوان في السياق العام للفيلم، فالغرق غير الإنكار، لكن المخرجة تقول إن المقصود هو ما تنكره أو تتغاضى عنه عمدا، شخصية الأمـ أي أنها “تغرق” نفسها بعيدا عن فهم ما يجري لابنها. وهو معنى بعيد تماما ويصعب أن يخطر لأحد. وأسماء الأفلام مهمة كثيرا وليست عاملا هامشيا، فالاسم يحدد هوية الفيلم ويحدد موضوعه أيضا، فعندما نقول مثلا “السباح” فنحن نصنع فيلما عن سباح، وعندما نقول “المغامرة الأخيرة” فالموضوع واضح، أو حتى “أرواحنا في الليل” فهو تعبير أدبي بديع عن فكرة هي محور الفيلم.. وهكذا.

ولو تغاضينا عن العنوان الغريب الذي لا يناسب الفيلم في تصوري، سنجد أن هناك ملاحظات لابد منها على الإخراج والتصوير والمونتاج، وهي العناصر الرئيسية التي يمكن أن تساهم في تجسيد السيناريو سينمائيا حتى لو كان مليئا بالثغرات.
أولا ليس مفهوما لماذا اختارت المخرجة حجم الشاشة الصغير أو “المنسوب الأكاديمي” للشاشة الضيقة فيما يتجاوز النصف الأول من الفيلم؟ ما هو المبرر الدرامي أو المنطقي هنا؟ وما الذي يتغير في النصف الثاني بحيث تعود المخرجة إلى استخدام الشاشة العريضة (الاستاندرد) في النصف الثاني من الفيلم؟
موضوع الفيلم يدور حول شاب مراهق هو (باسل) ينتمي لأسرة من الطبقة الوسطى، يعاني من اضطراب نفسي، تتدهور حالته العقلية تدريجيا، وتظل أمه تظل تتشبث برعايته والانحياز له وتدليله وترفض اللجوء الى طلب المساعدة الطبية المتخصصة كما كان ينبغي، وهي تدافع عنه أمام والده (الذي يقر بوجود مشكلة نفسية خطيرة)، حتى بعد أن يُطرد باسل من المدرسة الثانوية بسبب اعتدائه على أحد مدرسيه (في مشهد لا نراه ولا أعرف سببا لعدم تصويره)، ولكننا سنعرف ذلك من خلال مشهد اجتماع مدير المدرسة مع والدي باسل ليشرح لهما قرار فصل الطالب. ومرة أخرى، نحن لا نرى قط مدير المدرسة بل نستمع إلى صوته الذي يأتينا من خارج الكادر فقط، من دون أي سبب سوى التشبث بفكرة شكلانية قد تكون جيدة نظريا هي ربما التركيز على رد فعل الأم فقط، أما على الشاشة فهي فكرة ترهق المتفرج.
وتحرص الأم على أن يستكما باسل تعليمه في البيت، وأن يدخل الامتحانات.. إلخ، وكلها أمور تدل على حرصها الشديد على مستقبل ابنها المراهق المضطرب الذي أحيانا يطيع ويستمع، وأحيانا أخرى يرفض ويتمرد ويلجأ إلى القيام بحركات متطرفة كثيرة.
في الفيلم الكثير من المشاهد والمواقف التي تشير إلى وجود علاقة أوديبية بين باسل وأمه. فهو أولا يرفض أباه بوضوح وينفر منه، والأب نفسه كان غائبا لفترة طويلة لا نعرف أين وماذا كان يفعل بالضبط وهل كان خارج البلاد).. وقد أصبح باسل هو الإبن المفضل لدى والدته رغم أن لديها ابنا آخر (أصغر) وبنتا. وباسل يتمدد في الفراش أحيانا إلى جوار أمه التي تحتضنه، كما يحتضنها ويسند رأسه على صدرها كما لو كان طفلا صغيرا، وفي أحد المشاهد نراه يتلصص عليها وهي في الفراش مع والده ونظراته تشي بنوع من الغيرة، ثم نرى الاثنين يسبحان معا ويلهوان في الماء كما يفعل أي حبيبان، وعندما يلهو في حديقة من حدائق ألعاب الأطفال، تشاركه هي اللهو وتقليد أصوات الدجاج، لكن اندماجه في اللعب واللهو يتحول تدريجيا إلى نزعة عنيفة، ورغبة في القتل، فهو يحاول خنق الديك لولا أن أمه تضربه لتمنعه من استكمال هذا الفعل العنيف.

هناك أيضا مشهد الرقص بين الأم والابن، ومشهد المداعبة بارتداء أقنعة الحيوانات، وهما مشهدان يمنحان الفيلم بعض الإيقاع، دون أن يساهما في تطوير معرفتنا أكثر بشخصيتي باسل وأمه. فالفكرة عن العلاقة الأوديبية الخاصة تتكرر طول الوقت دون أن تنقل الفيلم على مستوى آخر.
ما مشكلة باسل بالضبط؟ ما الذي دفع به إلى أن يصبح على ما أصبح عليه؟
فجأة سيذهب والده في رحلة صيفية مع ابنه الآخر وابنته وسيتركان الأم مع باسل وحدهما. فهو يرفض الذهاب وتصر هي على البقاء معه. وبالتالي نرى كيف تتصاعد رغبة الأم في حماية باسل ولكنها تشعر في الوقت نفسه بالقلق الشديد على ما يمكن أن ينتهي إليه، وكلما حاولت لفت نظره إلى ضرورة البحث عن علاج، يرفض ويلجا للعنف. ومع ذلك سيحدث تحول مفاجيء في موقفه في النهاية.
هناك الكثير من المشاهد، المبتورة أو التي لا تكتمل عمدا، فمثلا نحن نرى كيف يقوم الابن الثاني بتصرف غير لائق على المائدة. تنهره أمه فينسحب ويمضي مهرولا.. تهرول وراءه وهي تناديه: “انتظر… يجب أن نتحدث”. لكننا لا نرى شيئا بعد ذلك وننتقل إلى مشهد آخر معه. وهو أسلوب يتكرر كثيرا وربما يكون الدافع لذلك هو ترك مساحات خالية غير مشروحة أمام المتفرج، لكي يكملها هو بنفسه، من خياله.
هناك مشكلة أخرى تتعلق بإيقاع كل مشهد على حدة، والإيقاع العام للفيلم الذي يعاني من التثاقل الشديد والبطء المفتعل، أولا بسبب تكرار الفكرة كثيرا على أشكال متباينة، وثانيا نتيجة ترك اللقطات (خصوصا اللقطات القريبة للوجوه) تستمر على الشاشة لمدة طويلة، مما يفقدها التأثير الذي يمكن أن تحققه. وهو اختيار مسؤول عنه المونتير أيضا، الذي يجب أن يعرف أين يتحقق التأثير المطلوب من اللقطة، بدلا من أن يجعل استمرار اللقطات أمرا مرهقا للمشاهدين ناهيك عن كونه خارج أي ضرورة درامية.
من حيث الصورة هناك مشكلة واضحة تسبب الإرهاق الشديد للعين، فالصورة في جانب كبير منها، ضبابية، شاحبة، باهتة، أو تبدو حتى “خارج البؤرة” ولا شك أن هذا ليس ناتجا عن عيب تقني في التصوير، بل إن المخرجة قصدت هذا، لكي تضفي نوعا من الغموض أو الجو المضطرب على ما نستقبله نحن، ولكن مع استخدام الشاشة الضيقة كما أشرت من قبل في النصف الأول من الفيلم، ينتج هذا الاختيار الشعور بعدم الارتياح للعين، ويرهق الفيلم ويثقله كثيرا: فنحن أمام صورة، شاحبة، غائمة، غير واضحة، داكنة، مظللة، مرهقة، خصوصا في الأجزاء التي تظهر في مقدمة الكادر السينمائي. وحتى المناظر الخارجية التي تشيع فيها إضاءة برتقالية وألوانا لامعة بشكل ما، تبدو وكأنها تنتمي لعالم لا صلة له بالواقع.. فهي إضاءة غير واقعية، ولكن المشكلة أن هذا يكون مقبولا لو كان الفيلم مصورا من عين “باسل” أي كشخص مضطرب نفسيا، لكنه مصور في الحقيقة، من خلال نظرة “محايدة” من الخارج.

الرسالة البسيطة الواضحة التي يضغط عليها الفيلم كثيرا، تتلخص في التحذير من مثل هذه العلاقات الأسرية التي قد تتسبب في تفاقم حالات نفسية يكون من الممكن أو المحتمل علاجها قبل أن تتدهور بدرجة مزعجة وتكاد تؤدي إلى كوارث، خصوصا وأن السيناريو لا يشبع الموضوع من ناحية التحليل النفسي، وتقديم مبررات مقنعة للسلوكيات الغريبة التي نراها، مع إهمال الواقع الخارجي إهمالا تاما.
يبقي على الفيلم مادة جيدة للمشاهدة أداء كل من كلارا خوري في دور الأم “نادية”، ومحمد نزار في دور “باسل”.. أداء قوي يحاول أن يضيف إلى الشخصية ويعمق من تكوينها ويلون في التشخيص امام الكاميرا لكن الضعف الاساسي يظل قائما في التكرار ثم التصوير المرهق للعين الذي أفقد الفيلم واقعيته..
