السينما كموضوع للتأمل: بين إيزنشتاين وإيبشتاين
1- السينما والمونتاج الفكري
فشل سيرغي إيزنشتاين في “إخراج” كتاب الرأسمال لماركس وتحويله إلى فيلم، لأنه واجه مشكلة ثلاثية يمكن تكثيفها في الأسئلة التالية: كيف يمكن إنجاز فيلم يستمد شكله من مَتْن فلسفي؟ وكيف يمكن ترجمة خطاب غريب عن الفيلم ونقله إلى لغة سينمائية؟ ثم ما هي الطرق الجديرة ببناء نمط خطابي سينمائي يراعي شروط الصياغة السينمائية باعتبارها شكلا؟
تعرض “إيزنشتاين” لصعوبات كبرى وهو يجتهد لإنتاج “سينما جدلية” لها ما يلزم من الفعالية والتأثير لتحقيق مبادئ الثورة السوفيتية، سينما تركب ما بين “المضمون” و”الشكل”. ولأجل هذا الهدف جنَّد “إيزنشتاين” كل ما يملك من قدرات ومواهب في الرسم والإخراج والتنظير. حتى وإن لم يتوفق في مشروعه “الماركسي” فإنه ترك لتاريخ الأفكار عن السينما نصوصا وكتابات في غاية الأهمية، بل ووضع أسس ما يسمى بـ “المونتاج الفكري”. جرّبه في “المدرعة بوتمكين” (1926)، وطبقه على باقي أفلامه التي تلت: “أكتوبر” (1927)، و”الخط العام” (1929)؛ وبين “المدرعة بوتمكين” و”الخط العام” بلور تصوره للمونتاج، تنظيرًا وإخراجًا. وقد اعتبر أن “السينما الفكرية “وحدها تمتلك القوة للحد من نزاع “لغة المنطق” و”لغة الصور” اعتماداً على لغة السينما الجدلية؛ وهي سينما فكرية تصوغ أشكالا غير مسبوقة وتقوم بوظيفة اجتماعية مُعلنة، وهي سينما تسعى إلى اكتساب معرفة قصوى من أجل تحريك حساسيةsensibilité أكبر، وتملك عن جدارة ترسانة من الوسائل التي تسعفها في عملها لإنتاج المؤثرات (المُحفزات stimulants) البصرية والسمعية 1.
ليس المونتاج الفكري عند “إيزنشتاين” انحيازاً إلى الأفكار والمضامين على حساب القيمة الجمالية للصور السينمائية، لأن الهمّ المركزي الذي سيطر على عقله، بالإضافة إلى التزامه الإيديولوجي، كان هو البحث عن “الشكل الفيلمي الأكثر اكتمالا والكفيل بحمل خطاب. وبقدر ما يتعلق الأمر ببلوغ درجة عالية من التـأثير الحسي على مستوى التمثّل، يتعين، كذلك ومن منظور ديداكتيكي أكثر منه معرفي، ضمان الفاعلية الإيديولوجية القصوى” 2.
لهذا اعتبر “إيزنشتاين” في محاضرته بالسوربون (17 فبراير 1930) بأنه لا يجب “نسيان أن السينما هي الفن الملموس الوحيد الذي يتميز بكونه ديناميكيًا، وبإمكانه في نفس الوقت إطلاق عمليات الفكر. لا يمكن تنشيط مسيرة الفكر بنفس الطريقة التي تتم بواسطة الفنون الأخرى”[1].
قد يبدو التأثير الماركسي واضحا في تصور هذا السينمائي لعلاقة النظرية والممارسة بحكم أن هدف الممارسة هو تغيير الأحوال، لكن مشكلة “إيزنشتاين” بالنسبة لعدد من الباحثين تتمثل في كونه كان سينمائيًا لا بأس بقيمة ما أخرجه من أفلام قياساً إلى مستوى “العُدَّة السينمائية” التي كانت متوفرة في زمنه، لكنه كان بالمقابل، منظراً غير مقنع 3، حسب بعض الباحثين.
غير أن الديالكتيك والاجتهاد النظري الذي اقترحه من خلال المونتاج قرّبت مساهمة هذا السينمائي من مجال الفكر والفلسفة، على الرغم من الالتزام المؤسسي والسياسي الذي فرضه النظام السوفياتي عليه؛ بل هناك من يرى أن هذا الالتزام لم يكن سلبيا كله لأنه حفَّز “إيزنشتاين” على الابتكار والتنظير، وعلى صياغة عناصر أسعفته على الاقتناع بأن الممارسة الفيلمية يجب، هي كذلك، أن تكون “ثورية”، وتقدم فهما منطقيا لمقتضيات الإنتاج التقني وللعملية الفنية المطابقة. وهذا ما دفع بـ “هربرت ماركيوز” في كتابه “البُعد الجمالي” إلى القول إنه يتعين البحث داخل الفن ذاته، وداخل الشكل الجمالي باعتباره كذلك عن “الإمكانيات السياسية للفن”. لذلك اقتنع “إيزنشتاين” بأن “الشكل إيديولوجي هو كذلك دائما”، ويجب الاشتغال على الشكل باعتبار يحمل بعداً إيديولوجياً.
يصعب فصل الانفتاحات التي اقترحها “إيزنشتاين” على عملية التفكير في الظاهرة السينمائية عن السياق الإيديولوجي والسياسي العام الذي ارتبط به، حتى وإن عبَّر في بعض كتاباته عن تبرم نسبي من القول الماركسي الرسمي، وأعلن بوضوح شديد، عن ميل إلى أهمية الفكرة كما بلورها الديالكتيك الهيغلي مبتعدا بذلك عن نظرية الانعكاس التي تحولت إلى اختيار “مذهبي” عطَّل تفكير كل المشتغلين في الفن.
لقد تمرّد “إيزنشتاين” قليلا عن هذا الاختيار، وعبّر في تمرده عن تمزق مُزدوج؛ في علاقته بكلمات أمر المؤسسة الرسمية التي لم يكن يخفي التزامه بها بدون أن يكون مقتنعا تماماً بشعاراتها من جهة، وفي المعاناة التي عاشها بخصوص ترجمة منطلقاته النظرية الى إنجاز فيلمي بقدر ما كان عليه الاستجابة لضرورات التغيير، كان يتعين عليه احترام مقتضيات الإبداع والاعتبارات الجمالية، من جهة ثانية.
وتبقى كتابات “إيزنشتاين” عن الظاهرة السينمائية ومنجزاته الفيلمية دليلا عن الهواجس الفكرية التي كانت تحرك هذا السينمائي؛ وإذا تركنا “التزامه” الإيديولوجي والمؤسسي بتوجهات الدولة السوفياتية الناشئة جانبًا، فإنه ترك لكل المشتغلين بالعلاقات المتشابكة للفكرة والواقع، النظرية والإنجاز والمضمون والبعد الجمالي، نصوصا يصعب استبعادها، بل وجد كثير من النقاد الذين لم يترددوا عن نقد “الستالينية” من استلهام أفكاره وترجمتها والتعريف بها.
2- جان إيبشتاين وذكاء الآلة السينمائية
لقد توزع مُؤسس “المونتاج الفكري” للصور السينمائية بين النظرية والإنجاز انطلاقًا من توجهات ماركسية، حتى ولو تبرم قليلا من “ميكانيكية” منهجها ووجد نفسه أقرب إلى الفكرة الهيغلية، فإنه مع ذلك لم يكن له طموح لبناء فلسفة للسينما بشكل مُعلن. إذا كان الأمر كذلك مع “إيزنشتاين” فإن سينمائيا آخر هو الفرنسي “جان إيبشتاين”Jean Epstein (1897- 1953) الذي لم يخف رغبته، منذ بداية تدشين تأمله في السينما وممارسته لها، في إقامة “فلسفة للسينما”؛ ومنذ بداية العشرينيات وهو مسكون بفكرة الارتقاء بالسينما إلى المستوى الفلسفي. وهو ما كان يعني عنده القيام بتحرير فلسفة للسينما، وإبراز قدرة هذه الوساطة على إنتاج رؤى فلسفية، وذلك بالعمل على تعيين الطريقة الخصوصية التي يحوزها السينماتوغراف لاقتراح نظرة للعالم.
لا يتعلق الأمر، عند “إيبشتاين”، بقدرة السينما على التفكير فقط اعتماداً على لغتها وعُدَّتها الخصوصية قياساً إلى ممارسات فنية أخرى، وإنما بتوظيف “العبقرية السينمائية الخاصة”[2] ومساهمتها في معرفة العالم، وفي تجديد مظاهره وتعبيراته؛ فليست السينما مجرد فرجة، إنها “معرفة خاصة لأنها تتمثل العالم في حركيتها اللا متوقفة، ومعرفة عامة لأننا نتنبّأ، حين تخاطب كل الحواس، بأن تساعد على تجاوز حدودها الفيزيولوجية. فهي توفر لنا إمكانية القيام بـ “رياضة روحية جديدة”، تفرض علينا تصحيح اعوجاجاتنا بفضل تمثل أصيل للعالم، وتورطنا في حالات نفسية متحررة من ضغوط الفكر المنطقي والعلمي، كما تفتح لنا فرص التواصل مع الفكر الحلمي والشاعري»[3].
يلاحظ “دومنيك شاتو” أن “إيبشتاين” يدخل لغة طوباوية في حديثه عن تأسيس “فلسفة للسينما”؛ وهنا يبدو مرة أخرى الفارق بين الرغبة في التأسيس وشروط إمكان تحقيق ذلك. غير أن هذا “السينمائي-المُنظر”، على الرغم من بعض تناقضاته، وفّر هو بدوره إلى جانب “إيزنشتاين” إمكانية اتخاذ السينما كموضوع للفكر. فالسينما، عنده مثل “الميكروسكوب” و”التليسكوب”، تسمح بكشف جوانب من الواقع التي تبقى مجهولة، وبفضل مبدأ الحركة تتمكن هذه الآلة من خلق مكانها وزمانها. ولعل الصورة السينمائية تعلمنا إلى أي حد هناك فارق بين التمثل الفيلمي والواقع أو نسخه؛ وهنا تكمن أصالتها وقوتها، فضلا عن تحكمها في المقاييس المادية التي بها تنتج لغتها فيما بين الحركة والثبات، القطيعة والاستمرارية، الإبطاء والتسارع. إنها آلة قادرة على إنجاز تركيب غير مسبوق بين العناصر والأبعاد المكانية والزمانية والاشتغال العادي للدماغ، لكنها تبلغ درجة عالية من التعقيد، بل إنها تعبر عن “ذاتية خاصة مادامت تتمثل الأشياء، ليس كما يحصل إدراكها من طرف نظرات الناس، وإنما كما تراها هي حسب بنيتها الخاصة التي تمنحها شخصية مميزة [4].
وإذا كانت السينما قد تمّ اكتشافها في البدء كآلة مُسجلة، فإنها تحولت بالتدريج إلى آلة للتفكير وإلى نوع من “الدماغ الميكانيكي الجزئي الذي يستقبل مؤثرات بصرية وسمعية، ينسق بينها بطريقته في الزمان والمكان، ويعبر عنها وهي مهيئة ومنظمة في شكل كثيرًا ما يكون مدهشا”[5]. وهكذا لا تفكر السينما لأنها تنقل فكرًا بشريًا أو لأنها تترجم جوهرها الخاص، وإنما لأن هذا الجوهر ذاته هو الذي يؤسس فكرًا وفلسفة خصوصيتين.
تتقدم السينما، في نظر “إيبشتاين”، كأنها آلة تتجاوز ما هو إنساني، وتتخطى حدوده الفيزيائية والذهنية، كما أنها أداة لتعويض نقص حاسة من الحواس؛ أي أن ما لا يقدر الإنسان على إنجازه أو القيام به في الحياة، بحكم أنه يقبض على تجلياتها بشكل متقطع، فإن السينما تقدر عليه كما تقدر على القيام بتركيب مُبدع، بحيث تتمكن من إنجاز استمرارية ومرونة في المكان والزمان تعجز القوى الفيزيولوجية العادية للإنسان على الإتيان بمثلها. لهذا السبب يعتبر “جان إيبشتاين”، بأن السينما هي فن “فوق بشري” surhumain، فهي تمتلك إمكانيات استثنائية على الإثارة والتفخيم، وعلى توليد حالات شعورية خاصة. فهذه الآلة، كما يقول “إيبشتاين”، التي “تجذب وتكثف الديمومة، وتبرهن على الطبيعة المتحولة للزمن، وتدعو إلى نسبية كل القياسات، تبدو -أي هذه الآلة- وكأنها نوع من البناء النفسي”[6]؛ بل إن السينما ترتقي إلى مستوى روحاني وصوفي حتى. إنها فن سحري و”سرها في منتهى البساطة إذ يتركز سحرها في قدرتها على تنويع وتغيير الأبعاد والتوجهات الزمنية”[7]، إنها “فن إحيائي” يكشف حياة الأشياء، ترتقي أحيانا إلى مستوى الإرادة والحرية والروح.
لا جدال في أن التعامل الحماسي لـ “إيبشتاين” مع الظاهرة السينمائية أسقطه في تناقضات فكرية متنوعة. فهو يخلط بين الفهم العلمي للواقع وبين مختلف التناولات أو الفهومات “الروحانية” له، ويدَّعي إقامة فلسفة للسينما وبالسينما في الوقت الذي نجده يصوغ نصوصا “لا فلسفية” أو بعيدة عنها. فحديثه عن الحياة السيكولوجية للسينما يبقى غامضًا، كما يلاحظ “دومنيك شاتو”، هل تعود الإحالة على البعد السيكولوجي إلى الآلة السينمائية أم إلى المتفرج؟
أمام هذا السؤال يبقى “إيبشتاين” مترددًا، بل وحائرًا، فهو يُسلم بأن حركية الصورة السينمائية تستلزم، عند عرضها، نشاطًا عقليًا وروحيًا للمتلقي، كما أنه يمنح للآلة السينمائية طابعًا ملغزًا من حيث اعتبارها تختزن “حياة سيكولوجية”؛ ولكنه يعجز، تماما، عن تفسير وجود هذه الحياة بطريقة تحوز ما يلزم من شروط الوضوح والإقناع. إذ لا يكفي التأكيد على أهمية الحركة في السينما ومنحها الأولوية قياسا إلى الأشكال، وهو مبرر ضعيف لسبب بسيط هو أن الآلة السينمائية تعيش لحظات توقف، من خلال “اللقطة الثابتة” مثلا. كما أن “إيبشتاين” لم ينتبه إلى الترابط الضروري بين الكثافة التشكيلية للصورة الفيلمية وبين البعد السيميولوجي للخطاب الفيلمي، وللعبة العلامات بما فيها مفهوم اللقطة، ومختلف أنماط تشابكها مع العناصر المكونة للسرد السينمائي. ويفسر دومينيك شاتو غياب هذا الربط في كتابة “إيبشتاين” عن السينما إلى نزعته المضادة للعقلانية، وإلى إيمانه الراسخ بأن الصورة تختلف جوهريا عن التجريد المنطقي. فهي علامة تتوجه مباشرة إلى المتفرج الذي لا تتطلب منه بذل مجهود كبير لتفكيك معناها أو معانيها.
ومهما تكن الملاحظات العديدة التي يمكن تسجيلها على كتابات «إيزنشتاين» و«إيبشتاين» حول السينما باعتبارها موضوعاً للتفلسف، فإنهما يمثلان، مع ذلك، لحظة مثيرة في تاريخ الاهتمام الفلسفي بالسينما، أو بالأحرى الانشغال السينمائي بأسئلة الفلسفة. تحوز السينما في نظرهما قدرة خاصة على التفكير اعتمادا على عُدّتها الخاصة، لأنه لا يمكن اختزالها في كونها مجرد فرجة، بحكم امتلاكها وسائل خصوصية لتمثل العالم بدون أن تخضع بالضرورة لإكراهات قواعد التفكير المنطقي. وسواء نعتناهما بالطوباوية، أو صاغا أفكارًا ضعيفة منطقيًا، فإن هؤلاء “السينمائيين-المُنظرين” اقترحا على الفكر انفتاحات لتعميق النظر الفلسفي في الظاهرة السينمائية.
إحالات
1-S.Eisenstein. Perspectives ; in Cahier du cinéma : N° 209, 1969.
2-Dominique Château, Cinéma et philosophie, Ed, Nathan, Paris 2003, P12.
3-Eisenstein ; cité in Dominique Château, PP 63-64.
4-Dominique Château ; P64.
5-Dominique Château ; op.cit, P 75.
6-Jean Epstein ; Écrits sur le cinéma , tome 1 ; Ed. Seghers ; Paris, 1974, P224.
7-Dominique Château, op. cit ; P75.
8-Jean Epstein, op. cit, P263.
9-Ibid, P 282.
10-Ibid ; P 322.