السينما بين الدفاع عن الثقافة والترويج للاستبداد

لم تكن السينما مجرد وسيله ترفيهيه وفقط ، ولكن تم إعتباراها إحدي أدواة القوه الناعمة وتم إستخدامها كسلاح  ذي حدين ما بين حكام مستبدين يعادون العلم والمنطق ويروجون لنشر أيديولوجيتهم وفكرهم الأحادي، وبين مثقفين يقومون بفضح هذه الانظمه والدعوه للحفاظ علي الثقافة والتاريخ من الضياع إما من خلال أفكار مباشره تم تحويلها الي افلام أو من خلال روايات تم معالجتها وتحويلها إلي سيناريوهات وقدمت علي شكل أعمال سينمائية.

في 10/ مايو/ 1933 وبعد تسلم حزب العمال الاشنراكي الألماني الشهير بالحزب النازي مقاليد الحكم بقيادة أدولف هتلر ، قام الطلاب الألمان بمساعدة الشرطه وأعضاء من الحزب النازي بجمع عشرات الألاف من الكتب وإحراقها نتيجة تأثرهم بخطب هتلر وأفكاره الداعيه لمصادرة الثقافة والفكر ومحاربة أي ثقافة دخيله وبمساعدة وزير إعلامه جوبلز الذي وقف يخطب قائلا ” إن الشخص الألماني لن تحركه الكتب وإنما تحركه شخصيته الألمانيه “، وكانت النتيجة حرق كل ماهو غير الماني بما فيها الكثير من مؤلفات بعض الكتاب الألمان أيضا ومن أشهرهم مؤلفات (ايريك ماريا ريماك ) أحد أشهر الروائيين وكتاب المسرح الألمان وعرف وقتها هذا الحدث بهلوكوست الكتب.

 ولم يقف الموضوع عند حد التجريف الثقافي الممنهج والتنكيل بالمعارضين والمثقفين فقط وإنما أنشأ هتلر وزارة خاصة للدعاية والإعلان بقيادة جوزيف جوبلز الشهير بمقولة “عندما أستمع الي كلمة مثقف أتحسس مسدسي” وكان دور هذه الوزاره نشر الدعايه النازيه والسيطره علي الفنون والثقافة والمسرح والسينما ، وكأي نظام مستبد له مؤيديه ومروجيه ظهرت المخرجه الشابه وقتها والتي إكتشفها جوبلز  “ليني ريفنشتال ” بثلاثية أفلام لتلميع هتلر ونظامه وكان أهمها فيلم “إنتصار الإرادة” عن مؤتمر نورينبرغ لحزب العمال الاشتراكي لتصبح بذلك مخترعة سينما الدعاية السياسية، والتي قامت في بدايته بتصوير هتلر وهو ينزل من الطائرة وكأنه المنقذ الملهم الذي ينزل من السماء لإنقاذ أمته من الضياع.

وعلي الرغم من الإستخدام السيء للسينما للترويج لنظام شمولي ولحاكم مستبد إلا أن الفيلم يعتبر من العلامات الإبداعيه التي لازالت حاضره بل وتدرس حتي الأن، فقد إستطاعت هذه المخرجه ان تفرض علينا موهبتها وإبداعها من خلال قدرتها علي التوظيف الجيد للصورة وإختيار الكادرات التي تعطي عمق للقطات، حيث أننا إذا قمنا بثبيت اي لقطه نجد أننا أمام صوره تحمل من العمق والتفاصيل ما يكفي لجعلها ترتقي لمكانة اللوح الفنيه، بالإضافه أيضا الي مهارتها في استخدامها الزوايا والتصوير من أعلي وإظهارها للجموع بطريقه واضحه مما يثبت تمنكها ليس فقط في الإخراج وإنما في إدارة طاقم العمل الضخم الذي يحتاجه عمل كبير مثل هذا من مساعدين ومصورين وتقنيين ، مما جعلها تصبح المسئولة الرسمية للدعاية السينمائية لنظام هتلر المستبد والذي إنتهي به الحال بهزيمة ألمانيا وإستسلامها في مايو 1945  وهو نفس الشهر الذي حدث فيه هلوكست الكتب وذلك بعد حرب عالمية ثانية خلفت ورائها دمار بلدان بأكملها وملايين من القتلي والمشردين، ولتكون عظه للشعب الألماني الذي تعلم من التجربة القاسية وحدث له تحول كامل ليصبح من أكثر الشعوب المهتمه بالثقافه والعلوم، والكارهه للحروب ، والرافضه للعنصريه والتمييز وتصبح المانيا من الدول الاولي في قائمة الدول الحاضنة للاجئين والمؤمنة بالحريات والتعددية والعلم.

لقطة من فيلم “451 فهرنهايت” الأمريكي الجديد

أصبح حرق الكتب ومعاداة الثقافه والتنكيل بالمثقفين فيما بعد من الرمزبات التي تم إستخدامها علي شاشات السينما سواء للتعبير عن نظام مستبد أو لتقديم النصوص التي تقدم أدب ديستوبيا (أدب يتحدث عن مجتمع خيالي فاسد)، وفي 1966 ظهر فيلم بعنوان 451 فهرنهايت للمخرج فرنسوا تروفو وهو مأخوذ عن روايه بنفس الإسم للكاتب راي برادويري أحد أشهر كتاب الفانتازيا في العالم والذي قام بتأليفها عام 1953، وتحكي عن نظام شمولي يسيطر علي العالم ويستخدم الميديا والإعلام للدعايه السياسية له بينما يقوم بإحراق الكتب ومنع ترويجها هي وشتي أنواع الفنون كما يقوم بقمع المواطنين، ويتحول دور رجال الإطفاء من رجال يقومون بإخماد الحرائق الي رجال يستخدمهم النظام في إشعال الحرائق في الكتب علي درجة 451 فهرنهايت وهي درجة إشتعال الكتب، قد نجد من بيننا من قرأ الرواية أو شاهد الفيلم أو حتي سمع عنهم ولكن مالم يعلمه الجميع أن هذه الروايه كانت تعكس فترة عاشتها أمريكا مابين نهاية الاربعينات ومطلع خمسينات القرن العشرين في ظل وجود جوزيف مكارثي وهو عضو بارز في مجلس الشيوخ الأمريكي والذي قام بالإدعاء بوجود أكثر من 205 موظفا شيوعيا في وزارة الخارجية الأمريكية إبان فترة الحرب البارده بين روسيا وأمريكا .

 وتم تشكيل لجنة تابعه لمجلس الشيوخ برئاسة مكارثي وأطلق علي هذه الفتره “الرعب الأحمر ” وكانت نتيجتها طرد الكثير من الموظفين وسجن المثقفين اليسارين وطال هذا أيضا عدد كبير من الممثلين والممثلات في هوليود مما أثر سلبا عليهم .

وكان من أشهر المتضررين شارلي شابلن ، ومارتن لوثر كينج ، وارثر ميلر وهو أحد أهم رموز الأدب والسينما الأمريكيين، ظلت فكرة معاداة الأدب والثقافه والفنون كأحدي الأفكار التي تبني عليها أعمال كامله في السينما وتلاقي إستحسانا ففي 2002 ظهر الفيلم الأمريكي (اكويليبريوم ) سيناريو وإخراج كورث ويمر وبطولة كريستيان بيل، وهو فيلم من أفلام الخيال العلمي الذي يتحدث أيضا عن العالم بعد وقوع حرب عالمية ثالثه أدت الي تدميره، ويتوصل القاده الي الحل الامثل من وجهة نظرهم لتجنب وقوع حرب أخري وهو منع الفنون والأدب والموسيقا وكل مايولد المشاعر لأن هذه المشاعر هي التي تؤدي الي الحرب، فلا يكتفي النظام بإعدام المثقفين او الفنانين او الادباء او حتي كل من يستمع الي الموسيقى أو يقرأ كتابا ولكن ايضا يقوم بإنتاج عقار عباره عن كبسولة يتم حقنها صباحا في كل شخص لكبت مشاعره وجعله شخص متبلد عديم الإحساس ، وها نحن في 2018 أيضا يعاد إنتاج رواية فهرنهايت مره أخري كفيلم أمريكي سيطرح في أدوار العرض نهاية شهر مايو ولكن هذه المره من إخراج المخرج الأمريكي الايراني الاصل رامين بهران ، وهنا يطرح تساؤل هام هو:

هل ماتطرحه السينما من فكرة مطاردة المثقفين ومعاداتهم وحرق الكتب مجرد أنعكاس لأحداث تاريخيه حدثت في الماضي ومازالت تحدث في بعض الانظمه المستبده فتم الإستمرار في تقديمها بسبب الرواج الذي لاقته من الجماهير أم أنه يعتبر ناقوس خطر يحذر من صعود تيار اليمين المتشدد الذي يحاول دائما السيطره علي الحكم في مختلف دول العالم؟

دعونا نشاهد في صمت.

Visited 44 times, 1 visit(s) today