“الست”: مواطئ الأقدام في الجغرافيا الكلثومية

من أين يُمكن الحديث عن أم كلثوم؟ يعود ذلك إلى نظرة الفنان، وصنعته، ولغته السينمائية.

من أين يمكن الحديث عن الحديث حول أم كلثوم في “الست”؟ من مشهد الافتتاح الذي يصور واحدة من أكثر اللحظات السياسية احتقانًا في القرن الماضي، لحظة الصراع العربي الإسرائيلي الذي تصدرته مصر بعيد النكسة، وتحديدًا عندما قررت أم كلثوم جمع المال للمجهود الحربي، ومن ضمن الأنشطة كان إحياء حفلات على مسرح الأولمبيا في باريس، كانت آنذاك  أم كلثوم في ذروتها، ليست الفنية فحسب، بل قوتها الهوياتية أيضًا، باعتبارها “الكل فردًا” كما يصف الشاعر عبد الله البردوني بطله، امرأة عربية تطلب من مدير أعمالها وابن أختها محمد الدسوقي أن يبلغ الفرقة بجمع الآلات، و تخلع مجوهراتها بكل سخرية ردًا على التهديدات المبطنة من مدير المسرح السيد ب. كوكتريكس، الذي يخبرها أن هتافات الجماهير لفلسطين والقضية العربية يخالف عرف مسرحه الذي لا يريده أن ينحاز إلى طرف دون آخر، لكن أم كلثوم تفعل ما تفعل دون أن يرف لها جفن، قوة كاسحة لا يقف في وجهها العنجهية الأوروبية، من هذه الحقيقة التي لا لبس فيها، ينطلق فيلم “الست” متخذًا من هذا التوقيت الكلثومي الركيزة الدرامية التي يتحرك عليها حتى عودته في الختام.

لقد جرت العادة في أفلام السير الذاتية هو ألا يظهر البطل بوجهه كاملًا مرة واحدة، لا بد من مقدمة، وفخاخ، وإشارات، واستدراج نفسي ودرامي، تختلف مكوناته حسب احترافية المخرج وعلاقته بالشخصية التي يقدمها، في فيلم “المرأة الحديدية” (2011) لفيليدا لويد عن شخصية مارغريت تاتشر، نرى قناني الحليب في سوبرماركت متقشف، ثم نرى اليد العجوز بخاتمها الوحيد مترددةً قبل أن تختار القنينة الأصغر حجمًا (568 ملل)

 وفي فيلم “حنا آرندت” (2012) لمارغريت فون تروتا تظهر الفيلسوفة الألمانية الأمريكية في زاوية ثلاثة أرباع في الظلام، ولا يفلح نور القداحة في تبيين ملامحها، وفي “غاندي” (1982) لريتشارد أتِنبروه نرى ظهر قاتله يسير نحوه هدفه المنشود، مع قميصه الذي لوث العرق أجزاء منه توطئةً إلى مشهد الاغتيال، وفي فيلم “حليم” (2006) لشريف عرفة، تطالعنا مقاطع من شهادات معجبيه وزملائه، ثم نراه من ظهره في لقطة بعيدة صاعدًا المسرح ببذلته السوداء الشهيرة التي  غنى بها “قارئة الفنجان”.  

وفي “الست” لا تظهر أم كلثوم كاملة، كما هو متوقع، يسبقها مشاهد عدة تؤكد عملقتها، السيارات تحتشد في الشوارع الباريسية، الجماهير تتقاطر من كل فج عميق لسماع صوتها ومن بينهم الحسين بن طلال ملك الأردن، و السفير السعودي، والأمريكي، والبريطاني، مع هتافات الحاضرين الذين خلطوا اسمها بالشعارات السياسية، ثم تدخل الكاميرا ا بهدوء إلى حجرتها في كواليس المسرح ، نرى وردًا وبطاقة من شارل ديغول شخصيًا يقول فيها “استمع أنا والشعب الفرنسي إلى دقات قلوبنا في صوتك”، وبعد قرابة ثمان دقائق نرى اليد المسنّة القلقة تمسك بالمنديل، واللغد السمين جراء المرض، والشفتين ترددان بصوت أجش “رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري”، وبعد الموقف مع السيد ب. كوكتريكس ، تعلو أم كلثوم المسرح وتعود بالذاكرة إلى أيام الضنك والفقر في قرية طماي الزهايرة، وبعد أن تؤدي بدايات “أنت عمري” يهجم عليها المعجب الجزائري في القصة الشهيرة التي صورتها الكاميرات آنذاك، وهناك تسقط لأول مرة، وعند ارتطامها بالأرض، تتقهقر الكاميرا زمنيًا جالبةً تاريخ الست منذ الطفولة حينما كانت ترتدي ملابس الذكور مراعاةً للعرف الريفي آنذاك بعدم غناء الفتيات على المسارح، لم تسقط أم كلثوم مهزومةً قط، لكن حين فعلت في مسرح الأولمبيا، حدث ذلك بسبب الحب!

تناول الفيلم ثلاثة خطوط واضحة في حياة أم كلثوم، الخط الأول هو الفتاة الريفية التي أتت إلى المدينة، ثم أم كلثوم والعشق، وأخيرًا: مكانتها الفنية الهائلة متجسدة في جهودها لجمع المال من أجل الحرب.

في كتابي “ماذا حدث في مطبخ جون سافوكا؟: قراءة في المكان السينمائي”، يوجد قسم متخصص فيما أسميته “أفلام المغادرة والوفود” وهي الأفلام التي تُخلق أحداثها بانتقال البطل من مكانٍ إلى مكان، لا يوجد فيلم إلا وحمل في جينه الدرامي، الرغبة في الخلاص من مكان والانتقال إلى آخر، وشرط الوافد هو ألا ينتمي بشكل كامل إلى المكان الذي يذهب إليه، ولذلك فهو وفود/ مغادرة ثورية بطريقة أو بأخرى، والنتيجة تحوي حياةً وموتًا بدرجة ما، للواصل أو المغادر، ويشمل ذلك التحسن أو التطور مثل الحب أو الثراء، أو قد يكون فقدان الحياة، أو الجنون، أو خراب المنظومة، أو إدانتها، أو الانتصار عليها، أو انتصارها على الوافد الجديد.

وذكرتُ أن هذه الأفلام تندرج في أربعة أنواع رئيسية أولها هو انتقال الأبطال من الريف إلى المدينة أو العكس، لقد جاءت أم كلثوم إلى القاهرة مع والدها وشقيقها، وصُوّرت المشاهد بزوايا عالية مظهرةً انسحاق أم كلثوم أمام المدينة، ولؤمها، وشراستها، لكن الصبية الريفية أظهرت حذاقة وذكاءً وشجاعة منذ يومها الأول في شتى أمور اليوم، الرد على المتطاولين، ونسبة أجرها، وتيسير مهامها الفنية، وحتى في أواخر الفيلم وهي تخطب في النساء للتبرع من أجل المجهود الحربي، تشير أم كلثوم إلى كونها طفلة ريفية خائفة استطاعت أن تتبوء عرشها رغم كل شيء،  فأم كلثوم لم تنتصر على القاهرة فحسب، بل انتصرت على المنظومة الفنية والاجتماعية والسياسية خالقةً وطنًا كلثوميًا تتسع رقعته كل يوم.

أما الخط الثاني من حياة أم كلثوم فهو الأجمل والأكثر وضوحًا واكتمالًا، أم كلثوم المرأة العاشقة التي تقع في الحب أو يقع الرجال في حبها، مع أحمد رامي (محمد فراج)، ومحمد القصبجي (تامر نبيل)، ثم شريف صبري باشا، ومحمود الشريف (صدقي صخر)، وأخيرا طبيبها حسن السيد الحفناوي (أحمد أمين).

تألقت منى زكي في هذا الجزء أكثر من سواه، النظرات، وحركات الجسد، والانكماش المحبب أمام السحر الرجولي، واحد من أجمل المشاهد هو لحظات الحب بينها وشريف باشا صبري الذي لعب دوره النجم كريم عبد العزيز. والأداء البديع أيضًا لنيللي كريم في دور الملكة الأم.

هذه الزاوية التي لم تُطرق كثيرًا في حياة أم كلثوم، في أنها امرأة كانت تتوق إلى الأنس، ورأينا للمرة الأولى كيف تحب ولماذا تحب الحنجرة الثقيلة التي طالما غنّت للغرام والتعلق والهجر، وربما تناول صناع الفيلم هذه الزاوية ردًا على المقولات التي يعتبرها البعض حقائق بأن أم كلثوم كانت امرأة سحاقية.

حشد الفيلم كل ما يمكن حشده لترسيخ الفكرة، وهي لا تحتاج إلى ترسيخ في الحقيقة، التي تقر بمكانة أم كلثوم ناطحة السحاب، سماء “ما طاولتها سماء” بمعنى الكلمة، ذروة هذه المكانة هو مشاهد حفلة باريس.

ولا يمكن المرور هنا دون الإشارة إلى عملين قدّما بشكل واضح دور أم كلثوم في جمع المال من أجل المجهود الحربي، أولها كتاب الباحث كريم جمال “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” الصادر عن مكتبة تنمية في 2022، والثاني إحدى حلقات “أكاديمية الإعلام الجديد” التي قدمها صانع المحتوى أحمد الغندور الشهير بالـ”الدحيح” في 1 أكتوبر 2024 وقد حقق  أكثر من أربعة مليون مشاهدة حتى الآن، وتناول بالتفصيل أحداث هذه الحفلة من قبل تنظيمها بعام، لذا لا بد من الإقرار بأنّ هذين العملين قد فوّتا طزاجة فكرة “الست” ومذاقها فيما يخص حفلة باريس والمجهود الحربي، مما أفقدها قليلًا من البريق والإبهار.

إن تقديم فيلم عن أم كلثوم هو شيء حساس وبالغ العُسر، إنّها المرأة الأكثر اكتساحًا في العالم العربي دون مبالغة، لم يشاركها في مكانتها مطرب آخر، ولا حتى عبد الحليم حافظ، لم تدنُ منها ملكة أو سلطانة، ولذلك فتقديم عمل عن أم كلثوم شجاعة من فريق الفيلم، والشجاعة دومًا محط استحسان، بغض النظر عن أي أمورٍ أخرى وإن كنا سنمر عليها لاحقًا.  

إن فيلمًا عن أم كلثوم، بغنائها، وسلطانها، وسلطتها، لا بد أن تخرج منه بشيء ينال إعجابك، كأن تغمس يديك في منسيّات الملك، فلا بد أن تلتقط كأسًا فاخرةً، أو خاتمًا، أو جوهرة!

في الفيلم صنعة بصرية لافتة، قدم مروان حامد مزيجًا من المشاهد الرقمية والتصوير بشريط 16 ملم، ومشاهد الألوان بالأبيض والأسود لإظهار التباين النفسي والتاريخي في الفترة الطويلة التي يغطيها الفيلم، مع موسيقى هشام نزيه المؤثرة كالعادة، كما أن شريط الصوت كان واضحًا (المهندس حسن أبو جبل) وهذا شيء قليل في الأفلام المصرية منذ أكثر من عشر سنوات، والمونتاج جاء جيدًا أيضا (المونتير أحمد حافظ).

اختيار الأدوار، أو التسكين، موفق للغاية، مهما كانت الأدوار بسيطة أو سريعة، وأداء معظم الممثلين لافت في أدق تفاصيله، مثل حركات الرأس، والهمس، واتساع الحدقات أو ضيقها: نيللي كريم، وأمير المصري، وكريم عبد العزيز، وصدقي صخر، ومحمد عبده، وطه الدسوقي، ومحمد فراج، وتامر نبيل، وأحمد عبد الله محمود، وآسر ياسين، وعلي صبحي، واللبناني طارق تميم، وبالطبع سيد رجب، وأحمد خالد صالح، ودميانة نصار الصعيدية بطلة فيلم “ريش” لعمر الزهيري، وعمرو سعد الذي أدى دور جمال عبد الناصر في أداءٍ يقترب من الكمال.

المشاهد التي صورت سلطنة الجمهور، جاءت حية وناطقة، وقد ألفناها ثابتة وبالأبيض والأسود، وهناك أيضًا المقاطع من أغاني أم كلثوم: “أعطني حريتي أطلق يديا”، يا حبيبي” من ألف ليلة وليلة” وغير ذلك، لقد اعتدنا أن ترافق هذه السطور الطربية المُزلزلة حيوات الآخرين، أما أن ترى أغاني أم كلثوم في حياة أم كلثوم فلهذا أثر ساحر وفاتن يبقى طويلًا.

من جهة أخرى عانى الفيلم من جملة من المشاكل، وطاله التقصير بشكلٍ لا يمكن مداراته أو ترقيعه بأي حال من الأحوال، لقد غابت الجوانب الفنية لصالح التسجيلية، وتوارت الدراما خلف التقريرية، لا تتصاعد الأحداث ولا تتعالى، بل تتجمع بجانب بعضها البعض فكانت أقرب للكولاج البصري منه إلى وحدة سردية متماسكة، وهذه مشكلة الكتابة، أي مشكلة أحمد مراد كاتبًا للسيناريو في المقام الأول، ومعه هنا محمود التي اشتركت مع مراد في المعالجة الدرامية.

قالت الممثلة منى زكي غير مرة أنّها بذلت جهدًا كبيرًا تحضيرًا للفيلم، لكن ذلك لم يأتِ بالنتيجة المرجوة في بعض المشاهد، تحديدًا في طريقة نطق الحروف، وحركات الجسد والإيماءات، كما أن الماكياج لم يتقن الاقتراب الشكلي من ملامح أم كلثوم، وبالذات الأنف الذي هو هوية الوجه أكثر من العينين، ورغم ذلك فإن شجاعة منها أن تقدم هذا الدور، وأن تحتمل أن تكون محط الأنظار، والتشنيع، والتربص لملايين المشاهدين، وهذا هدف يُحسب لها بالطبع وهي النجمة الكبيرة والموهوبة.

أما النقطة الأكثر سلبية في الفيلم هو غياب ثلاثة رجال كان لهم الدور الأكبر والأهم في مسيرة أم كلثوم، وهم رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، رغم حضور ألحانهم في مشاهد مفصلية داخل الفيلم، ولم ترد أسمائهم عرضًا أو طولًا، باستثناء مشهد خاطف لعبد الوهاب خصمًا في انتخابات النقابة لا ملحنًا لرائعتها “أنت عمري” التي غنتها الست في مفتتح الفيلم، بالإضافة إلى غياب منافسيها وزملائها وسيرتهم: محمد فوزي، وأسمهان، وعبد الحليم حافظ، وفيروز، وفريد الأطرش وغير ذلك، وكأن أم كلثوم عملت في فراغ اجتماعي ومهني بلا “يا ليل يا عين” منافسة واحدة!

في الفيلم أخطاء تاريخية مثل مكان لقاء أم كلثوم بأحمد رامي لأول مرة، وتاريخ وقوعها على المسرح، ومكان وجودها أثناء بيان ثورة 1952، لكن هذا قد يتم التغاضي عنه من أجل دفع الدراما خطوتين إلى الأمام.

يفعل الفن أشياء كثيرة، منها الإشارة إلى السياسة، بالرأس وبالأصابع، السبابة أو الوسطى، فهو بجانب إشارته إلى قلة مشكلة النصوص الجيدة في السينما، فهو يكشف أيضًا علاقة الجماهير مع رموزها الفنية، الحديث عن أم كلثوم، هو الحديث عن الشمس، والقمر، والكواكب، ذات الصعوبة والمخاطرة، لذا من الغريب أن توجه الاتهامات لمن يُصاب بضربة شمس، أو أن منظر القمر المكتمل يحزنه!

نعم هناك انتقادات حقيقية عن الفيلم، لكن يوجد أيضًا انتقادات للمعترضين على الفيلم الذين تتراوح اتهاماتهم ما بين “العمالة” لتشويه سمعة مصر ورموزها، وحتى المس بالسمعة والكرامة الشخصية.

“الست” معركة مع الإجادة الفنية التي لم يستوفِها الفيلم تمامًا، لكنها أيضًا معركة مع الحساسية الفنية والهوياتية، وتقديس الرموز الفنية إلى درجة الجمود الإبداعي المعيب حتى عند أولئك الذين تجاوزوا تقديس الرموز الدينية والسياسية، بالإضافة إلى القطيعة الوجدانية والنفسية التي تكنها النخبة المثقفة نحو أحمد مراد، ونحو عامة جيل الممثلين الحالي الذين تتصدرهم منى زكي بطبيعة الحال، وهو الأمر الذي يحتاج تحليلًا دقيقًا وتأملًا وافيًا لا يسع المقام للخوض فيه الآن.

يقول الكثيرون بأن الفيلم لم يقدم أم كلثوم كما يجب؟ ما هو هذا الـ “كما يجب”؟ وكيف نعرفه؟ وكيف الوصول إليه؟ في الحقيقة لا يعرف أحد، ولا حتى أم كلثوم نفسها.

عُرض فيلم “الست”، وناله ما ناله، فهو، في آخر المطاف، مُنجز يستحق التحية، ومحاولة جادّة في إيجاد موطئ قدم، وإن جاءت مرتجفة، في الشارع العريض، وحالة فنية يجب فحصها بحياد وإنزالها منزلها في آن، أما الباقي والأكيد هو ما حدث ويحدث للمشاهدين بعد الخروج من قاعة “الست”، مزيدًا من أم كلثوم، مزيدًا من الطرب الاستثنائي، مواطنة أكثر تشبثًا بالجغرافيا الكلثومية.  

Visited 7 times, 1 visit(s) today