“الزين لي فيك”: قراءة في نسخة الفيلم المسربة

يشبه ما قام به نبيل عيوش في فيلمه “الزين اللي فيك”، وإن اختلفت الوسائل، ما سبق وأن أنجزه الكاتب محمد شكري في روايته “الخبز الحافي” التي تعرضت بدورها للعَوالِم السفلى لبعض الفئات الاجتماعية، وطالها المنع بدورها، خاصة من حيث التشابه على مستوى توظيف الجانب السوسيولساني المتعلق بلغة الشخوص[1]، فالشابة “نُهَى” (بطلة الفيلم) كانت أكثر جرأة وانسيابية في حركاتها وكلماتها بحكم زعامتها لرفيقاتها “رندة” (أسماء لزرق) و”سكينة” (حليمة كدواني) و”حليمة” (سارة العلوي) التي التحقت بهن مؤخرا، قادمة من البادية. فعلاقاتها معقدة مع زبائنها من الخليج والغرب، وارتباطاتها المهنية تجعلها على صلة مباشرة بعالم القوادة وما إليه.. تتعامل “نهى” وزميلاتها مع رجال مختلفين من الخليج (السعودية) وآخرين من الغرب (فرنسا) إلا أن قصصهن الخاصة مختلفة بالرغم من أن الثلاثة يتقاسمن فضاءَ شقة واحدة، ويشتغلن سواسية:

– في زيارة أولى خاطفة لمنزل أسرتها، ينكشف الوضع الاجتماعي الهش للفتاة “نهى” التي تعيل أسرة تتكون من أخ عاطل مدمن، وأخت تتابع دراستها سرعان ما سنراها تعانق مغامرات الليل رغم خوف أختها من تلك السقطة، وتتكفل الأم (نادية الزاوي) بإدارة الأسرة والتكفل بابن “نهى” مظهرة عن انتهازية كبيرة في أخذ أكبر مبلغ مالي ممكن من ابنتها تحت اختلاق عدة ذرائع.

أما الزيارة الثانية فينجلي من خلالها رفض الأم لما تقوم به ابنتها؛ إذ الظاهر أن ضغط المجتمع كان حاسما في قطع أواصر الصلة. وفيما يخص العلاقات المهنية، فهي تتزعم فريقها لأنها تمتلك التجربة والخبرة والشطارة والحذق والقدرة على الإمتاع والمؤانسة والمهارة والخداع وكل ما تتطلبه المهنة من حذر وتحايل وقدرة على الجذب وتلبية رغبات الزبائن التي تصل إلى حد الشذوذ والسادية والمرض.

 تعيش “نهى” قصة خاصة مع متقاعد فرنسي يظهر أن له زوجة وابنة تزورانه من حين لآخر بمراكش التي آثر البقاء فيها، وقد اقتنى شقة لهما لتلبية غرائزه ولذاته التي يسترجع من ورائها شبابه وفحولته في علاقة غير متكافئة، لا تخلو من باثولوجيا المرض النفسي.

 ينطبق اسم “سكينة” على حالتها الهادئة، فهي جميلة ومسالمة ووديعة، يعشقها شاب مدمن يبدو أنه يشتغل كحارس بإحدى العمارات، تُكِنُّ له إحساسا خاصا أو أنها تعشقه لأنها تشبع رغباته وتعينه ماديا كما أنه يحلم بالزواج منها بعد انقطاعها عن الدعارة.

يعشقها خليجي (سعودي) لا يستطيع ممارسة الجنس معها بسبب شذوذه أو عنته لكنه يظهر لها أحاسيس رومانسية، وهو أقل عنفا وسادية وشبقية من زملائه بالرغم من تعنيفه لها حينما اكتشفت حالته، فهو يحكي لها، في لحظات صفاء ذاتي، عما يعانيه من زوجته رغم أنه يدافع عن واقع المرأة في مجتمعه.

تدمن “راندة” على المسحوق الأبيض (الكوكايين)، وهي تحلم بالذهاب إلى الخارج للالتحاق بأبيها الذي ترجوه عبر مكالمة هاتفية للعودة بعد تعذر حصولها على الوثائق القانونية المطلوبة فيما يخص بطاقة الهوية الإدارية. نكتشف من خلال زيارتها لأمها أن والدتها تعاني من مرض نفسي (ذهني) جعلها تعجز عن الكلام، وهي مُودَعَة بمنزل يقع بضواحي المدينة. ستدخل “راندة” في علاقة سحاقية بعد لقائها بامرأة في إحدى الملاهي الليلية.

 تلتحق بهن “حليمة”، الحامل، القادمة من القرية، الباحثة عن مخرج لورطتها.

يصور الثلاثة في النسخة الأولية (Pré-montage) الطويلة المُسَرَّبَة مشاهد بورنوغرافية كاملة كانت أولها، وأكثرها جرأة، تلك التي جمعت “نهى” بأحد زبائنها السعوديين وهو عاري كليا في لحظة ممارسة جنسية جماعية مع ثلاث فتيات حيث كان يأتيها في وضعية إيلاج من الخلف، أما الثانية فجمعتها بزبونها الفرنسي الذي تقوم معه بممارسة جنسية كاملة بما في ذلك مص عضوه التناسلي الذابل.. أما “سكينة” فقد حاولت أن تبعث الهمة والسخونة في زبونها لكنه فشل غير ما مرة في الانتصاب رغم أشكال الإثارة التي عمدت إليها، وسيعترضها عشيقها الحارس بوب العمارة وهي عائدة من عملها فتلبي رغبته بسرعة في مشهد بونوغرافي أقل إثارة وأضيق تأطيرا (Cadrage)، وبدون مقدمات إيروتيكية ثم تدفع له مبلغ مائة درهم وتودعه.

 أما “راندة” فتصور مشهدا بورنوغرافيا جريئا رفقة زبونتها، وهو المشهد الذي يشبه ما قامت به بطلتا فيلم “حياة أديل” (2013) للمخرج عبد اللطيف قشيش حيث يتم استغوار واستثارة كل طاقتهما الليبيدية.

لا يتوانى الفيلم عن كشف الارتباطات المتعلقة بظاهرة الدعارة كالمخدرات والبيدوفيليا والشذوذ بكافة أشكاله (سحاق، لواط، سادية…) مقدما شخصيات تعاني من مشاكل اجتماعية ونفسية تدفعها إلى الارتماء في أحضان المتعة المدفوعة الأجر؛ فالفقر يدفع “نهى” و”سكينة” التي لا نعرف شيئا عن عائلتها إلى امتهان تلك الحرفة أما “راندة” فضحية التفكك الأسري، والثلاثة يجدن في سائق التاكسي “سعيد” (عبد الله ديدان)، الصَّامت باستمرار، ذلك المتحمل، المحتضن، المنتفع كما يعوضنه عن فقدانه لأمه.

لا يقل وضع الزبائن تعقيدا عن البنات، فبالرغم من اليسر المادي الذي يظهر على أغلبيتهم باستثناء بعض الفرنسيين العابرين المتقشفين الذي ألفوا قضاء عطلهم بالمغرب وغيره بأقل تكلفة، وبعقلية حسابية، احتقارية واستغلالية، واستنزافية لخدمات غيرهم، تغمط الحقوق وتدعي التفوق، وتلك نوعية أخرى من “السياح” التي يكشفها الفيلم.

 أما السياح السعوديون فيعيشون أزمة نفسية جلية تكشف عنها اعترافاتهم التي تبين تحايلهم على أسرهم للمجيء إلى المغرب عبر تعريجهم على سويسرا، وانصرافهم للصلاة بعد الشرب والعربدة، فمالهم لا يحقق لهم ما يبحثون عنه مما يضطرهم للانتقام من واقعهم المنغلق عبر المتعة المفرطة وصرف الأموال بطريقة مبالغ فيها: استدعاء نساء كثيرات، سكر مفرط، مخدرات، جنس مشترك وجماعي، شذوذ، تشتيت للمال أثناء الرقص والسهر، عقدة التفوق (أسياد العالم!)، استعراض القوة الجنسية أو ادعاء ذلك.. وهي ممارسات لا تنم عن السواء، بل تحيل على مشاكل نفسية ومرضية ناتجة عن اضطرابات وحرمان مضاعف كما تكشف تلك الممارسات التي يصورها الفيلم عن رؤية دونية تلخص المرأة في المتعة، تلغي قواها العقلية، وتتعامل معها بازدواجية غير عادية: نفعل مع الأخريات ما لا نستطيع فعله مع الزوجات!

انطلاقا من نسخة العمل (Copie de travail) المسربة عبر موقع “vimeo”، والتي تصل إلى ما يفوق الثلاث ساعات تقريبا، يمكن التكهن بأن المخرج “ينوي” توضيب نسخة محلية من الفيلم، وأخرى دولية، نسخة سينمائية وأخرى للاستهلاك عبر الوسائط والحوامل الرقمية المتعددة.. فالفيلم لا يرقى في عموميته إلى المستوى الفني الذي وصل إليه نبيل عيوش في أفلامه السابقة (مكتوب، علي زاوا، كل ما تريده لولا، يا خيل الله) كما أنه رتيب على مستوى الكتابة، ولا تتوفر حكاياته ذات الأضلاع الثلاثة على ما ينبئ بمونتاج متواز يوفر عناصر التشويق المطلوبة في العمل الدرامي مما يعني أن المخرج يهدف إلى إثارة الانتباه للظاهرة خاصة وأنه يمتلك من الحنكة والجرأة والتجربة والحماية ما يجعله قادرا على مواجهة مجتمع محافظ تتعايش فيه كل المتناقضات في صمت مطبق وما استجماعه بشكل مقصود لكل مفردات القاموس اللغوي المتعلق بِعَالَم الليل والدعارة والشذوذ إلا دليل على توجهه القريب من الواقع مع العلم أن ذلك المكون حاصل في كل أفلامه السابقة.

فقد دَبَّرَ إخراج وخروج فيلمه بشكل واع وعقلاني، كما أنه يدرك جيدا دوره في مجتمعه، ويفهم قدرة السينما على القيام بفتح نقاش عمومي تجاه هذه الظواهر، والدليل على ذلك اشتغاله على تيمات مغايرة في أفلامه: قضية الكوميسير “ثابت” في فيلمه “مكتوب”، وأطفال الشوارع في فيلم “علي زاوا”، والمثلية في فيلم “لحظة ظلام”، والجسد في فيلم “كل ما تريده لولا”، والإرهاب في فيلم “يا خيل الله”.. وتتضمن كل أفلامه إحالة صريحة أو مضمرة للجنس والشذوذ وما يرتبط بهما كما أنه لا يفوت فرصة للدفاع عن توجهه ذي المرجعية السوسيولوجية والاقتصادية التي تنسب سبب تخلف المجتمع وهناته للفقر والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والتي يقدمها وفق أسلوب سينمائي يتماهى مع الواقع بمعناه الوثائقي اعتمادا على “أبطال” و”شخوص” يظهرون لأول مرة على الشاشة، وينتمون إلى نفس المجال الذي يقاربه الفيلم.

يبرز الفيلم أن كل الفتيات اللاتي يمارسن الدعارة مدفوعات إليها دفعا، وهن يبحثن عن الفرصة المواتية أو المَخْرَجِ المناسب للتخلص مما يقاسين، إنهن يحلمن بزوج مثالي، ثري، لطيف، طيب المعشر، سيارة فخمة، مسكن لائق أو فاخر (ڤيلا أو شقة رفيعة).. ويحسن الفيلم تصوير أحلامهن في مشهد يَتَمَنَّيْنَ الذهاب فيه إلى جزيرة هادئة تنتفي فيها شروط التعاسة، تماما، كما يحدث في المدن الطوباوية.. والمعروف أن المخرج يوظف الحلم بطرق متعددة في أفلامه وخصوصا في فيلم “علي زاوا” الذي يطمح فيه أحد الأطفال إلى السفر إلى جزيرة بعيدة حيث لجأ المخرج إلى تقنية الرسوم المتحركة للتعبير عن حلمه الطفولي.

———————————–


1- يشير عبد الصمد الديالمي، نقلا عن صلاح الدين المنجد، إلى أن اللغة الجنسية عند العرب لغة غنية، خصبة ومتنوعة. فعلى سبيل المثال، تضم هذه اللغة أزيد من مئة لفظ تدل كلها على النكاح بمعنى الجماع، بالإضافة لأسماء متعددة للأعضاء التناسلية. ويرجع المنجد غنى اللغة العربية الجنسي إلى تنوع لغات القبائل وإلى كثافة الحياة الجنسية عند العرب في العصر الجاهلي وفي العصور الإسلامية المزدهرة (الأموي والعباسي بالخصوص). فالحاجة إلى تسمية الجنس وكل ما يتعلق به يعكس وجود حاجة اجتماعية ماسة وملحة إلى ذلك [“سوسيولوجيا الجنسانية العربية”؛ دار الطليعة؛ الطبعة الأولى؛ بيروت؛ 2009؛ ص: 11].

Visited 180 times, 1 visit(s) today