“الحصان الأسمر”.. الإصرار على النجاح
هناك شيء ما في الفيلم النيوزيلندي البديع “الحصان الأسمر”The Dark Horse للمخرج جيمس نابيير روبرتسون، يدفع إلى التفكير فيما وراء القصة أو الشخصية المعروضة أمامنا على الشاشة، شيء ما ذو نفس وجودي، فالفيلم يروي جانبا من قصة حياة “جينيسيس بوتيني”- وهو رجل “ماوري” (ينتمي إلى إحدى قبائل السكان الأصليين في نيوزيلندا واستراليا وهم الماوريين) كان في الماضي، أحد أبطال لعبة الشطرنج، وعُرف ببراعته وسرعة بديهته وقدرته على قراءة عشرات الحركات القادمة على رقعة الشطرنج في ثوان معدودة.
غير أن “جن”- كما يطلق عليه من يعرفونه اختصارا، يبدو أولا وكأنه يتخذ من لعبة الشطرنج وسيلة لتحقيق وجوده ووجود شعبه الذي تعرض للتصفية والإبعاد والتهميش ودُفع للانغلاق على الذات منذ عشرات السنين، فها هو “جن” يسعى بكل قوته لإثبات قدرته، ليس فقط على البقاء، بل والتفوق أيضا، وهو مغرم بجمع قطع الشطرنج التذكارية القديمة التي تجسد في أشكالها، محاربين من قبائل الماوريين، كما سيمنح لكل طفل من الأطفال الذين سيتولى تدريبهم وقيادتهم لخوض المسابقة الوطنية للعبة في العاصمة “أوكلاند” بعد ذلك، قطعة ويطلق عليها اسما من أسماء محاربي “الماوريين”، ثم يطلب من كل طفل تحديد نقاط قوته.
يتناقض الحس الوجودي عند “جن” مع وجودية سارتر، فالآخرون عنده ليسوا هم الجحيم، بل هم الجنة في الأرض، فوجوده يرتبط بوجود الآخرين من أبناء شعبه الذين يعانون من الفقر والتخلف وانتشار الجريمة والعنف في أوساطهم.. إنه يجد نفسه وسط هؤلاء الأطفال أبناء الأسر التي تعيش على الهامش، يعد أن أصبح أباؤهم إما في السجون، أو منغمسين في الجريمة، ومنهم شقيق “جن” الأكبر “أريكي” الذي تعلم هو على يديه في الصغر إجادة لعبة الشطرنج، ولكن “أريكي” أصبح الآن منغمسا في الجريمة مع عصبة من الأشرار السكارى الذين يريدون ضم ابنه المراهق الشاب “مانا” إليهم، ولا يمانع هو بعد ان أصبح مشرفا على الموت متأثرا بمرضه الخبيث، فهو لا يرى وسيلة أخرى أمام ابنه يضمن بها وجودا في عالم لا يحكمه سوى الأقوياء.
أما “جن” فهو يريد انتشال “مانا” من أيدي تلك الطغمة، ويضمه الى فريق “الفرسان الشرقيون” الذي كونه داخل إحدى مدارس الإصلاح والتهذيب، مع أولئك الشباب الصغار، يريد أن يمنحهم الأمل، أن يقدم لهم شيئا إيجابيا، يجعلهم يشقون طريقا مختلفا عن آبائهم، طريقا للتفوق. لكن مشكلة “جن” الذي نراه في بداية الفيلم يغادر مصحة للأمراض العقلية، كأنه قد ألقى به خارج الرحم الى قلب الحياة، يعاني من مرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، الذي يجعله يمر بلحظات من الاكتئاب الحاد، وقد يصاب أيضا بنوع من الهلوسة يتحدث خلالها لنفسه مرددا ما يسمعه من كلمات، قبل أن يصاب بنوبة أخرى ربما تستمر لأشهر، من النشاط والحماس والتفاؤل والإقبال الشديد على العمل الايجابي. ولكن “جن” يدرك مرضه، يريد أن يتحكم فيه ويكبح جماحه بل ويقهره أيضا، بالإصرار على العمل، على الفعل الإيجابي من خلال تدريب الأطفال على اللعبة وقيادتهم للفوز بالبطولة الوطنية أيضا.
هذا البطل- “اللا- بطل” إذن مهجووس بفكرة قهر ضعفه، سواء على الصعيد النفسي – العقلي أو على الصعيد الاجتماعي، لكنه لا يطلب سوى فرصة.
لن تمر تجربة جن في طريق سهل، بل سيواجه الكثير من التحديات التي تأتي من خارجه، من خارج مرضه وعقله الذي يجعله أحيانا يصاب بنوبات من الهلوسة البصرية المفزعة كما في المشهد البديع الذي نراه يتخيل أنه ينزف من فمه حتى يمتلئ وجهه بالدم، وكلما مسح الدم بمنشفة من تلك المناشف الورقية داخل دورة المياه العمومية، كلما ازداد النزيف.
ورغم أنه بعيد كل البعد عن العنف، إلا أنه سيتعرض للاعتقال. فبعد مغادرته المصحة مباشرة، يهرول تحت المطر في مشهد بديع، ليتوقف أمام محل يبيع العاديات بعد أن يلمح داخله مجموعة أثرية من قطع الشطرنج، فيدخل ليلعب ضد نفسه، في سرعة مدهشة وهو يتحدث بصوت مرتفع، وتتدفق الكلمات من فمه ويخشى رواد المحل أن يكون تصرفه الغريب مقدمة للعنف، فيبلغون الشرطة التي تحضر للقبض عليه. لا يتركونه يذهب سوى بعد أن يأتي شقيقه الذي لم يره منذ سنين بعيدة، ليضمنه ويتركه يقيم عنده بعض الوقت، ثم يمنحه بعض المال ليبحث لنفسه عن مكان يأوي إليه، غير أنه ينفق المبلغ على شراء الشطرنج التاريخي ويوزع قطعه على أعضاء فريق “الفرسان الشرقيين”، بعد ان يقنع المشرف على المدرسة بأن يتركه يتولى تدريبهم.
الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية تروي جانبا من حياة جنيسيس بوتيني Genesis Potini، الذي كان يطلق عليه “الحصان الأسمر” لبراعته في الشطرنج، وقد ظهرت قصته في فيلم تسجيلي بالعنوان نفسه عام 2003، ومنه استمد المخرج روبرتسون الفكرة بعد أن عايش الشخصية الحقيقية لفترة طويلة، واقترب من الأطفال الذين لعب “جن” دورا كبيرا في نقلهم من حالة الفراغ والضياع التي كانوا يعيشونها داخل الإصلاحية، إلى التطلع نحو تحقيق التفوق والشعور بالفخر، وهي الفكرة الرمزية التي يستخدمها الفيلم للتعبير عن قدرة “الماوريين” على الإبداع، وأنه يمكنهم في حال توفرت الظروف “الطبيعية” النجاح بل والتفوق. ويجسدها المخرج في مشاهد المنافسة التي تجري بين “الفرسان الشرقيين” بسحنهم الغريبة وملابسهم البالية وفقرهم الواضح، ونظرائهم من أبناء الطبقة الوسطى البيضاء بملابسهم المهندمة الأنيقة وتمسكهم بمظاهر الأدب التقليدي، كما يجسد ببراعة التوتر الناتج عن تلك التجربة، وحالة “جن” النفسية، التي تجعله لا يستطيع التحكم في مشاعره، فتفلت منه صيحات في أعضاء فريقه تكاد تكلفهم الخروج من البطولة.
ولكن أهم وأكثر عوامل تميز هذا الفيلم يتمثل في ذلك الأداء العبقري للممثل النيوزيلندي الماوري “كليف كيرتس”، الذي يقوم بدور البطولة، مؤديا الشخصية في تقلباتها، وجموحها، معبرا عن الاضطراب العقلي والتشتت والانتقال من حالة الاكتئاب الى التألق والنشاط الذهني، صامدا وحده أمام الكاميرا في كل المشاهد، متآلفا مع الشخصية كأنه يعيش في داخلها، يبدو بقصة شعره الغريبة التي تجعله أقرب إلى “البانك”، وبفكه الخالي من الأسنان الأمامية، وجسده المترهل، كأنه بطل أسطوري خيالي خرج لتوه من جوف التاريخ، ليتعلم الحياة، ويعلم الآخرين، معنى المتعة، متعة التحقق. وهو برقته وعذوبته وضعفه الكامن الذي يتبدى خلال تعامله مع الآخرين الذين يقابلونه بكل خشونة وقسوة، ومقدرته على التحكم في مشاعره أمام ما يتعرض له من استفزازات، يكشف عن وجه آخر يتناقض تماما مع مظهره الخارجي.
يستخدم المخرج كثيرا الكاميرا الحرة المتحركة المهتزة، التي تتابع بطله في مشاهد معبرة، وهو يغطي جسده ببطانية ثقيلة ويحتمي من المطر بقلنسوة تسقط دائما من فوق رأسه، هائما على وجهه، مصرا على تحقيق حلمه ونقل خبرته في اللعبة إلى أولئك الشباب، والإصرار على تخليص ابن شقيقه “مانا” من مصيره، ودفعه للطريق القويم، ولعل رسم ملامح العلاقة بينهما في الفيلم، التي تبدأ متوترة يشوبها عدم الثقة من جانب “مانا”، ثم تكتسب تدريجيا دفئا وثقة، من أجمل ملامح سيناريو هذا الفيلم، الذي يصور بدقة وشاعرية، كيف يكتسب الفتى ثقة في نفسه وفي “جن”، فيبدأ في التعبير عن مشاعره تدريجيا، إلى أن يصبح “جن” عنده بمثابة الأب البديل.
ظهر الممثل كليف كيرتس للمرة الأولى، في دور صغير في الفيلم النيوزيلندي الشهير “البيانو” لجين كامبيون الذي فاز بالسعفة الذهبية بمهرجان كان عام 1993، ثم مضى ليشق طريقه بنجاح في عدد من الأفلام داخل نيوزيلندا قبل أن تلتقطه هوليوود ليقوم بأدوار الرجل الأجنبي، الهندي والمكسيكي والعربي واللاتيني. وقد تعلم الشطرنج كما عمد إلى زيادة وزنه قبل قيامه بدور “جينيسيس بوتيني” الذي نعرف من خلال ما يظهر على الشاشة في نهاية الفيلم، أنه ظل يشرف على فريق “الفرسان الشرقيين” إلى أن توفي عام 2011، وأن فريق “الفرسان” مازال قائما حتى يومنا هذا. وبسبب تأثيره الكبير ونجاحه الفني والجماهيري في نيوزيلندا، حصل فيلم “الحصان الأسمر” على الجوائز الرئيسية في المسابقة الوطنية، كما اعتبره النقاد أحد أفضل الأفلام النيوزيلندية في كل العصور.