“الجمعية” نموذج لـ “سينما الفقر”
“الجمعية” هو الفيلم التسجيلي الأول للمخرجة اللبنانية – المصرية ريم صالح، الذي صورته في مصر، وتحديدا في حي روض الفرج الشعبي بالقاهرة، وهو من الانتاج المشترك بين مصر ولبنان وسلوفينيا وقطر واليونان.
قضت المخرجة سبع سنوات في تصوير هذا الفيلم الذي يسعى الى تقديم صورة عن الواقع في حي روض الفرج الشعبي في القاهرة، من زاوية محددة سبق أن تكررت في عدد كبير من الأفلام التسجيلية المصرية، وكأن مصر ليس فيها سوى هذا الجانب الذي أصبح “إكزوتيا” أي يثير شهية المتفرج الأوروبي بتناقضه الفظ مع الحداثة، وبالتالي يفتح الطريق أمام الحصول على تمويل أجنبي، كما لو كان المطلوب دائما التركيز على صورة محددة للواقع في أدنى صوره، أي في تداعيه وانهياره، مع تكرار الصور التي تعكس الظروف المستحيلة التي يعيش فيها قطاع كبير من المصريين.
لقد تكررت هذه الصور والنماذج والأنماط في أفلام تسجيلية مصرية ظهرت خلال السنوات الأخيرة، حظيت باهتمام دولي، وعرضت وفازت بالجوائز في كثير من المهرجانات السينمائية الدولية. من هذه الأفلام على سبيل المثال: “البنات دول” لتهاني راشد، “أبدا لم نكن أطفالا” لمحمود سليمان، “جلد حي” لأحمد فوزي صالح، و”توك توك” لروماني سعد، “الكترو شعبي” لهند مدب، وغير ذلك. بعض هذه الأفلام لاشك أنه مصنوع جيدا ومتميز في طريقة معالجة موضوعه، إلا أن التساؤل هنا يتعلق بالسبب في تفضيل مثل هذه الموضوعات التي أصبحت نمطية تماما، فقد أصبحنا نتوقع أن يكون أي فيلم تسجيلي يأتي من مصر الى مهرجان دولي، من “أفلام الفقر”، التي تتكرر صورها وقوالبها الممتدة بلا نهاية.
لسنا بالطبع مع النظرة الرسمية التي كانت ومازالت ترى أن هذه الأفلام “تسئ لصورة مصر” بوجه عام، فالأفلام ليست هي التي تسئ بل الحقيقة أن ترك الواقع على ما أصبح عليه، أي على كل هذا القدر من التدهور، هو أكثر ما يسئ لصورة مصر في عيون العالم. ومن المفروغ منه أن الزائر أو السائح القادم الى مصر أصبح في الحقيقة يفضل ان ينصرف تماما عن مصر المعاصرة بمشاكلها التي لا تنتهي، وينكب فقط على الاهتمام بصورة “مصر الفرعونية” أي التاريخية القديمة التي أصبحت بالطبع من “الآثار” فالأثر أهم عند الأوروبي من الواقع. أما المقصود من هذا المدخل فهو السؤال التالي: هل الإقبال على مواضيع من هذا النوع يحدث نتيجة أن أصحابها يمكنهم العثور بسهولة على أطراف انتاجية ترحب بالمساهمة في التمويل؟ وهل هذه الأطراف الانتاجية لم تعد مثلا ترحب بأفكار أخرى لأفلام تسجيلية تدور في بيئة ومناخ مختلفين تماما، كأن نرى فيلما تسجيليا عن الوضع الراهن للسينما في مصر، أو حالة الشارع المصري والفوضى التي يعيشها الرصيف بوجه خاص، أو انهيار منظومة التعليم، وكلها أيضا من مظاهر التدهور الاجتماعي إلا أنها لا تكتسب بالضرورة كل هذا القدر من الصورة “الجرافيكية” المثيرة الصادمة عند التعامل معها سينمائيا.
الأمر أصبح كما لو أنه إذا لم تكن هناك الثورة والربيع العربي لتصوير مظاهره واضطراباته في الفيلم التسجيلي المصري، فالفقر موجود، وهو مصدر دائم ومضمون لحشو أي فيلم يكون مخرجه عادة مولعا بفكرة تصوير “الواقع”.. والصور واحدة ومتكررة: الحياة المستحيلة في بيوت متلاصقة ضيقة بشعة آيلة للسقوط تقع في حارات خانقة من الأحياء الشعبية العشوائية في القاهرة بوجه خاص، وهي بيئة تمتلئ بالذباب والقمامة ومياه الصرف الصحي التي رشحت في الأزقة والحواري، وصور الأطفال المحرومين من طفولتهم، والكبار المصابين بشتى أنواع الأمراض ومع ذلك فهم يتكاتفون من أجل الاستمرار في الحياة، والجميع يؤمن بالقضاء والقدر، في الفرج القريب الذي سيأتي وحده، لكنه لا يأتي، وفي النصيب الذي لا مفر منه فلابد أنه سيلحقك. وأحلام الفقراء بسيطة تماما، أساسها الطعام، وحتى عندما يشتكون فإنهم يقارنون بين الذين يأكلون أفضل الأطعمة، والفقراء الذين لا يجدون ما يكفيهم من الطعام بالقروش القليلة التي يتحايلون على الحياة من أجل انتزاعها انتزاعا، وهي في هذا الفيلم تأتي إما من تجارة عشوائية في بيع الملابس أو الخضراوات أو تربية الماعز وبيعها، أو عمل ما يعرف بـ”الجمعيات”. في فيلم “الجمعية” المال مهم كثيرا جدا بل وعنصر أساسي بارز في الصورة: هناك اجتماع اسبوعي لجمع الجنيهات التي تضمن نصيب كل شخص في “الجمعية” التي يتعين أن يقبضها شخص ما في نهاية الشهر سواء لشراء أمتعة، أو الانفاق على الأبناء، أو تزويج الابنة.. وغير ذلك.
لدينا عدد من الشخصيات يتمحور حول أم غريب وأم ابراهيم.. وغيرهن. وقد نجحت المخرجة ريم صالح في اقتناصها ولو للحظات من قلب حياتها التعسة، صورتها وظلت تتابعها لسنوات وظلت وهي تواجه مشاكل الحياة. ونحن نشاهد كيف تعيش هذه الشخصيات أو تتحايل من أجل العيش، زواجها وطلاقها، أبناؤها ومشاكلهم، العلاقات المتوترة بين الرجل والمرأة، لكن العنصر الملحوظ يتمثل في تلك الذهنية السائدة التي تميل بطبعها الموروث للغيبية والقدرية، بحكم محدوديتها وافتقادها للتعليم والوعي الاجتماعي والحس الطبقي، مع غياب ترف التفكير خارج سياق “اليومي” و”المعتاد” و”العادي” و”ما يكفي بالكاد”، وتحقيق الرغبات البدائية الأولية (الطعام والجنس) وأحيانا أيضا (الحشيش والجنس) مع عدم قدرة على فهم أسباب الوضع الذي ألت إليه أو ما أصبحت عليه، فهي رغم كل ما يحوطها من ضغوط مباشرة تميل إلى التواكل والاستسلام للقدر، تلجأ إلى الله، توكل إليه وحده حل قضاياها ومشاكلها التي لا ترى منها سوى الظاهر على السطح والمباشر، فهي لا تدرك مثلا مخاطر تلوث البيئة على الصحة العامة، أو الاضرار الهائلة التي تنتج عن تلوث مياه الشرب.
لاشك أن المخرجة نجحت في جمع الكثير من المواد المثيرة للاهتمام والمنسوجة جيدا، مع وجود شخصيات مفصلية أساسية تدور من حولها “القصة” أو “الموضوع” رغم عموميته. إلا أن مشكلة الفيلم ترجع إلى أن المخرجة تكتفي بالتصوير والعرض كما لو كانت تصنع فيلما أنثروبيولوجيا عن سكان الاسكيمو مثلا، فهي لا تتوقف أمام الظاهرة لكي تحللها وتستخلص منها ما يفيد المشاهد في مصر أو في الخارج. إنها على سبيل المثال هي لا تتعمق في سبر أغوار فكرة الشعور بالفقر، بالحاجة، بالتهميش الاجتماعي، ولا تبحث على أي مستوى من المستويات، عما يمكن أن يحدث لهؤلاء الناس اذا استمرت الحياة على ما هي عليه، أي إذا ما طال انتظارهم لتدخل “القدر”، مع احتمالات انفجار الغضب الشعبي في ظل مصاعب الحياة المتزايدة يوما بعد يوم.
إنها توحي من خلال تركيزها على ما تملكه هذه الطبقة- رغم فقرها وتخلفها- من جمال يتمثل في قدرتها على الاحتفال بالحياة والشعور بالفرح من خلال الرقص والغناء وغيرهما، بأن هؤلاء الناس يعرفون كيف يتكيفون مع واقعهم، لا يسعون أبدا إلى تغييره، وكأنهم يستعذبونه أو كأنه قدرهم المكتوب. وهي لا تتوقف أمام الفكرة المطروحة بوضوح في فيلمها في أكثر من مشهد ومن خلال أكثر من شخصية، أي فكرة اللجوء للدين ولكن في تواكلية واضحة، وترك الأمور لما يأتي به الغيب، ولا تحاول معرفة سر تغلغل هذه المفاهيم وخطورتها خاصة العلاقة مع الموت، والإيمان بأن الحياة الحقيقية ستأتي بعد الموت.
ترى: هل هناك مسؤولية للدولة والسلطات فيما يعيشه هؤلاء البشر في تلك المجتمعات العشوائية المغلقة في قلب القاهرة، في حي روض الفرج بشبرا؟ ريم صالح تقول إنها لم تكن مهتمة بالبحث في أي تعقيدات سياسية بل أرادت فقط تصوير طبيعة حياة هؤلاء البشر. ريم صالح تقع في غرام كل ما تصوره، فهي معجبة بهذا النمط من الحياة، تجد فيه مجتمعا تضامنيا يفيض بالتعاضد الانساني والحب والتساند بل انه مجتمع حقيقي يتميز بالصدق حتى في مشاجراته، وهي تقبل بالتالي كل مضاعفات “الحالة الاجتماعية”: اللجوء الى الخرافة، والتمسك بالأسطورة، والالتزام بالعادات الموروثة المتخلفة. مشكلة الفيلم أنه يكرس لك الحالة بكل سلبياتها ومشاكلها ويعتبرها نموذجا للحكمة المتوارثة، وهي بدورها نظرة استشراقية خطيرة الدلالة.
الشخصيات التي نشاهدها هي شخصيات تموج بالحياة رغم مصائبها المتراكمة وأمراضها التي تجعل الكثيرين عاجزين عن السير بشكل طبيعي، كما تتفشى بين النساء جميعا أمراض السمنة والترهل، ولكن بدا أن تخصيص مساحة كبيرة في الفيلم للمراهقة الصغيرة “دنيا” (ينادونها أيضا بفاطمة) التي تتحدث حديثا يشبه أحاديث الكبار كما يكتسب صوتها خشونة واضحة، فهي رغم ميلها للتمرد المبكر، إلا أنها تعبر أولا عن تصورها لنموذج الرجل الذي يعجبها وقد ترغب في الزواج منه مستقبلا، فتقول إنه يجب أن يضربها علقتين أو ثلاثة يوميا، ليشعرها بأنه رجل حقيقي. أي أن الرجل عندها هو الرجل الشرس الفظ، وهي صورة مرضية بالطبع لا نعرف من أين استمدتها هذه الفتاة الصغيرة. ويزداد الأمر تعقيدا بل وبما يشبه الصدمة عندما تقول إنها هي التي أصرت على ان تجري لها أمها عملية الختان، بل وقد دفعت تكاليفه من المال الذي حصلت عليه من “الجمعية” فقط لكي تثبت لشقيقها أنها كما تقول حرفيا- “أصبحت آنسة” وأنه لم يعد يحق له دخول غرفتها فجأة وهي ترتدي ملابسها. وهي تضيف أن خروجها من المدرسة وانغماسها في العمل وهي مازالت طفلة تحت السن القانونية، أفضل من الدراسة، وأكثر راحة بالنسبة لها، وأنها تجد متعة في العمل وكسب عيشها بنفسها.
لقطات ريم صالح طويلة، وهي تلاق شخصياتها بكاميرا محمولة حرة، تتابع تلك الشخصيات في الحواري الضيقة وعلى السلالم الملتوية. ورغم البيوت الضيقة الخانقة، نجحت في خلق اضاءة كافية للاحتفاظ بالواقع كما هو، والأهم أنها نجحت في خلق علاقة مباشرة مع شخصيات الفيلم التي أصبحت تثق فيها عبر السنين، وعادت لتصور تطور حياة هذه الشخصيات: ابتعاد الزوج، الطلاق أكثر من مرة واعادة الزواج، تغيير العمل.. الخ إلا أن التصوير خلال سنوات وعلى فترات متقطعة، تسبب في وقوع بعض الارتباك في ترتيب سياق الداخل أو اتعاقب بين الأزمنة، مع بعض القفزات التي لا تتسق مع منطق الفيلم وسياقه السردي، وهو ما كان يمكن ضبطه من خلال المونتاج. لكن التجربة بوجه عام، جيدة ويمكن مستقبلا مدها على استقامتها في أعمال أخرى ربما تدور حول مفاصل محددة مثل الموت والميلاد، الزواج والطلاق، سطوة الحارة. وغير ذلك.