“الجلسة سريَّة”.. عُنفوان الدراما السينمائيَّة
شهرٌ أو يزيد سنعيشه مع “عبد القادر أمين حسين مُصطفى” ومأساته التي لا تُتصوَّر. والتي قدَّمها لنا عام 1986 المُخرج “محمد عبد العزيز” وألَّفها “نبيل عصمت”. وتوَّجها الفنان الراحل الأستاذ “محمود ياسين” ببُطولته وإنتاجه. ليُرينا ما الذي يُقدِّمه فنان حقيقيّ عندما يمتلك الأموال التي يُنتج بها عملاً فنيًّا، وليُحرج الكثير من أهل هذه الصناعة الذين يعلمون ما الذي يقدِّمونه للمُتلقِّي وضميره ووعيه متى امتلكوا إمكانات الإنتاج. فتحيَّةً للفنان الذي رحل.
نرى في أوَّل لقطات الفيلم “إحسان” -شهيرة- السيّدة الحُبلى التي تقف في آخر دقائق حملها تنتظر أحدًا يحسن إليها ويوصلها المشفى لِتلد. وتأتي يد الأقدار ليقف لها “عبد القادر” بسيَّارته الفخمة ويستقلِّها إلى مشفى “الرحمة” ويتكفَّل بمصاريف ولادتها إحسانًا منه لإحسان. لكنَّها لا تُقابل هذا الإحسان بمِثله بل -عن جهل وضيق أُفق- تكتب الطفل باسم “عبد القادر”. يكتشف “عبد القادر” الأمر الذي أذهله ويُفكِّر في تبعات هذا الفعل الذي سيجعل له ابنًا ليس ابنه، وسيجعله شريك ابنه الحقيقيّ ووريثه فيما بعد. فيحاول “عبد القادر” بكُلّ الطُّرُق أنْ يُثنيها عن فعلتها دون جدوى.
يهرع إلى صديقه “لُطفي” -سمير صبري- ليُساعده في حلّ هذه المُعضلة التي حلَّت به. في الوقت الذي يُخفي هذا الأمر على زوجته “زهيرة” -يُسرا- وابنه ذي الأعوام التسعة. ومع توالي الإخفاقات لجهودهما يُوكِّلان محامي لإقامة دعوى إنكار نَسَب ضدّ الطفل “أحمد” الذي أُلصق به. وفي تلك الأثناء يتطور الأمر وتدخل عناصر كثيرة في القضيَّة لتزيد من تعقيدها. ولمْ يكن “عبد القادر” يتصوَّر ما الذي سيُكشف له من جرَّاء هذا الباب الذي فتحه أو الذي فُتح أمامه من أهوال.
الفيلم يتميَّز ببنائيَّة حِرفيَّة مُتماسكة للغاية. فقد اعتمد على استلهام المأساة اليونانيَّة ورُوحها في صناعة هذا الفيلم؛ الذي لا يُمكن تنفيذه إلا كما نُفِّذ. إنَّه فيلم سينمائيّ ذو رُوح مسرحيَّة مأساويَّة من الطراز الأوَّل حتى إنْ حاولنا تشبيهه سنجد أمامنا “أوديب” لسوفوكليس حاضرةً، أو مثيلاتها من أعمال إيسخيلوس أو يوربيديس. يبدأ الأمر من تلك القصَّة التي تعتمد على فكرة “التدخُّل القَدَريّ” في حياة البشر، وما تضعه أمامهم من مُعضلات وامتحانات لا يمكن لهم تجاوزها. ومن هنا تتسرَّب إليك فكرة القَدَر المُعجِز -أيْ الذي يصيب الإنسان بالعجز-. ومن مُشابهته لرُوح المأساة اليونانيَّة هو إحساس الفخامة العامّ الذي يصنعه قوَّة الدراما وقسوتها في أحايين كثيرة.
اعتمد الفيلم على تقنية كُرَة الثلج التي فيها تزداد الدراما تعقيدًا مع كلّ فصل، ومع كلّ مشهد، ومع كل حوار يدور بين الشخصيَّات. وتظلّ تزداد حتى آخر لقطة في الفيلم فهو ليس من أفلام التقنيات الاعتياديَّة للدراما. مثل هذا التدرُّج التراكُميّ للتأثير الدراميّ يقتضي الكثير من المُميِّزات منها قوَّة الحدث الرئيس -دون الكشف عنه هُنا-، وقوَّة لحظات التعقيد، وقوَّة لحظات الكشف، وحوارات ثريَّة قادرة على دعم هذه الأُسس وإبراز المعاني ونقل الأحداث.
ولقد استطاع “نبيل عصمت” أنْ يصنع دراما تمتاز بكلّ هذه المُميزات، مع امتيازها بالأصالة. فالفيلم فيلم أصيل ليس فيلمًا ينتمي إلى غيرنا بل هو مِنَّا ولنا. برزتْ منه الكثير من المعاني التي تتعلَّق بالقدر والأخلاق والتي تشير إلى مراحل التأرجُح الشُّعُوريّ، وزعزعة اليقين، ودور اليقين نفسه في التكوين الإنسانيّ الطبيعيّ.
لقد تعدَّدت جوانب العمل الإخراجيّ الناجح في هذا الفيلم. ولعلَّ أبرزها هو اهتمام المُخرج بتكوين الكادر؛ فللكادر وتكوينه الدور الأوَّل في اهتمام المُخرج -تصويرًا- بالعمل. سيلاحظ هذا الأمر كل مُدقِّق في الصورة السينمائيَّة. حيث عوَّل عليه في عمليَّة حكاية الأحداث وإبراز بعض المعاني فيها. بدأ الاهتمام بتكوين الكادر باختيار أماكن التصوير التي ستكوِّن خلفيَّة الصورة السينمائيَّة؛ والتي من أهمِّها شقَّة “إحسان” التي نرى الرطوبة تأكل جدرانها أكلاً، وما فيها من مُكوِّنات أثاثيَّة وتزيينيَّة، وكذلك فيللا “عبد القادر” ومكتبه، ومكتب المُحامي.
ثمَّ أتى أمر حَرَكيَّة المُمثِّلين داخل المَشاهد والتي تمثِّل البُعد الأوسط فيما بين خلفيَّة الصورة السينمائيَّة ومُقدِّمتها. وهنا نرى عملاً شاقًّا قام به المُخرج لإثراء صورته. يوضِّح هذا الأمر عُنصران الأوَّل هو وضع المُمثلين في حال ابتداء المشهد وتشكيلهم -مُراعاةً لمبدأ الأثلاث المعروف-، والثاني هو دور حركة المُمثلين دخولاً وخروجًا من الكادر. وسنجد أكثر من لقطة ابتدائيَّة -خاصَّةً في مكتب المُحامي- بها ممثِّل على أحد جانَبَيْ الكادر والبقيَّة فارغة -مِمَّا يُشعر المُشاهد أنْ شيئًا خاطئًا في الأمر- حتى يدخل المُمثِّل الآخر ليملأ فراغ الكادر ويَزِنَه -أيْ يصنع توازنًا-. ويتبيَّن لنا فائدة هذه الحَرَكيَّة إذا علمنا أنَّ المُمثِّل الذي يملأ الكادر يضيف جديدًا من المعاني، أو يفرض حلًّا كان غائبًا. كلُّ هذا أضفى ثراءً ومعنى على الصورة السينمائيَّة.
ثمَّ يبرز استخدام المُخرج لحَرَكيَّة الكاميرا بعد استخدامه لحركيَّة المُمثِّل. فقد أكثر المخرج من حركة الكاميرا حركات قد لا تكون خاطفة أو سريعة بل بطيئة ومُتوازنة لدرجة لا يشعر بها المُشاهد أنَّ أداة التصوير تتحرَّك، لكنَّها تضيف الكثير من التنوُّع أو الإضافة المعنويَّة للصورة السينمائيَّة. ثمَّ يبرز استخدام المُخرج لزوايا التصوير حيث استخدم الزَّاويتَيْن العُلويَّة والسُّفليَّة في تكثيف المعنى الذي يدور أو في توضيح موقف العُلُو من جانب شخصيَّة “عبد القادر” وهو في بيت “إحسان” المُتواضع.
ثمَّ يبرز دور الإضاءة وألوانها في كثير من المشاهد خاصَّةً التي بين شخصيَّتَيْ “عبد القادر” و”زهيرة”. وهناك مشهدان من ألمع ما يمكن في استخدام الإضاءة وكذلك في استخدام الكاميرا هُما مشهد الرقص بين الشخصيَّتَيْن السالفتَيْن، ومشهد نظر “عبد القادر” للطفل وهو نائم في سريره وأثناء الحوار الداخليّ في عقل “عبد القادر”.
يضيف إلى السابق رُوحًا تلك الموسيقى التي بثَّها -ولا أقول ألَّفها- “عمَّار الشريعي” في جسد الفيلم كلّه. الأمر هنا لا يقتصر على موسيقى شارة البداية التي تُشعرك بالحنين إلى أبعد حدٍّ، وتملأ قلبك بالمعاني من قبل أنْ تبدأ المعاني الفيلميَّة. بل الأمر يتعدَّى شارة البداية ويتسرَّب إلى مفاصل الفيلم كلّه؛ خاصَّةً لحظات الصدمة، ولحظات الكشف.
مَن أقاموا كلّ هذه العناصر، أو مَن قامتْ بهم وفيهم تلك العناصر هم مُمثِّلو الفيلم الذين كانوا على درجة من اللياقة التمثيليَّة لا تأتي إلا من خلال التفهُّم الكامل والتشرُّب الخالص لأبعاد شخصيَّاتهم وحدودها الماديَّة والمعنويَّة. تشعر من مجموع المُمثلين بكامل جرعة التأثير الدراميّ التي أرادها لك الفيلم منذ بدايته إلى نهايته. وهذا يدلُّ على اختيار صائب وعلى جُهد مُراقبة وتعديل -من المُخرج أو من ذواتهم-، ويدلُّ على انسجام الحالة التمثيليَّة بينهم جميعًا. لا دور -أساسيّ أو ثانويّ- لمْ يقُم بما عليه وزيادة، حتى ليصيبك العَجَب من أداء بعضهم البارع وهُم في غيره من الأفلام لا يُقدِّمون هذه البراعة. وباختصار الكلُّ كان يُمثِّل وهو يشعر أنَّه يُمثِّل مأساة حقيقيَّة على المسرح اليونانيّ. ولو هذه الرُّوح المسرحيَّة المُصاحبة قد أتتْ من قوَّة الدراما الفيلميَّة وعُمقها البالغ.
وقد يُلاحظ المُشاهد أنَّ بعض المُمثلين -مثل الأستاذة “شهيرة”- قد تميَّز بروح المسرح وآليَّات أدائه أكثر من اللازم، بل بما قد يُلائم الرُّوح الفيلميَّة. مثل هذه الأداءات قامت بها “يسرا” في مشاهد النهاية لكنَّها كانت في موضعها مُتلائمة مع روح المَشاهد وطبيعتها. أمَّا أفضل مَن يستحقُّ الإشادة فهو السيد الأستاذ “محمود ياسين” بالقطع؛ ومشاهد الكشف تكشف عن قدراته التمثيليَّة التي تنتمي إلى الطراز الرفيع. وانظر له ذاهلاً في مشاهد ما بعد الكشف لتراه وكأنَّه شابَ -فعل ماضٍ من يَشيب- حقًّا من هَوْل ما وقع له. غير هيبته الابتدائيَّة وسطوته واستيلائه على الصورة.
إنَّ “الجلسة سريَّة” أحد أفضل الأفلام العربيَّة على وجه الإطلاق؛ هذا التقدير لا يمتُّ للمُبالغة بأيَّة صِلة. فأنْ نرى فيلمًا هو عمل فنيّ بحقّ، يمتلك دراما ذات عُنفوان، وذات طرح لأبعاد عن القدر ودور المُصادفة -أو التي تُسمَّى كذلك- في حياة الإنسان، وعن أمور أخلاقيَّة هي في المقام الأوَّل تنظير أخلاقيّ؛ أنْ نرى فيلمًا كهذا مع تقنيات تنفيذ عديدة ومع رهان على الكسب الماديّ أو مردود الفيلم في السوق ليجعلنا نحترم كلّ الاحترام هذه الثُلَّة الفنيَّة التي اجتمعتْ لتُقدِّم لنا فيلمًا من المُمكن أن نطلق عليه -كما كانوا يطلقون في عقود سابقة- “فخر الدراما المصريَّة”.