التصوف العصري بوصفه تفاهةً مقدسةً في “آخر المعجزات “

على خلفية منعهِ من العرض العام السابق، عُرض فيلم “آخر المعجزات” لمخرجه عبد الوهاب شوقي ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومعه ما يكفي من الجدل حوله ليجعلَهُ محط أنظار محبي السينما لا سيما المستقلةَ، وذلك قبل الحديث عن جودته الفنية التي من المفترض أن تكون العامل الأوحد في تقييمه. ولعل ذلك جعل الفيلم يكتسبُ تعاطف الجمهور قبل عرضه من جهة، ويتحملُ عبء التوقعات المرتفعة والفضول الإنساني قبل الفني من جهة أخرى.

الفيلم مستوحى من قصة نجيب محفوظ القصيرة “معجزة” ضمن مجموعته القصصية “خمارة القط الأسود”، الأمر الذي يجعل قراء القصة يَضَعُونَها في خلفية أذهانهم بشكل واعٍ أو غير واعٍ أثناء المشاهدة، وعقدُ مقارنة بريئة بعد المشاهدة لا يكون غرضها تصيد الاختلاف بين الفيلم والقصة – إذ إنَّ الاختلاف قد يكون ضرورياً أحياناً – ولكن تَأَمُّلُ ما استطاعَ الفيلم أن يلتقطه بالكاميرا ويعرضه على الشاشة من عالم القصة المكتوبة على الورق. وهي مقارنة أظن أن من المُتَوَقَّعٌ حدوثُها لدى صُنَّاعِ الفيلم بشرطين بسيطين: أولهما ألّا تكون مُبَالَغَةً تجعل من القصة قيداً من الكلمات تُكَبِّلُ خيال الصورة. وثانيا، ألّا تهرب الكاميرا بعيداً حتى تبتعد عن روح/ فكرة/ فلسفة العمل الأدبي المستوحى. وإلّا فَلِمَاذَا لَجَأْتَ إليه من البداية؟

في قصة محفوظ يجلس البطل في حانة وحدَهُ يشرب النبيذ، ثم وبدافع العبث البريء غيرِ المضرّ، ونتيجة شعوره بالضجر وبداية سُكره يقرر أن يعبث مع الجرسون ويسأله عن شخصية وهمية لا وجود لها تُدعى “محمد شيخون الماوردي”، مستفسراً إن كان هنا، فهو يريده في أمر هام. وعندما يخبره الجرسون أنهُ لا يعرف أحداً بهذا الاسم، وكذلك صاحب الحانة نفسه، تمر لحظات، ومن بعدها تأتي مكالمة يطلب فيها رجل آخر محمد شيخون الماوردي.

يُصعَقُ البطل، ويكون لدهشته تلك مُبَرِّرٌ؛ فما حدث للتو بين جدران الحانة دون أن يلاحظه أحد أمرٌ أقرب إلى المستحيل، فهذه الشخصية اختلقها اختلاقاً الآن فقط، وبالتالي فعقله لا يسمي ما حدث إلا معجزةً، بل ويرى في نفسه الآن ما يستحق أن يتجاوزَ الاحترامَ ليقفَ على حدود القداسة، ولا يهم أنهُ في حانة، ولا يهم إن كانت معجزته لم يلاحظها سواه، فهذه تفاصيل لن تنتقص أبداً من الواقعة.

فجأة وبلا تدبر، يقرر أن يختبر قدرته الوليدة مرة أخرى عندما يسأل الجرسون عن رجل آخر يُدعى “زيد زيدان زيدون”، وتتكرر المعجزة، ولكن هذه المرة عندما يتصل زيد زيدون المزعوم بنفسه بالحانة ويطلب محادثة البطل؛ لأن الأخير سأل عنه للتو. هذه الدهشة الثانية من البطل المحفوظي هي النقطة التي يبدأ من عندها سيناريو الفيلم مباشرة، بالإضافة إلى ما قام به من تغييرـ إذ يبدأ بمشهد قصير كمقدمة تشويقية قبل ظهور اسم الفيلم بتلقّي البطل يحيى مكالمة عندما يخبره الجرسون بأنَّ هناك رجلاً اسمه مأمون يريد محادثته، فيما لا ندري هوية المتصل أو سبب تَفَاجُؤِ يحيى الشديد بهذا الاتصال، فضلاً عن إنهائِه سريعاً دون كلام تقريباً.

هذه البداية الغامضة المقتضبة تجعلنا ببساطة نتساءَلُ عن تفسيرها عوضاً عن أن نندهش لحدوثها، وهو بالضبط ما يُعَدُّ الفرقَ الجوهري بين دهشة حدوث المعجزة في القصة وغموض حدوثها في السيناريو؛ فقد تخلى صُنَّاعُ الفيلم طواعيةً عن البداية المثيرة، ليستبدلوها بأخرى غامضة لا تثير الفضول كالأولى.

 وعليه لا ننتظر كثيراً حتى نفهم أنَّ يحيى صحفي، وقد أخطأ في كتابة اسم شيخ صوفي تُوُفِّيَ؛ فبدلاً من كتابة مأمون كتب ينعيه في الجريدة ميمون، وبذلك تتكشف لنا المعجزة بأثر رجعي، مما يُفْقِدُ متعة مشاهدتها واستشعار هيبتها في حينها قبل أن تتكشف الحقيقة، وهو ما يُعَدُّ في تقديري العيبَ الأبرزَ في السيناريو، لا لضرورة الْتِزَامِ الأخير بالقصة كما هي، ولكن لعدم استثمار العتبة الأولى للقصة التي تُعتبَرُ أفضل مدخل مشوق لعالمها.

قبع البطل المحفوظي في بيته يقرأ ويقرأ وسط لوم زوجهِ وتَرَدِّي حياته، دون أن يحركه شيء سوى البحث عن تفسير للواقعة، وهو لن يرضى بأقل من “تفسيرٍ خليقٍ بأن يرفعهُ درجات، بأن يغيرَ وجه حياته، بأن ينتشلَهُ من هموم الحياة ومآزقها”. فيما ارتمى يحيى في نعيم الطريقة الأحمدية وسط مُريدي الشيخ مأمون، تلبيةً لنداء الهاتف، مُنتشياً بكونه المختار، وباعتبارهِ مشروع وليٍّ، مُتَلَقِّفاً ما رماه عليه القدر من هدية ثمينة.

وانطلاقاً من كلام شيخ الطريقة له في القصة: “إنَّ من يُوهَبْ كنزاً فعليه أنْ يستثمرَهُ لخير الناس ولخيره”، نستطيع أن نفسر رحلة البطل ساعياً فيما يتجاوز ذاته، أو ما يظنه هو ذلك، سواء في الرحلة الداخلية المتمثلة في القراءة والعزلة عند محفوظ، أو اتباع الطريقة الأحمدية وممارسة طقوسها مع المريدين كجماعة عند يحيى، وصولاً لعتبة النهاية، عندما تنكشف خدعة مجموعة السكارى الذين كانوا يجلسون بجوار البطل في الحانة، وقرروا أن يعبثوا معه بمكالمة خادعة لا هدف لها سوى قتل الوقت والعبث. تلك الحقيقة التي يرفض تصديقها البطل لأنها ستنتزع معنى الرحلة برمَّتِه، تقودُ بطل محفوظ ليقتل الرجل بدافع يأسِه، في حين يُسقَطُ بطل شوقي مقتولاً بعد المعركة في النهاية، بعدما تنبأ بموت أحد رواد الحانة، لتتحققَ معجزته الأولى والأخيرة على حساب دمه هو ذاته.

يُعَدُّ الإخراجُ والتصويرُ أفضلَ عناصر الفيلم، فعلى ضوء القاعدة الكلاسيكية للسينما “Show Don’t Tell” أي أظهر ولا تروي، نرى تَجَلِّيَ الكاميرا في نقل هذا العالم الروحاني، سواء في رحلة البطل الخارجية أو الداخلية. فالخرقة الحمراء للطريقة الأحمدية، وطقس الرقص والعبادات والصلاة والأضرحة كلها مفردات بصرية تغري الكاميرا، ولعل ذلك هو السبب الأهم في استبدالها بعزلة بطل محفوظ، وهو استبدال مُوَفَّقٌ، بل ومطلوب.

حركة الكاميرا في أغلبِ أوقاتها ثابتةٌ، تاركةً لجمال التكوين إيصالَ المعنى وخلق الجمال، مع ميل واضح لتكوينات يغلب عليها طابع التَّمَاثُل (السيمترية)، فيما تتحرك الشُّخُوصُ بين معالم القاهرة الفاطمية حول الأضرحة وداخل المساجد كأجساد صغيرة وسط أبنية تقترب من الضخامة، غير متسلحة سوى بقوة الإيمان والتسامي الروحي المنشود. ت

ُعَبِّرُ الكاميرا عن ذلك من خلال عدسات واسعة تتعمد إظهار الأبنية وكأنها البطل الرئيسي والهدف المرجو من رحلة البطل. وذلك التناقض في الأحجام وهذا الهدوء في حركة الكاميرا يُفضي للمتفرج مهابة المعنى الكامن خلف الأبنية، جاعلاً إياها رمزاً أكبر من مجرد معالم معمارية أثرية.

هناك قاعدة جوهرية أخرى في الإخراج، وهي إقصاء الأساليب غيرِ المرجو استخدامُها قبل الاستقرار على تلك التي سوف تُستخدم. ويبدو أن المخرج عبد الوهاب شوقي كان مُصِرّاً على عدم استخدام أي سرد سوى البصري في حكي القصة. وتجلى ذلك عندما تنبأ يحيى في نهاية الأحداث بموت أحد رواد الحانة عندما شاهد جنازةً يقوم بها النمل على الأرض، ناقلاً بكادر واحد ما قد يكلفه عدة جمل، ولذلك كان الحوار طوال أحداث الفيلم مقتضباً قصيراً لا يزاحم السرد البصري إلا قليلاً.

كذلك في تكملة معادلة الواحد زائد الواحد التي قامت بها السيدة في المسجد، عندما جاءت تطلب مشورة الشيخ يحيى في حل مشكلة موت أبنائها كلما حملت؛ ففي صمت ودون كلام تأخذُ حجراً صغيراً وتقوم بتكملة المعادلة الصوفية المنقوشة على الجدار، كما لو أنها جاءت لتُجيبَ لا لتسألَ. وكونُها التجربة الإخراجية الأولى لعبد الوهاب، فهي تُعَدُّ إنجازاً سينمائياً مهماً يعكس وعياً كبيراً بمفردات السينما كفن يهضم كل الفنون ولكن على طريقته.

يقول الإمام الصوفي عبد القادر الجيلاني في نصه البديع غوثية: “فقلتُ: يا رب كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات وخمود النفس عن الشهوات، وخمود القلب عن الخطرات، وخمود الروح عن اللحظات، وفناء ذاتك في الذات.”

وعلى ضوء هذه المعاني العميقة، نستطيع أن نتبين مدى تباينها عن رحلة يحيى الذي يظن في نفسه مُريداً حقيقياً. فالصوفية باعتبارها صفاءً للنفس تأخذ رحلتها ابتداءً من الأرض، ناشدةً الوصول لله، لا بالمعنى الفلسفي فحسب، ولكن بالحسي أيضاً. وهي التجربة النادرة بألف ولام التعريف التي تحدث لعدد نادر من البشر حتى تفنى الذات البشرية في ذات الله.

وتعبر الصوفية عن هذا المعنى من خلال معادلة تتحدى القوانين المنطقية الأرضية قائلةً إنَّ واحد زائد واحد تساوي واحد. وهي المعادلة السابق ذكرها التي نراها منقوشة على أحد الجدران. وعليه، ما يجعل للفيلم توتره الخاص هو وقوفه على حواف الجادِّ والهزلي، الواقعيِّ والعبثي، المدنَّسِ والمقدس، في نفس الوقت، تاركاً لبطله وهم حرية الدخول لجنَّة صفاء الصوفية من رحم دَنَسِ الحانة والسكارى ليَصِلَ بقلبه وعقله – من خلال رحلته القصيرة – إلى حدود تفرده المزعومة ثم تفاهته المؤكدة، تاركاً إياه غارقاً بدمه بعدما فنى لا في ذات الله، بل في ذاته هو، نتيجة معركة مع سكارى عابثين كما كان حاله. وكأنه بناء دائري ينتهي من نقطة بدايته، وكأنه قديس يلائم عصره؛ حيث التفاهة تأخذ أشكالها في جميع مناحي الحياة، حتى التصوف الذي بات مجرد فولكلور شعبي تَمَسَّكَ بكل ما هو ظاهر وتجاهل كل ما هو باطن، وهو عكس جوهر الصوفية ذاته.

لا يقدم الفيلم سردية تتحدى تفاهة المظاهر بقدر ما يوحي بأنها الملاذ الوحيد لقداسة متوهمة. وما يجعل من الصحفي يحيى أضحوكةً هو أنه ببساطة سعى خلف كل ما يمثل تناقضاً لما ادَّعى أنه يشعر به. والدليل هو ما يقدمه بنفسه برفضِهِ حقيقة الخدعة التي وقع فيها، وكأنه يريد معجزة حقيقية ليتقرَّبَ بها من الله، ولِيَلِجَ عالم التصوف بحجة لا تقاوم.

من أدبيات الصوفية نقرأ عند الشيخ إبراهيم الدسوقي: “فبالله إذا سألتم عن شيء من مقامات الطريق، فلا تجيبوا إلا بعد التحقق به، فإنَّهُ ينادي يوم القيامة: هذا جزاء الذي قنع بالقشور في دار الغرور.” لذلك لا يُعَدُّ الموتُ بفعل القتل في النهاية ميلودراما مبتذلة، بقدر ما هي نتيجة متوقعة لزعزعة وهم القداسة وجزاء لمن اقتنع بالقشور وأغراهُ الغرور.

Visited 19 times, 1 visit(s) today